من الأهداف التي يرغب في الوصول إليها الحداثيون العرب استنساخ ما مرت به أوروبا ونقله إلى الأمة الإسلامية، فيقيسون أوضاع أمتنا حاليا على أوضاع عرفتها أوروبا سابقا، وبالضبط في القرون الوسطى، ويحكمون على حالتنا الآن بأنها "قروسطية"، ثم يقررون ألا حل أمامنا للخروج مما نحن فيه إلا في ركوب سننهم حذو القذة بالقذة، أي في النهضة، ثم الإصلاح الديني، ثم التنوير، ثم الحداثة! وبصرف النظر عن ضيق هذه الرؤية وتعسفها، لأنها ترفع من التجربة الأوروبية وتمجدها، وتجعلها المعيار الوحيد للتشخيص والحل الفريد للعلاج، فإننا سنقف وقفة يسيرة مع دعوى تشابه الحالتين من الناحية الدينية. فمن مزاعمهم أن الدين يحتاج إلى تجديد وإصلاح، ويطالبون بإعادة النظر في مجموعة من الأحكام، في الأصول والفروع، على غرار ما فعله القسيس والراهب الألماني مارتن لوثر (1483- 1546). وللوصول إلى مبتغاهم فإنهم يحاولون تصوير حالتنا كالحالة التي عاصرها مارتن لوثر، ويروجون خطابات مفادها أن النصوص الشرعية استولى عليها "رجال الدين"، وتعالوا بها على الناس كما فعل القساوسة الكاثوليك، فوجب إذن تغيير هذا الواقع ! ولا يشك من كان له مسكة عقل أن الحالتين مختلفتان تماما، وأن قياس حالتنا على حالتهم فاسد حتى النخاع! فأول شيء عابه مارتن لوثر واستنكره هو ما كان يعرف بصكوك الغفران، وهي حصول المذنب على المغفرة مقابل مبلغ مادي يؤديه للكنيسة، كما انتقد العقوبات المادية التي تبقى مفروضة على أهل الميت الذي مات مذنبا، وكتب مارتن لوثر في ذلك خمسة وتسعين طلبا إصلاحيا! فأين هذه الصكوك في شريعتنا ؟ وأين هذه العقوبات المادية المفروضة على الأموات؟ وأما دعوى استيلاء "رجال الدين" المسلمين على النصوص الشرعية والتعالي بها على الناس كما فعل الرهبان والقساوسة فظاهرة البطلان، هذا مع التحفظ من لفظة "رجال الدين" التي إن سلمنا بها فبحملها على أنهم علماء الشريعة. نعم، كانت الحالة في الكنيسة الكاثوليكية تعرف استحواذ القساوسة والرهبان على النصوص الشرعية، بسبب تعقيد التكوين الديني، وعدم إتقان الناس للغة اللاتينية التي كتبت بها النصوص. أما شريعتنا فكلها عربية، سواء نصوص الوحيين أو ما كتبه العلماء في مختلف الفنون، وكل هذا في متناول الجميع ولا أحد يحول دون الوصول إليها وإلى تفاسيرها وشروحها، بل كل مسلم مطالب بأن يقرأ القرآن ويتدبر آياته وبأن يتعلم أحكام دينه. وطبيعي ألا يكون الباب مفتوحا على مصراعيه أمام من هب ودب ليستنبط الأحكام، ولكنه في نفس الوقت غير مغلق، لأن ديننا عِلم كسائر العلوم، ولكل علم أصوله وقواعده وآدابه، فيكفي من أراد استنباط أحكامه أن يأتي من الباب، بأن يضبط أولا هذه الأصول والقواعد والآداب. فالإسلام لا يقوم على نظام كهنوتي، ولا غموض في أحكامه، ولا احتكار لمفاهيمه. على أن كتب الكنيسة الكاثوليكية قد طالتها أيادي العابثين والمحرفين، فاختلط الهدى بالضلال، والتبس الحق بالباطل، وأما القرآن الكريم فقد تولى الله تعالى حفظه بمشيئته، وقيض علماء للذب عن سنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد وضعوا علما لا زال أعداؤهم يشهدون لهم بالتميز به والعبقرية فيه، وأعني علم الحديث رواية ودراية. ثم إن الحقبة التي عاش فيها مارتن لوثر تسلطت فيها الكنيسة على الناس، وسيطرت على الموارد والمصادر، وتحكمت في العلم، في حين إن حالتنا مختلفة تماما، فالشريعة قد تم تعطيلها إلا في بعض الأحكام الجزئية، وهمشت السلطة الدينية في التشريع والتنفيذ والقضاء، ولا يتصرف العلماء في أموال الناس، وأما العلم فلم يحجر عليه الدين الإسلامي أبدا، بل بالعكس، فديننا يشجع على تحصيل مختلف العلوم الدينية والدنيوية، وقد كانت الأمة الإسلامية سباقة ورائدة في عدة مجالات، وأثرها على الحضارة الغربية لا ينكره إلا جاحد مكابر. وأختم بالإشارة إلى أمر في غاية الخطورة، وهو أن من دعوات هؤلاء الحداثيين العرب المنبثقة عن تجربة مارتن لوثر أن لكل شخص الحق في تفسير النص الديني، ولا يخفى ما سيترتب عن هذه الدعوة من فساد عريض واضطرابات في الفهم والتأويل، وقد اصطلينا بنار من تجاسر على النصوص وفسرها وعمل بمقتضى تفسيره، فأفسد وخرب، على الرغم من وجود سياج من حراس الشريعة، فكيف إذا أزلنا رأسا هذا السياج ؟! أفليس منهم رجل رشيد ؟!