لا تكُنْ ممن يُفرِط في الثَّرثرة وتقديم الوعود الزَّائفة، فمن أكثر من شيء عُرِفَ واشتهر به، وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ".. ولأن أغلب من يهْذي بالكلام قَلَّما يطبِّق أو يحوِّل أقواله إلى سلوك ومعاملات؛ ولأن المتكلِّم لا يكون أَوْرَع من الصَّامت لانشغاله بالمبنى عن المعنى، إلَّا من كان عالما عاملا، ومتكلِّما يجيد ترتيب الكلام كما الأفعال بحسب ما يناسب مقامها ويختصُّ بوظيفتها، فلكلِّ مقام مقال وفعل، لهذا ينبغي على العاقل أن يضع كلاًّ منهما في مَواضِعِه، وفيما ينتفع به مِنْ موعظة أو تنبيه، أو تخويف أو تحذير.. وما أحسن ما روي عن سَهْل بن عبد الله أنه قال: "أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ سَكَتُوا بِعِلْمٍ، وَتَكَلَّمُوا بِإِذْنٍ، فَسَقَطَ عَنْهُمْ فُضُولُ الْكَلَام". وعن أَرْطَأَة بن المنذر قال: "آيَةُ الْمُتَكَلِّفِ ثَلَاثٌ: يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْلَمُ، وَيُنَازِعُ مَنْ فَوْقَهُ، وَيَتَعَاطَى مَا لَا يَنَالُ". وعن عمرو بن العاص قال: "إِنَّ الْكَلَامَ إِذَا كَثُرَ، فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعُطَاسِ لَا يَدْرِي انْتَهَتْ أَوَّلُهُ أَوْ آخِرُه". وعن عمر بن عبد العزيز قال: "مَنْ لَمْ يَعُدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ كَثُرَتْ خَطَايَاهُ، وَمَنْ عَمِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ". وعلى العاقل أن يجتهد ويعمل في صمت، ويكُفَّ لسانه عن فضول الكلام، ويقبِل على شأنه وسعيه، ويضبط منطقه ومقاله، ويحرص على أن لا يُسْمَع منه كلمة تُعاب، ولْيَنظُر ماذا يقول ويفعل، ويجعل مواقفه هي الأقوال والأفعال، تتحدَّث عنه بخير، وعن أخبار استقامته وصلاحه، وتصف حسن التزامه وتديُّنه، واتِّباعه واهتدائه للصواب والحق، وأن يجعل أخلاقه وسيرته الحسنة تتقدَّم أقواله؛ فالأفعال الصالحة أبلغ من الكلام البديع الموزون، والمقال الآسِر للوجدان والقلب، وهو فارغ من لبِّه وثمرته، ومحتواه النَّافع، وأثره الطيب.. وعن أبي ثعلبه الخشني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ أحَبَّكم إليَّ وأقرَبَكم منِّي في الآخرةِ أحاسِنُكم أخلاقًا وإنَّ أبغَضَكم إليَّ وأبعَدَكم منِّي في الآخرةِ أسوَؤُكم أخلاقًا المُتشدِّقونَ المُتفيهقونَ الثَّرثارونَ). وروي عن الْقَعْنَبِي، فيما قرأَ على مالك، أَنَّه بلَغَه: أَنَّ القاسمَ بن مُحَمَّد كان يقول: "أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَمَا يُعْجَبُونَ بِالْقَوْلِ "، قَالَ مَالِكٌ: " يُرِيدُ الْعَمَلَ، إِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى عَمَلِهِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى قَوْلِهِ". وعن الفُضَيل بن عياض قال: "الْمُؤْمِنُ قَلِيلُ الْكَلَامِ، كَثِيرُ الْعَمَلِ، وَالْمُنَافِقُ كَثِيرُ الْكَلَامِ، قَلِيلُ الْعَمَل". وعن عبد الله بن أبي جَعْفَر، عن أبي جِلْدَة قال: "أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَهُمْ يَعْمَلُونَ وَلَا يَقُولُونَ، وَهُمُ الْيَوْمَ يَقُولُونَ وَلَا يَعْمَلُونَ". وعن أبي عبد الرَّحِمن السُّلَمي، قال: سمعت أبا بكر الرَّازي يقول: سمعت أبا عليٍّ الرُّوذْبارِي يقول: "فَضْلُ الْمَقَالِ عَلَى الْفِعَالِ مَنْقَصَةٌ، وَفَضْلُ الْفِعَالِ عَلَى الْمَقَالِ مَكْرُمَةٌ".