الإباحة الصريحة من السنة الصحيحة احتججنا في الجزء الثاني من المقال بالقرآن المحكم، حيث نبهنا الباحثين المنصفين إلى أن آية النساء: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة)، نزلت لتشريع زواج المتعة عند الجمهور بدليل القراءة التفسيرية الصحيحة (إلى أجل مسمى) المروية عن أبي بن كعب وعبد الله بن عباس وسائر قراء التابعين. ولا نزال ننتظر من يثبت بالدليل الشرعي، لا بأقوال غير الصحابة، أن الآية لم تنزل في المتعة. وبالنسبة لمن يعترفون بنزولها في المتعة، فإننا نتشوف إلى دليلهم الصالح لنسخ حكمها، غير الآيات المكية النازلة قبلها، أو الأحاديث الآحادية المتقدمة في الورود عليها. وبخصوص مواضع التحدي، فأنا الحقير مصر عليها، خصوصا مسألة صحبة سبرة الجهني، راوي التحريم يوم الفتح، بالطرق المقررة عند العلماء، وهي: تواتر صحبة الرجل، أوشهرته بها بين التابعين، أو شهادة صحابي له بالصحبة، أو رواية تابعين ثقتين عنه ما يفيد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به. وأصرخ عاليا حتى يثبت النقيض: سبرة بن معبد لم يثبت له ذكر في الصحابة بسند صحيح أو حسن، ولم يرو عنه إلا ابنه الربيع الكذاب أو المجنون. أقول هذا وأنا أعلم أن بعض الأئمة يوثقون الربيع، أقدمهم الإمام العجلي، الذي بينه وبين الربيع أكثر من مئة عام، فكيف عرفه العجلي ومن بعده؟ بينما كان عصريه الإمام الزهري يجهله، فإنه روى حديثه في المتعة، وقال في طريق صحيح إليه لما سأله أحد المتشككين في القصة: حدثني رجل يقال له ربيع بن سبرة ه أي أن الزهري لم يكن يعرف حال الربيع وأصله. أما دعوى معرفة حال الربيع من خلال استقراء مروياته، فقد فحصناها بحمد الله، فوجدناه سراقا كذابا يسطو على مرويات الناس ثم يرويها عن أبيه مستغلا موته، كما وجدناه معتوها يروي المناكير التي تمجها العقول السليمة، وقصته في المتعة في المقدمة. ومن شك أو كذب، فليدرس مرويات الربيع بعيدا عن التهيب من توثيق الأئمة، فإنهم بشر من لحم ودم، وما كانت ظروفهم تسعفهم لدراسة أحوال كل الرواة قبل ترجمتهم في كتبهم. ولو أن الإمام العجلي فحص مرويات كل الرواة الذين ترجمهم في ثقاته، البالغين 2366 رجلا، لما أتمهم طول عمره، فالتحقيق في الراوي الواحد قد يستغرق أكثر من شهر، وهي حقيقة لا يدركها إلا المشتغلون في علوم الرجال الصابرون، أما نقل أقوال الأئمة مقرونة بالتسليم، كأنها قرآن منزل، فيحسنه كل من هب ودب على الأديم. وبعد، فما هي الأدلة الحديثية على استمرار إباحة المتعة وعدم نسخها؟ الدليل الأول: ترخيص النبي في الاستمتاع بعد الفتح وحنين: احتج جمهور علمائنا على نسخ متعة النساء بحديث مولانا علي في النهي عنها يوم خيبر، ثم ناقضوا أنفسهم فزعموا أنها أبيحت بعد ذلك يوم فتح مكة بحديث سبرة الجهني المتهالك عندنا الصحيح عندهم. وقالوا: الترخيص في المتعة يوم الفتح ناسخ للتحريم يوم خيبر، فيكون الاحتجاج بحديث خيبر المنسوخ بحديث الفتح على قولهم، عين الدجل والتلاعب بشريعة الله. إذ ما وجه الاستدلال به إذا كان منسوخا بالترخيص يوم الفتح؟ أليس هذا تناقضا فاحشا أو تلاعبا يمليه فقدان الحجة العلمية؟ لقد وضع مصححو حديث سبرة، "الصحابي" المفترض، أنفسهم في مأزق شديد، حيث ينقض احتجاجهم بحديث خيبر الصحيح لتقدمه تاريخيا. ولو أقروا بضعفه، لهان الخطب عليهم، لكنهم لا يجدون أصرح منه في إفادة التحريم المزعوم، لذلك يغمضون أعينهم عن الحقيقة ويتحاشون البحث الجدي في سنده ومتنه متسترين بكونه مخرجا في صحيح مسلم، دون التفات إلى كونه في الشواهد لا الأصول، ودون رعاية لتضعيفه من قبل الأئمة الفحول. وقد أدرك الإمام الشافعي ذلك المأزق، فاكتفى بدعوى التحريم يوم خيبر، وضعف حديث سبرة خلافا للمتعصبين، فقال رحمه الله كما في "تحريم المتعة" لابن أبي حافظ: الْحَدِيثُ عَامَ الْفَتْحِ فِي النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ عَلَى الْأَبَدِ، أَبْيَنُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِذَا لَمْ يَثْبُتْ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ بِالْإِرْخَاصِ فِي الْمُتْعَةِ، وَهِيَ مَنْهِيٌ عَنْهَا كَمَا رَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ عِنْدَنَا عَلَى التَّحْرِيمِ، إِلَّا أَنْ تَأَتِيَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ اخْتِيَارٌ لَا تَحْرِيمٌ. ه إن المصرين على تصحيح قصة سبرة المنكرة، متناقضون متلونون، لا يستقرون على قول كالمجنون، ولقواعدهم النظرية لا يحترمون، فيحتجون بالمنسوخ (حديث خيبر) وناسخه (حديث الفتح) دون خجل لأنهم لا يعقلون. يصنعون هذا بسبب وجود الحديث في صحيح مسلم، الذي هو عمل فرد واحد معرض للخطأ والهوى بالإجماع، ثم يرفضون قراءة صحابيين قارئين حجتين، فما هذا العار؟ أرواية آحادية مشكوك في صحتها أحق بالاتباع أم القراءة التفسيرية الصحيحة؟ وإذا سلمنا أن نهي خيبر صريح في التحريم، وأن حديث سبرة صحيح غير سقيم، فهما منسوخان بآية النساء الصريحة في المتعة، لأنها نزلت بعد فتح مكة. وإذا رفضتم دليل الآية الأوضح، فالنهي في خيبر والتحريم يوم الفتح، منسوخان بالأحاديث الصحيحة عند جميع الكرام، المصرحة باستمتاع الصحابة بعد الفتح بإذن من عليه الصلاة والسلام. وهي أحاديث صريحة يتحاشاها المتعصبون، ويتمحل في تحريفها المتصلبون، إلى حد الحمق والجنون. فما هي الأحاديث الناسخة لحديثي خيبر والفتح على فرض تحريم الأول وصحة الثاني؟ أولا: أحاديث الاستمتاع أيام حنين: روى البخاري في الصحيح من طريق مولانا الحسن بن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع قالا: كنا في جيش، فأتانا رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: إنه قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا. ثم قال البخاري: وقال ابن أبي ذئب: حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال، فإن أحبا أن يتزايدا أويتتاركا تتاركا)، فما أدري أشيء كان لنا خاصة أم للناس عامة. قال أبو عبد الله (أي البخاري): وبينه علي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه منسوخ. ه وفي صحيح: عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهما قالا: خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لكم أن تستمتعوا، يعني متعة النساء. قال الحافظ في فتح الباري: قَوْله (كُنَّا فِي جَيْش) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِهِ، لَكِنْ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعُمَيْسِ عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَخَّصَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ أَوْطَاسَ فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثًا ثُمَّ نَهَى عَنْهَا. تَنْبِيهٌ: ضبط "جَيْشٌ" فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، وَحَكَى الْكِرْمَانِي أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ "حُنَيْنٌ" بِالْمُهْمَلَةِ وَنُونَيْنِ بِاسْمِ مَكَانِ الْوَقْعَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ. ه قال الأنجري: هو عند ابن أبي الحافظ في "تحريم نكاح المتعة" من طريق صحيح إلى البخاري بإسناده عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، قَالَا: كُنَّا فِي حُنَيْنٍ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ أذِنَ لَكُمْ أَنِ اسْتَمْتِعُوا، فَاسْتَمْتِعُوا". ولعل كلمة "جيش" تحريف لكلمة "حنين" متعمد من نساخ صحيح البخاري حفظا لحديث خيبر، أو هو تصحيف مبرر. وبالجملة، فرواية ابن أبي حافظ تصرح بتاريخ حديث جابر وسلمة فهي العمدة. ويزداد هذا التعيين قوة بما رواه الطبراني بإسناد حسن عن سعيد المقبري أن ابن عباس وعروة بن الزبير اختلفا في المتعة، فقال عروة: هي زنا! وقال ابن عباس: وما يدريك يا عرية! فمر بهما سلمة بن الأكوع، فسأله ابن عباس فقال: غرب بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر، كنت أخرج مع الجيش فأقيم حين يمسون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من شاء فليستمتع من هذه النساء.ه ولم يغرب المسلمون مع النبي هذه المدة أو ما يقاربها إلا بعد الفتح، ثم عام تبوك. ويترجح كون الحديث بعد حنين لا عام تبوك بالرواية التي ساقها ابن حجر مشيرا إلى اعتماده لها في تعيين تاريخ رواية جابر وسلمة، وهي ما أخرجه مسلم من طريق عبد الواحد بن زياد عن أبي العميس عن إياس بن سلمة عن أبيه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا، ثم نهى عنها. فأوطاس شوط أخير من غزوة حنين، فصح التعيين، وثبت بذلك استمتاع الصحابة بعد فتح مكة، فيكون حديث خيبر عن مولانا علي منسوخا لو سلمنا أن النهي فيه تحريمي لا عسكري، ويكون حديث سبرة الجهني لو صح منسوخا لأنه متقدم على حنين. ثم إن اللفظ النبوي الذي علقه البخاري عن ابن أبي ذئب، وأسنده الروياني والطبراني والطحاوي وأبو نعيم وابنُ عبد البر من طرق صحيحة عن الحافظ ابن أبي ذئب، صريح في عدم التحريم بعد انقضاء الأيام الثلاثة التي استمتع خلالها الصحابة يوم أوطاس، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل وامرأة تمتعا ثم تراضيا، فعشرة ما بينهما ثلاثة أيام، فإن أحبا أن يزدادا ازدادا، وإن أحبا أن يتتاركا تتاركا). أي أنه عليه السلام قال لأصحابه ما معناه: أرخص لكم بصفتي قائدا عسكريا في المتعة المشروعة بآية النساء ثلاثة أيام، ثم من أحب أن يزداد عليها ازداد فيصطحب معه زوجة المتعة إلى الديار إن شاء وشاءت، ومن أحب أن يكتفي بثلاثة أيام لتحقيق الإشباع الفطري أو لعدم رغبة المتمتعة في الزيادة، فليتركها ويرحل لنواصل مسيرة الجهاد. وهذا ضربة قاتلة لكل زعم وافتراء على الشريعة، فانقضوا قولنا بالمعقول لا بالبقول! والخلاصة أن الصحابة استمتعوا بإذن من النبي عليه السلام بعد الفتح وحنين، ثم رخص لهم بقرار عسكري تجديد عقد الاستمتاع بعد انتهاء المدة المحددة تنظيما لا تشريعا في ثلاثة أيام. وإذا لم يكن هذا نسخا صريحا لأي نهي سابق على حنين، فليس في الدنيا ناسخ ولا منسوخ، وإنما هو الهوى والجحود الممسوخ. مناقشة اعتراضات المحرمين: الاعتراض الأول: لما وجد العاطفيون حديث جابر وسلمة رضي الله عنهما صخرة تكسر التحريم المزعوم يوم الفتح، تمسكوا بلفظة (ثم نهى عنها)، فاهتبلوا بها وقالوا فرحين: إن حديث سلمة يتضمن الإباحة أياما ثلاثة يعقبها التحريم. ولم ينتبهوا، لأنهم لا يريدون، إلى أن الإذن يوم أوطاس ناسخ للنهي يوم خيبر ويوم الفتح، فيكون الاحتجاج بحديثي مولانا علي وصحابيهم سبرة عبثا ما وراءه عبث. فهم يقرون بالإذن يوم أوطاس، وهو ناقض أو ناسخ لدعوى التحريم يومي خيبر والفتح، ثم يحتجون بحديثي خيبر والفتح المنسوخين! أما تمسكهم بعبارة (ثم نهى عنها)، فالجواب من وجهين: الوجه الأول: لفظة (ثم نهى عنها) زيادة شاذة لا تثبت عن سيدنا سلمة، زادها عبد الواحد بن زياد العبدي سهوا أو سوء فهم لقوله عليه السلام: (أيما رجل وامرأة تمتعا ثم تراضيا، فعشرة ما بينهما ثلاثة أيام، فإن أحبا أن يزدادا ازدادا، وإن أحبا أن يتتاركا تتاركا). فقد اختصر عبد الواحد حديث سلمة، ورواه بالمعنى فأفسده كما حصل لمئات الأحاديث، وخالف ابن أبي ذئب الثقة، كما خالف الحجة مولانا الحسن بن محمد. وعبد الواحد العبدي متكلم في حفظه، فقال ابن معين: ليس بشيء. وقال الطيالسي: عمد عبد الواحد إلى أحاديث كان يرسلها الأعمش فوصلها بقول: حدثنا الأعمش حدثنا مجاهد في كذا وكذا. ولينه ابن القطان. وقال الذهبي في التذكرة: كان عالما صاحب حديث، وله أوهام، لكن حديثه محتج به في الكتب. وقال في الميزان: أحد المشاهير، احتجا به في الصحيحين وتجنبا تلك المناكير التي نقمت عليه.ه قال الأنجري: وجود الزيادة الشاذة في صحيح مسلم تنقض إطلاق قول الذهبي، فمن تكلم فيه النقاد بجرح، ثم شذ وحرف المعنى، لا ينفعه تخريج حديثه المحرف في الصحيحين كما يعلم الذهبي وغيره. وأصل الحديث المروي في الصحيحين قد يكون صحيحا، لكن بعض رواياته قد تكون شاذة كما هو حال حديث: "سبعة يظلهم الله" عند مسلم برواية شاذة مقلوبة بإقرار الحفاظ، حيث جاء فيها: (ورجل تصدق صدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله)، والمحفوظ (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه). فعبارة (ثم نهى عنها) ضعيفة مزيدة من كيس عبد الواحد وسوء فهمه، ولو أنه اكتفى بنقل نص المتن كما قاله مولانا الرسول لكان خيرا له وللمسلمين، فإنه أوصى الرواة برواية أحاديثه كما سمعوها لا كما فهموها، لأنه (رب مبلغ أوعى من سامع). وتقدم أن اللفظ النبوي المروي بدون معنى في حديث جابر وسلمة خال من النهي، بل هو صريح في استمرار مشروعية المتعة، فازددنا يقينا أن عبد الواحد لم يحفظ ولم يفهم جيدا. الوجه الثاني: على فرض كون عبد الواحد حفظ الحديث وفهمه جيدا، فعبارة: "ثم نهى عنها" لا تقتضي النهي التشريعي المحرم، لأنه نهي مجرد عن كل لفظ دال على التحريم، فيكون المعنى: ثم منعنا من الزيادة على ثلاثة أيام لأننا كنا في جهاد، فلا يليق بنا أن نواصل التمتع وننسى مهمتنا العظمى. فالنهي بذلك إداري عسكري لا تشريعي تحريمي. هذا ما بينته الروايات التامة لحديث ابن الأكوع، فوجب الجمع والتوفيق لإمكانه. ويؤكده أن سيدينا سلمة وجابر كانا من جملة الثابتين على إباحة المتعة، وكانا يستدلان باستمتاعهما والصحابة أيام حنين وأوطاس، والراوي أعلم بما روى، أي سلمة وجابر الصحابيان أعلم بمقصود النبي من النهي لو صح. لقد كان جابر وسلمة راويا متعة الصحابة بعد غزوة حنين، ومعهم سيدنا ابن مسعود وسيدنا أبو سعيد الخدري وابن عباس يصرحون كلما سئلوا، أن المتعة لم تحرم، كما سترى قريبا في الروايات الثابتة المخفية، العاصفة بأصحاب الأهواء والعصبية. وإذا كان جابر وسلمة الصحابيان الفقيهان، لم يفهما التحريم من النهي المزعوم يوم أوطاس، فكيف فهمه ابن زياد ثم فقهاء المذاهب؟ إن الذي يقدم فهم عبد الواحد بن زياد ينادي على نفسه بالجنون. الاعتراض الثاني: جاء في تعليق البخاري أن سلمة قال: فما أدري أشيء كان لنا خاصة أم للناس عامة. وتمسك العاطفيون المتعصبون بما نسب إلى سيدنا سلمة من شكه في عموم إباحة المتعة أو اختصاص الصحابة بها، رغم أنهم يقررون أن ما جاز للصحابة جاز لمن بعدهم. ورغم أن هذه الرواية مردودة بالروايات الثابتة عن سلمة بن الأكوع، والتي صرح فيها بأن المتعة مشروعة على الدوام. ثم إنهم لم يتأكدوا من صحة تلك الزيادة، أو تبينوا ضعفها ثم تجاهلوها تعصبا وعنادا. فالحق أن سلمة رضي الله عنه بريء من تلك الرواية الضعيفة الشاذة، والبخاري رحمه الله أوردها معلقة دون إسناد إلى الإمام ابن أبي ذئب، لأنه يعلم ضعفها، وهذا من أسرار تعاليق البخاري، فإنه إذا علق حديثا ولم يخرجه مسندا في موضع آخر من صحيحه، كان ذلك قرينة على شكه في صحة الحديث المعلق أو شكه في جزء منه. ويعرف المختصون أن معلقات البخاري تشمل الضعيف، ولو كانت مصدرة بالجزم كما أوضح ابن حجر في "النكت على ابن الصلاح". وحديث سلمة بن الأكوع صحيح بدون الجزء الموقوف عليه، أي الجملة المتضمنة لتردده، حيث رواه الثقتان أبو عاصم النبيل وحاتم بن إسماعيل عن ابن أبي ذئب بدون تلك الزيادة، وخالفهما محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عند الطحاوي فرواه عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ شَارَطَ امْرَأَةً فَعِشْرَتُهُمَا ثَلَاثُ لَيَالٍ، فَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَتَنَاقَضَا تَنَاقَضَا، وَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَزِيدَا فِي الْأَجَلِ زَادَا"، قَالَ سَلَمَةُ: لَا أَدْرِي أَكَانَتْ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟ وهكذا غير ابن أبي فديك المتن، ثم زاد تلك العبارة الشاذة. وهذه المخالفة غير محتملة ولا مقبولة، حسب قواعد الحديث، من مثل ابن أبي فديك المتكلم في حفظه، فهو محدث كبير، وثقه ابن معين والنسائي، لكن قال ابن حبان في ثقاته: ربما أخطأ. وقال ابن سعد في طبقاته: ليس بحجة. لذلك ترجموه في كتب الضعفاء التي تذكر كل من تكلم فيه بجرح حتى لو كان موثقا. وخلاصة الرجل أنه حسن الحديث ما لم يخالف أو يرو متنا منكرا، وقد شذ هنا وخالف الأوثق والأكثر، فغير المتن وزاد، فهي زيادة ضعيفة لشذوذها لزاما، ثم هي شاذة لمعارضتها موقف سلمة بن الأكوع الثابت على الإباحة كما سيأتي. ولو صحت تلك الزيادة لم تكن حجة، فجابر بن عبد الله وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من الصحابة، لم يترددوا في عموم الإباحة، فتصريحهم مقدم على تردد سلمة لو صح. ويقال أيضا لو صحت: كان سلمة مترددا أول الأمر، ثم ظهر له أن الأحكام الشرعية لا تميز بين الصحابة وغيرهم، فتراجع وصار يفتي بالإباحة المطلقة. بل يقال: العبرة بترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لا بتردد الصحابي وطريقة فهمه إذا خالف النص الشرعي الواضح. وقد أذن الرسول لأصحابه في المتعة بعد حنين وأوطاس، وأبان لهم أن العقد يقبل التجديد، فتقرر أن أي نهي سابق على حنين هو نهي إداري تنظيمي عسكري، وإلا فمنسوخ بما بعده. ولا فكاك من هذين إلا بإثبات التحريم بعد حنين، وهو ما لم يثبت، فاضطر المتعصبون لاختلاق روايات منكرة متنا، ساقطة سندا، تفيد النهي عام تبوك أو حجة الوداع. أي أنهم لما وجدوا نهي خيبر منسوخا بما بعده، اختلقوا حديث سبرة بن معبد المؤرخ بيوم الفتح، ولما وجدوه منقوضا بحديث جابر وسلمة، صنعوا النهي يوم تبوك بأسانيد واهية جدا، ثم تراجعوا خشية الفضيحة فغيروا تاريخ قصة سبرة بن معبد الخيالية، قسما بربي غير حانث، فجعلوا حجة الوداع مكان فتح مكة، وزعموا أن التحريم كان في حجة الوداع، أي في آخر حياة المعصوم عليه السلام. أما المنصفون فلا يحتجون إلا بحديث مولانا علي يوم خيبر، ومنهم الإمام البخاري، فإنه قال بعد تخريج حديث جابر وسلمة: وبينه علي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه منسوخ.ه نأخذ من قول الإمام رحمه الله أنه يضعف أي رواية تفيد التحريم بعد خيبر، لكننا نتعجب كيف يدعي النسخ يوم خيبر، وهو يروي في الباب نفسه حديث جابر وسلمة المتضمن لترخيص النبي عليه السلام في المتعة بعد خيبر، أي في حنين وأوطاس. ألا يدل هذا على أن أئمتنا عاطفيون لا يريدون الاعتراف بالحقيقة؟ وقد كان مولانا البخاري شافعي المذهب، وكان مولانا الشافعي يرى المتعة منسوخة بحديث خيبر، فهل تريد من الأول أن يخالف الثاني؟ وأحلي البخاري والشافعي وغيرهما "بمولانا" صادقا من قلبي والله، فهم سادتنا وأئمتنا مهما خالفناهم، ومن وصفني بالنفاق أو السخرية، فإني أسأل الله أن يبتليه بما يشغله عن الكلام في المسائل العلمية، فإنه ليس أهلا لها. قولوا أيها المنصفون: آمين، فمصيبة أمتنا تتعمق على أيدي المقلدين الطائفيين مقدسي أقوال الرجال، مدنسي كتاب الله وسنة حميد الخصال. الدليل الثاني: حديث ابن مسعود: روى أحمد والبخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لنا نساء فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} وعند البزار بإسناد صحيح: كنا نغزو مع رسول الله، وليس معنا نساء، فاستأذنه بعضنا أن يستخصي أو قال: «لو أذنت لنا لاختصينا، فلم يرخص لنا، ورخص لنا في الاستمتاع بالثوب». وصح في مصنف عبد الرزاق: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتطول غربتنا فقلنا: ألا نستخصي يا رسول الله؟ فنهانا ثم رخص أن نتزوج المرأة إلى أجل بالشيء. واتفق العلماء على دلالة حديث ابن مسعود، لكنهم زعموا أنه كان قبل خيبر أو فتح مكة، رغم أنه غير مؤرخ، ليسهل القول بنسخه بحديث مولانا علي أو حديث سبرة. ولنا عليهم جوابان: الجواب الأول: سيدنا ابن مسعود أعلم منهم بالناسخ والمنسوخ، وقد شهد خيبر والفتح، وكان يحتج بالحديث على مشروعية المتعة وعدم نسخها، ثم يحذر من تحريمها لأنها من الطيبات ويقرأ الآية، فهو ينفي بذلك أي نسخ مزعوم يوم خيبر أو الفتح. قال ابن القيم في زاد المعاد: كان ابن مسعود يرى إباحتها ويقرأ: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} المائدة. ففي الصحيحين عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا نساء فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} المائدة. وقراءة عبد الله هذه الآية عقيب هذا الحديث يحتمل أمرين: أحدهما الرد على من يحرمها وأنها لو لم تكن من الطيبات لما أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني أن يكون أراد آخر هذه الآية، وهو الرد على من أباحها مطلقا وأنه معتد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رخص فيها للضرورة وعند الحاجة في الغزو، وعند عدم النساء وشدة الحاجة إلى المرأة، فمن رخص فيها في الحضر مع كثرة النساء وإمكان النكاح المعتاد فقد اعتدى، والله لا يحب المعتدين. ه قلت: هذا إقرار بأن ابن مسعود رضي الله عنه من جملة الرافضين دعوى نسخ، ولا يتغير الأمر إذا كان الاحتمال الثاني راجحا، لأن غايته أن تكون المتعة عنده مباحة عند الحاجة والضرورة، وفقهاؤنا لا يقولون به. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وظاهر استشهاد ابن مسعود بهذه الآية هنا، يشعر بأنه كان يرى جواز المتعة، فقال القرطبي: لعله لم يكن حينئذ بلغه نسخه، ثم بلغه فرجع بعد. قلت: يؤيده ما ذكره الإسماعيلي أنه وقع في رواية أبي معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد: ففعله ثم ترك ذلك. قال: وفي رواية لابن عيينة عن إسماعيل: ثم جاء تحريمها بعد.ه قلت: زيادتا (ثم ترك ذلك) و (ثم جاء تحريمها بعد) ضعيفتان من جهة السند، فهما منكرتان لمخالفتهما رواية الصحيحين. وابن حجر رحمه الله يعرف ضعفها لكنه يسكت حماية لمذهبه الشافعي. أما القرطبي المحدث، فمقلد لمن سبقه حين يزعم أن سيده ابن مسعود لم يكن يعلم النسخ، ثم هو متكلف عندما يفترض أنه تراجع دون حجة. ولو كان ابن مسعود متفردا بموقفه، لكان للقوم عذر، أما ومعه أمثال جابر وسلمة وابن عباس وغيرهم، فادعاء جهلهم جنون، والجنون فنون. الوجه الثاني: قول ابن مسعود في رواية عبد الرزاق: "فتطول غربتنا"، صريح في أن الإذن كان بعد خيبر والفتح، كيف ذلك؟ لم يطل سفر الصحابة للغزو إلا أيام حنين ثم أيام تبوك، وكلاهما كان بعد الفتح، فالحديث مؤرخ بحنين أو تبوك حتما، والأول مؤيد بحديث جابر وسلمة في الاستمتاع يوم أوطاس. وقوله رضي الله عنه: "كنا نغزو" يشير إلى تعدد الاستمتاع كلما طال السفر، فكأنه يصرح بفعلها عام حنين ثم عام تبوك. وعليه، يكون حديث ابن مسعود ناسخا لكل نهي سابق، لا منسوخا بالقصص الهوليودية السبرية، لذلك كان يفتي بالإباحة ويجرم التحريم. ولسنا من المدلسين الذين يخفون الروايات التي تقوي رأي الخصم، لذلك نذكر هذه الرواية التي قد تعجب المحرمين: روى عبد الرزاق حديث ابن مسعود من طريق ابن عيينة بلفظ: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتطول عزبتنا، فقلنا: ألا نختصي يا رسول الله؟ فنهانا ثم رخص أن نتزوج المرأة إلى أجل بالشيء، ثم نهانا عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية. قلت: خالف عبد الرزاق كل أصحاب سفيان بن عيينة الذين شاركوه في رواية الحديث، ومنهم الأئمة الشافعي والفريابي والحميدي، فإنهم رووه عن سفيان عن إسماعيل عن قيس عن ابن مسعود دون زيادة: "ثم نهانا عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية". كما خالف عبد الرزاق جماعة من الأئمة الأثبات الذين تابعوا سفيان بن عيينة، فرووه عن إسماعيل بدونها. وعبد الرزاق الصنعاني حافظ كبير، لكنه عرف بالوقوع في الأوهام والأخطاء أحيانا. قال عنه البخاري: ما حدث من كتابه فهو أصح. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان: كان ممن يخطىء إذا حدث من حفظه. وقال الحافظ الذهبي: له أوهام مغمورة، وغيره أبرع في الحديث منه. وقال أيضا: عبد الرزاق بن همام إمام له ما ينكر، وفيه تشيع معروف.ه قال الأنجري: هذه الزيادة التي ألحقها بحديث ابن مسعود من جملة أوهامه المغمورة بدليل شذوذها ومخالفته الأوثق والأكثر، ثم معارضتها لمذهب ابن مسعود الثابت. بل الجزء الأول المرفوع ينقضها، فالمتعة حسبه حصلت في سفر طويل، وقبل خيبر لم يسافر الصحابة مع النبي عليه السلام أي سفر طويل للغزو، فأول الحديث ينقض آخره، والأول محفوظ في الصحيحين وغيرهما، والآخر شاذ، فهو ضعيف. فتحصل أن عبد الرزاق لم يضبط هذا الحديث ولم يحفظه جيدا، وأنه اختلط عليه بحديث مولانا علي في النهي عن المتعة والحمر الأهلية يوم خيبر، فعبد الرزاق يرويه في مصنفه. ولو سلمنا صحة تلك الزيادة، فالنهي يوم خيبر ليس تحريميا، ثم هو منسوخ عند الجمهور بالمتعة في الفتح، ومنقوض عندنا بآية المتعة ثم بأحاديث جابر وسلمة وغيرهما. فلا حجة في هذه الرواية سندا ومتنا. وفي حديث ابن مسعود صورة جلية عن بشرية الصحابة وواقعية الشريعة المحمدية، فالصحابة كانوا يشتهون النساء وهم في الجهاد، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يرشدهم إلى إشباع غريزتهم مؤقتا بزواج المتعة، ولم يكن يوصيهم بالعفاف والصوم كما يفعل معقدو الشريعة، لأن العفاف والصوم لا ينصح بهما إلا إذا تعذر الزواج المؤبد أو المؤقت المسمى متعة، فكلاهما نكاح مشروع يشمله قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله). فتأمل كلمة "نكاحا" تجدها نكرة تفيد العموم، أي نكاحا من الأنكحة المشروعة وهما الزواج والاستمتاع. ولو كان الزواج وحده الطريقة الشرعية لاستفراغ الشهوة، لقال الله الحكيم: (وليستعفف الذين لا يجدون النكاح)، فالمعرفة والعهدية تحسم القضية. فتدبر كلام الله الخبير، يتحرر عقلك الأسير. وقفة ونزهة: روي عن ابن مسعود أنه قال: شكونا العزوبة، فأحلت لنا المتعة ثلاثا فقط، ثم نسختها آية النكاح والعدة والميراث. ولا تفرح أيها العاطفي بهذه الرواية، فهي ضعيفة تالفة، اختلقها المتعنتون للتشويش على الرواية الصحيحة المحفوظة عند الشيخين وغيرهما. وصانعها كان غبيا فذا أو جاهلا جدا، فالنكاح كان مشروعا من أول الإسلام، وآيات العدة والمواريث نزلت قبل حنين، ولا تعارض بين الأحكام الثلاثة والمتعة حتى تنسخها. فأين كان عقل الكذاب؟ لكنه العمى والهوى، فلا يستغرب العجاب. وهذه الرواية الموضوعة رواها أبو يوسف وابن شاهين من طريق حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود. وحماد ضعيف، ومدلس، ولم يصرح بالسماع من إبراهيم. وإبراهيم لم يدرك ابن مسعود. فالسند منقطع في موضعين، أي سقط من أحدهما اسم الكذاب الغبي الجاهل، ثم فيه راو ضعيف. وفي التمهيد لابن عبد البر: ذكر أبو عبيد قال: حدثنا ابن أبي زائدة عن حجاج عن الحكم عن أصحاب عبدالله عن عبدالله بن مسعود قال: المتعة منسوخة، نسخها الطلاق والصداق والعدة والميراث. قلت: حجاج بن أرطاة ضعيف ومدلس، ولم يصرح بالتحديث، واضطرب في إسناده. وأصحاب ابن مسعود مبهمون، يمكن أن يكونوا من الضعفاء أو الكذابين. ورواها عبد الرزاق والبيهقي من طريق سفيان الثوري عن صاحب له عن الحكم بن عتيبة عن ابن مسعود قال: نسختها العدة والطلاق والميراث. قلت: سفيان الثوري كان يدلس الضعفاء أحيانا، وهذا ما فعله هنا، فصاحبه هو الحجاج بن أرطاة، فإنه من شيوخه، وهو الذي يروي الأكذوبة من طريق الحكم بن عتيبة عن أصحاب ابن مسعود. وعليه، لا يعد هذا الطريق ثالثا. وإذا لم تقنع، فرواية الثوري مثخنة بالتدليس والإبهام والانقطاع بين ابن عتيبة وابن مسعود. والمدلس أو المبهم أو الساقط كذاب غبي. والطرق ثلاثتها ضعيفة جدا لا تتقوى ببعضها عند أهل الصنعة. والنتيجة أن الأثر مختلق مصنوع سندا، منكر متنا، وضعه مقلد طائفي، نجح في تلقينه لحماد بن أبي سليمان والحجاج بن أرطأة، فصارا يحدثان به كما حصل لهما ولغيرهما في مئات الأحاديث. والحكم بن عتيبة كان من جلة التابعين المفتين بإباحة المتعة، وروى عن مولانا علي عدم النسخ، فتعمد الوضاع أن يجمع بين التعتيم على موقفه والتشويش على مذهب ابن مسعود الراسخ، لكنه كان غبيا جاهلا لم يتقن الفرية، فقبحه الله إن لم يكن أناب قبل المنية. الدليل الثالث: استمتاع الصحابة في عمرة الجعرانة أو حجة الوداع: روى سعيد بن منصور والقاسم بن سلام بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرته، تزين نساء أهل المدينة، فشكا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: تمتعوا منهن واجعلوا الأجل بينكم وبينهن ثلاثا، فما أحسب رجلا يتمكن من امرأة ثلاثا إلا ولاها الدبر. قلت: الحسن البصري لم يسم من حدثه بالقصة من الصحابة، لكنها واقعة تاريخية تقتضي الشهرة لذلك كان يقسم عليها، ففي "تحريم المتعة" لابن أبي حافظ بإسناد حسن إلى الحسن قال: وَاللَّهِ مَا كَانَتْ مُتْعَةُ النِّسَاءِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، مَا كَانَتْ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، زَمَنَ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والشاهد عندنا هو وقوع الاستمتاع في إحدى العمر النبوية، والراجح أنها عمرة الجعرانة بعد غزوة الطائف، أي بعد وأوطاس من السنة الثامنة، حيث اعتمر المسلمون ثم عادوا إلى المدينة بعد شهور من الجهاد. وإلا فهي العمرة التي كانت مع حجة الوداع في السنة العاشرة، فقد أحرم جماهير الصحابة بالعمرة ثم تحللوا منها ثم أحرموا بالحج، وتلك متعة الحج. وبين العمرة والحج، تحركت غرائز الصحابة النبلاء، مدفوعين بالغربة وحرارة الصحراء، ثم تزين الأرامل والمطلقات وعوانس النساء، الراغبات في جلب الخطاب، والمغرمات ببطولات الأصحاب، فكان الظرف يقتضي الترخيص في الاستمتاع، إطفاء للنيران وتحقيقا للإشباع، وهو الحكمة والرحمة وإلا كان الفجور والضياع. وسواء كان الحديث مؤرخا بعمرة الجعرانة أو حجة الوداع، فهو ناقض لدعوى النسخ يوم خيبر أو فتح مكة المزعومة من قبل العلماء بل والرعاع. وقوله صلى الله عليه وسلم: "تمتعوا منهن واجعلوا الأجل بينكم وبينهن ثلاثا، فما أحسب رجلا يتمكن من امرأة ثلاثا إلا ولاها الدبر"، لا يعني إلا النهي العسكري التنظيمي، كقول القائد العسكري لجنوده: لكم ثلاثة أيام تزورون فيها أقاربكم ثم تلتحقون بقواعدكم، فمن تأخر عاقبته بشدة. ومن يفهم التحريم من تلك العبارة فهو غير محسود، إذ يكون معنى الحديث حينئذ: إن المتعة حرام، لكنني أرخص لكم فيها ثلاثة أيام لا أكثر. فهو كقول القائل: اشرب الخمر ثلاثة أيام، ثم لا تزد. وهذا عين السفه والحماقة، فكيف تجتمع الإباحة والتحريم في جملة واحدة؟ وأما نفي الحسن البصري لحصول المتعة قبل تلك العمرة وبعدها، فمردود بما صح عن الصحابة، والجمهور لا يقرونه على ما قال، وغاية ما يفهم من قوله رحمه الله أنه لا يعلم حدوث المتعة أكثر من مرة. والعبرة بما جاءنا عن النبي عليه السلام، لا بما رأى وفهم التابعي الإمام. الدليل الرابع: تصريح الصحابة بعدم التحريم: يقول علماؤنا نظريا: الصحابي الفقيه أعلم بالناسخ والمنسوخ، وبالحلال والحرام، من كل مجتهدي الأمة جملة وتفصيلا. فهل هم مستعدون للتراجع عن دعوى النسخ أمام نفي فقهاء الصحابة؟ أم سيكابرون ويدعون أن أخبارهم الصريحة في نقض التحريم طلاسم سحرية؟ وإليهم هذه الآثار السنية، أسردها مع تعليقات زكية: الأول: روى الإمام الكبير الروياني في مسنده، بإسناد حسن أو صحيح عن عبادة بن الوليد بن عبادة الصامت، وكان من خيار الأنصار وفي بيوتهم الصالحة، أن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب قال: إن أهل بيتي قد أبوا علي إلا هذه المتعة حلال، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن فيها، وقد خالفتهم في ذلك، فاذهب بنا إلى سلمة بن الأكوع فلنسأله عنها، فإنه من صالح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القدم، فخرجنا نريده، فلقيناه بالبلاط عند دار مروان يقوده قائده، وكان قد كف بصره، فقال الحسن: قف حتى أسألك أنا وصاحبي هذا عن بعض الحديث. قال له سلمة: ومن أنت؟ قال: أنا ابن محمد بن علي بن أبي طالب. قال: ابن أخي، ها إذن، ومن معك؟ فما الذي تسألاني عنه؟ قال له الحسن: متعة النساء. قال: نعم، أي ابن أخي اكتما عني حديثي ما عشت، فإذا مت فحدثا، فإن شاءوا بعد ذلك أن يرجموا قبري فليرجموه، أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملنا بها حتى قبضه الله، ما أنزل الله فيها من تحريم، ولا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا فيها من نهي. هذه رواية صادمة للمحرمين، متممة لحديث سلمة المخرج في الصحيحين، والقصة جرت أيام مروان بن الحكم الجبار الأموي، لذلك أوصى سلمة بكتمان موقفه، فلا جرم يسكت من هو أقل شأنا وعلما بعد ذلك! وسلمة فقيه شهد خيبر والفتح وغيرهما، فنفيه يقطع الجدال. الثاني: روى الطبراني بإسناد حسن عن سعيد المقبري أن ابن عباس وعروة بن الزبير اختلفا في المتعة، فقال عروة: هي زنا! وقال ابن عباس: وما يدريك يا عرية؟! فمر بهما سلمة بن الأكوع، فسأله ابن عباس فقال: غرب بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر، كنت أخرج مع الجيش فأقيم حين يمسون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من شاء فليستمتع من هذه النساء". لقد نصر سلمة موقف ابن عباس محتجا بالاستمتاع بإذن المعصوم، وعروة تابعي كان متعصبا حينئذ لموقف أخيه الذي كان يمنع المتعة قبل أن تشهد أمه لابن عباس بالصواب. وقد صغر الحبر عروة وحقره لأنه أساء الأدب، حيث وصف ما شرعه الله بالزنا، غفر الله له ورحمه، وقد أسكته الحبر عندما أسكت أخاه، ومتعصبة (العلماء) الذين يكررون خطأ عروة محقرون تأسيا بحبر الأمة. الثالث: روى مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله قال: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر رضي الله عنه. في رواية: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث. وصح عن أبي نضرة: كنت عند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فأتاه آت فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهانا عنهما عمر رضي الله عنه فلم نعد لهما. وصح عن عطاء: لأول من سمعت منه المتعة صفوان بن يعلى، قال: أخبرني عن يعلى أن معاوية استمتع بامرأة بالطائف، فأنكرتُ ذلك عليه، فدخلنا على ابن عباس فذكر له بعضنا فقال له: نعم. فلم يقر في نفسي، حتى قدم جابر بن عبد الله فجئناه في منزله، فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا له المتعة فقال: نعم، استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، حتى إذا كان في آخر خلافة عمر استمتع عمرو بن حريث بامرأة سماها جابر فنسيتها، فحملت المرأة، فبلغ ذلك عمر فدعاها فسألها فقالت: نعم. قال: من أشهد؟ قال عطاء: لا أدري قالت :أمي وأمها أو أخاها وأمها. قال : فهلا غيرهما ؟ قال: خشي أن يكون دغلا. هذه الروايات ثابتة عند مسلم وعبد الرزاق وأحمد وابن منصور وأبي داود والنسائي وغيرهم. وكان جابر يعلم أحكام المتعة أيام ابن الزبير، فصح عند عبد الرزاق أنه قال للسائلين: إذا انقضى الأجل فبدا لهما أن يتعاودا فليمهرها مهرا آخر. وسأله بعضهم: كم تعتد؟ فقال: حيضة واحدة، كن يعتددنها للمستمتع منهن. فثبت أنه كان مصرا على الإباحة آخر حياته، وأن الصحابة استمتعوا بعد فتح مكة إلى زمن الفاروق. وجابر فقيه لازم الرسول في أسفاره، فمحال أن يجهل التحريم، هو والذين استمتعوا بعد النبي، فلا نسخ. وسيأتي المزيد عن صحابة آخرين بإذن الله، على رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة، وهو الدليل الخامس الحاسم. الخلاصة: إن الرد العلمي على هذا الجزء، يستلزم الجرأة في مواجهة هذه الأسئلة دون لف أو سفسطة: حديث سبرة بن معبد عندكم صحيح، فهل يستقيم الاحتجاج بحديث خيبر المتقدم عليه تاريخيا؟ وهل أحاديث جابر وسلمة وابن مسعود والحسن البصري تؤكد استمتاع الصحابة بعد فتح مكة؟ إذا كانت كذلك، فهل يعقل أن يكون حديث سبرة بن معبد صحيحا، وهو يتضمن تحريم المتعة يوم فتح مكة تحريما مؤبدا لا يقبل النسخ؟ وإذا كابرتم، فكيف التوفيق بين التحريم المؤبد، ثم الترخيص بعد ذلك مع إباحة تجديد العقد، كما أفاد حديث ابن أبي ذئب؟ وهل كان ابن مسعود وجابر وسلمة بن الأكوع ينفون النسخ ويفتون بالإباحة ويجرمون التحريم بعد وفاة المصطفى الكريم؟ إذا كانوا كذلك، فلماذا تزعمون أن إباحة المتعة مذهب ابن عباس وحده؟ ثم هل تقبل عقولكم أن يجهل المقربون، ما علمتم أنتم وفقهاؤكم المضطربون؟ ولماذا لم ينكر عليهم أمثالهم من كبار الصحابة؟ أفيدونا رحمكم الله، والموعد الله، ويتبع بإذن الله. خريج دار الحديث الحسنية [email protected]