عقد العلامة المؤرخ المجمع على توثيقه عمر بن شبة في تاريخ المدينة فصلا تحت عنوان: (ذكر من استمتع قبل تحريم عمر رضي الله عنه)، ثم سرد أسماء جماعة من الصحابة استمتعوا قبل قرار المنع، وختم يقصد الفاروق بقوله: فحرم المتعة.ه وقال الإمام ابن حزم في المحلى 9/519 مبينا موقف الفاروق من المتعة: وعن عمر بن الخطاب أنه إنما أنكرها إذا لم يشهد عليها عدلان فقط، وأباحها بشهادة عدلين.ه وقال الحافظ السيوطي في ترجمة الفاروق من تاريخ الخلفاء: عمر بن الخطاب أول من حرم المتعة.ه فهذه شهادات صادرة عن أئمتنا المرضيين، تصرح أن الفاروق كان للمتعة من المبيحين، وأنه أول من منعها بصفته أمير المؤمنين، وليس لأنها منسوخة في شريعة المسلمين. وهؤلاء سلفنا في بيان موقف الفاروق، فلا تتهمونا بالابتداع والعقوق، وفي الآخرة تحق الحقوق، فاتقوا الله قبل اللحد والشقوق. وهذا تفصيلنا لموقف الخليفة عمر، مانع متع النساء والحج والعمر، نأخذه من صحيح الأخبار والأثر، مع إبطال كل مروي مشتمل على الضعف والضرر. سكوت الفاروق زمن الصديق إقرار: كان المسلمون يستمتعون أيام مولانا أبي بكر بإذنه وإقراره، وكان الفاروق بمثابة نائب الخليفة. ولم يثبت عنه أي معارضة للخليفة أو إنكار على المستمتعين، طيلة خلافة الصديق. ولا يقبل عاقل أن يجهل مثل الفاروق حكم المتعة، ولا ترخيص الصديق فيها، ولا استمتاع المسلمين بعد نبيهم. فيكون سكوته، وهو القوي الأمين، موافقة وإقرارا يدلان على إباحة المتعة عنده. ترخيص الفاروق صفعة لمدعي نسخ المتعة: لم يكتف الفاروق بإقرار الصديق، بل أبقى الوضع قائما سنين من خلافته، فكان المسلمون صحابة وتابعين يستمتعون بإذنه. ولو كانت المتعة محرمة لمنعها في بداية دولته على فرض جهالته بترخيص الصديق. بل إن الروايات الصحيحة، تدل بوضوح على أن المتعة كانت شائعة أيام الفاروق أكثر منها في زمن الصديق والنبوة، حيث صارت تفعل في السفر والحضر، في الحرب والسلم، وهذه الأدلة: الرواية الأولى: في صحيح مسلم ومسند أحمد، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن منصور، وسنن البيهقي وشرح الآثار للطحاوي عن سيدنا جابر بن عبد الله قال: كنا نعمل بها، يعني متعة النساء، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي زمان أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر، حتى نهانا عنها. وفي مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح: استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، حتى إذا كان في آخر خلافة عمر استمتع عمرو بن حريث بامرأة. الحديث فأثبتت شهادة جابر أن الصحابة كانوا يستمتعون طيلة خلافة الفاروق دون إنكار، ولا مجال لادعاء جهله بفعلهم، فإنه محال، وهذه روايات صريحة في الدلالة على علمه: الرواية الثانية: روى الإمام مالك بإسناد صحيح، ومن طريقه الشافعي في الأم، عن عروة بن الزبير عن خولة بنت حكيم أنها دخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقالت: إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة مولدة فحملت منه! فخرج عمر بن الخطاب فزعا يجر رداءه فقال: هذه المتعة، ولو كنت تقدمت فيها لرجمت. وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح: عن عروة ابن الزبير أن ربيعة بن أمية بن خلف تزوج مولدة من مولدات المدينة بشهادة امرأتين، إحداهما خولة بنت حكيم، وكانت امرأة صالحة، فلم يفجأهم إلا الوليدة قد حملت، فذكرت ذلك خولة لعمر بن الخطاب، فقام يجر صنفة ردائه من الغضب حتى صعد المنبر فقال: إنه بلغني أن ربيعة بن أمية تزوج مولدة من مولدات المدينة بشهادة امرأتين! وإني لو كنت تقدمت في هذا لرجمت. وعند ابن شبة بإسناد صحيح: عن عروة بن الزبير أن خولة بنت حكيم بن أمية، وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تحت عثمان بن مظعون، فلما حملت المولدة من ربيعة ابن أمية فزعت خولة، فأتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبرته الخبر، ففزع عمر رضي الله عنه، فقام يجر من العجلة صنفة ردائه في الأرض حتى جاء المنبر، فقام، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: بلغني أن ربيعة بن أمية تزوج امرأة سرا فحملت منه، وإني والله لو تقدمت في هذا لرجمت فيه. وروى الطبري، كما في كنز العمال، عن أمّ عبد الله ابنة أبي خيثمة أنّ رجلا قدم من الشام فنزل عليها، فقال: إنّ العزبة قد اشتدّت عليّ فابغيني امرأة أتمتّع معها. قالت: فدللته على امرأة فشارطها، فأشهدوا على ذلك عدولا، فمكث معها ما شاء الله أن يمكث، ثمّ إنّه خرج. فأُخبر عن ذلك عمر بن الخطّاب، فأرسل إليّ، فسألني: أحقّ ما حُدّثت؟ قلت: نعم. قال: فإذا قدم فآذنيني به، فلمّا قدم أخبرته، فأرسل إليه، فقال: ما حملك على الّذي فعلته؟ قال: فعلته مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ لم ينهنا عنه حتى قبضه الله، ثمّ مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه الله، ثمّ معك، فلم تحدث لنا فيه نهياً، فقال عمر: أما والّذي نفسي بيده، لو كنت تقدّمت في نهي لرجمتك، بيّنوا حتى يعرف النكاح من السفاح». قلت: استمتاع ربيعة بن أمية تم بشهادة امرأتين، وفي السر، حيث لم يعلم الخليفة والناس، إلا بعد ظهور الحمل، فجاءت خولة بنت حكيم رضي الله عنها تدلي بشهادة براءة المولدة من الزنا، لكن الخليفة غضب ونهى عن المتعة، وبين أن غضبه راجع إلى الاكتفاء بشهادة امرأتين، وحصول ذلك في السر، وذلك قوله: "بلغني أن ربيعة بن أمية تزوج مولدة من مولدات المدينة بشهادة امرأتين"، وفي الرواية الثالثة: بلغني أن ربيعة بن أمية تزوج امرأة سرا فحملت منه. فهو لم ينكر المتعة، بل أنكر عدم إشهاد العدول من الرجال. أما قرار المنع، فسببه هو تخوف سيدنا عمر من ظهور المشاكل الاجتماعية التي تترتب عن جحود أولاد المتعة. فهو قرار تنظيمي وإجراء اجتماعي لا أكثر. ويفهم من قول المتمتع في الرواية الرابعة: فعلته مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ لم ينهنا عنه حتى قبضه الله... ه أنه صحابي، ويظهر أنه سلمة بن أمية، لتشابه القصتين. وقوله: "ثمّ معك فلم تحدث لنا فيه نهياً"، يؤكد ما صرح به بعض الصحابة كجابر بن عبد الله أن المتعة كانت تفعل في خلافة الفاروق دون إنكار منه. وقول سيدنا عمر: "بيّنوا حتى يعرف النكاح من السفاح"، يظهر أن الدافع وراء نهيه عن المتعة هو الإسرار بها مما يجعلها مشابهة للسفاح. وعدم تعزيره رضي الله عنه لابنة أبي خيثمة التي توسطت بين المتمتعين، صريح في أنها مباحة عنده، لأنها لو كانت محرمة لكان فعلها قوادة تستلزم العقوبة. ويستفاد من وساطة أم عبد الله، وشهادة الشهود دون إنكار منهم، وهم صحابة في الغالب، أن نكاح المتعة كان شائعا بين المسلمين، وأنه لم يكن منسوخا عندهم. الرواية الثالثة: روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قدم عمرو بن حريث من الكوفة فاستمتع بمولاة، فأتي بها عمر وهي حبلى، فسألها فقالت: استمتع بي عمرو بن حريث، فسأله فأخبره بذلك أمرا ظاهرا، قال: فهلا غيرها، فذلك حين نهى عنها. وفي المصنف أيضا بإسناد صحيح عن عطاء بن أبي رباح قال: قدم جابر بن عبد الله فجئناه في منزله، فسأله القوم عن أشياء، ثم ذكروا له المتعة فقال: نعم، استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، حتى إذا كان في آخر خلافة عمر استمتع عمرو بن حريث بامرأة، سماها جابر فنسيتها، فحملت المرأة، فبلغ ذلك عمر فدعاها فسألها فقالت: نعم. قال: من أشهد؟ قال عطاء: لا أدري قالت: أمي وأمها أو أخاها وأمها. قال: فهلا غيرهما؟ قال: خشي أن يكون دغلا. وفيه عن محمد بن الأسود بن خلف أن عمرو بن حريث استمتع بجارية بكر من بني عامر بن لؤي فحملت، فذكر ذلك لعمر فسألها فقالت: استمتع منها عمرو بن حريث، فسأله فاعترف، فقال عمر: من أشهدت؟ قال: لا أدري أقال: أمها أو أختها أو أخاها وأمها، فقام عمر على المنبر فقال: ما بال رجال يعملون بالمتعة ولا يشهدون عدولا ولم يبينها إلا حددته. قال: أخبرني هذا القول عن عمر من كان تحت منبره، سمعه حين يقوله، فتلقاه الناس منه. وروى ابن شبة في تاريخه بإسناد حسن لغيره من طريق عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: استمتعت من النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمن أبي بكر، ثم زمن عمر حتى كان من شأن عمرو بن حريث الذي كان، فقال عمر رضي الله عنه: إنا كنا نستمتع ونفي، وإني أراكم تستمتعون ولا تفون، فانكحوا ولا تستمتعوا. نأخذ من مجموع هذه الروايات أن الصحابي عمرو بن حريث استمتع لما جاء المدينة قادما من الكوفة في غير حرب ولا ضرورة. ولم يشهد ابن حريث على استمتاعه إلا أقارب المرأة من النساء، فبقي أمره سرا حتى حملت منه زوجة المتعة، وانتشر خبرها بين أهل المدينة عاصمة الخلافة. فغضب سيدنا عمر لعدم إشهاد غير الأقارب، حيث أشبهت المتعة "الدغل"، أي الزنا. ونأخذ من قوله: "فهلا غيرهما" وقوله: "ما بال رجال يعملون بالمتعة ولا يشهدون عدولا"، أنه كان يجيز المتعة بشهادة العدول من غير أقارب المرأة كما استنبط ابن حزم رحمه الله. وعبارة: (إنا كنا نستمتع ونفي، وإني أراكم تستمتعون ولا تفون، فانكحوا ولا تستمتعوا)، صريحة في أن التحريم كان رأيا من سيدنا عمر، وأن السبب في ذلك هو عدم وفاء المستمتعين، أي تضييعهم للنساء المتمتع بهن وجحد الأولاد منهن. وبالجملة، فسيدنا عمر لم يعاقب المرأة ولا عمرو بن حريث، وإنما أنكر عليهما إخفاء المتعة، وكل ذلك برهان على أنها ليست حراما ولا منسوخة. الرواية الرابعة: روى عبد الرزاق بإسناد صحيح، ومن طريقه البخاري في التاريخ، عن ابن عباس قال: لم يرُع عمر أمير المؤمنين إلا أم أراكة قد خرجت حبلى، فسألها عمر عن حملها فقالت: استمتع بي سلمة بن أمية بن خلف. فلما أنكر ابن صفوان على ابن عباس بعض ما يقول في ذلك، قال: فسل عمك هل استمتع. وقال عمر بن شبة في الفصل المذكور أعلاه: استمتع سلمة بن أمية من سلمى مولاة حكيم بن أمية بن الأوقص الأسلمي فولدت له، فجحد ولدها. فبلغ ذلك عمر فنهى عن المتعة. وفي الإصابة لابن حجر: سلمى مولاة حكيم بن أمية بن الأوقص السلمي، ذكر هشام في كتاب المثالب أن سلمة بن أمية بن خلف استمتع منها فولدت له ثم جحده، فبلغ ذلك عمر فنهى عن المتعة.ه قلت: هو في تاريخ ابن شبة من طريق حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن رجل: أن سلمة بن أمية المخزومي تزوج مولاة له بشهادة أمها وأختها، أو شهادة أمه وأخته، فرفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فأرسل إليه فقال: مالك ولفلانة؟ فقال: مولاتي أعجبتني فتزوجتها بشهادة أمها وأختها، أو شهادة أمي وأختي، فقال لأبي بن كعب رضي الله عنه: ما ترى؟ قال: أرى أن عليه الرجم. قال: فوثب إلى رجل عمر رضي الله عنه وقال: أنشدك الله والرحم، قال: إن الرحم لا يغني عنك شيئا، الجهالة فعلت ما فعلت ؟ قال: نعم. قال [أي عمر]: لكني أرى غير ما رأى أبي، فانطلق فأشهد ذوي عدل وإلا فرقت بينكما. وسماك بن حرب تغير بأخرة، وشيخه مبهم، فالسند ضعيف، ولا يجوز الاستدلال بهذه الرواية على أن سيدنا أبيا كان يرى تحريم المتعة، لكنها تقوي خبر تمتع سلمة بن أمية، وتؤيد اشتراط الفاروق في نكاح المتعة شهادة عدلين، فإنه قال: فانطلق فأشهد ذوي عدل وإلا فرقت بينكما. وتفيد قصة الصحابي سلمة بن أمية، أن أحدا من غير أقارب أم أراكة لم يعلم بتمتعها مع سلمة حتى خرجت حاملا، فرآها الخليفة وهو يدري أنها غير ذات زوج، ففزع لحملها وخشي أن تكون زانية، لكنها طمأنته لما أخبرته باستمتاع سلمة منها، فلم يقل شيئا إلا عندما ولدت وجحد سلمة أن يكون ولدها منه، فتوعده ونهاه عن عمل المتعة سرا مرة أخرى. فسكوت الفاروق قبل جحود سلمة، صريح في عدم حرمة المتعة عنده. الرواية الخامسة: روى الطبري في تاريخه من طريق عيسى بن يزيد بن دأب عن عبد الرحمن بن أبي زيد عن عمران بن سوادة قال: صليت الصبح مع عمر، فقرأ سبحان وسورة معها، ثم انصرف وقمت معه، فقال: أحاجة؟ قلت: حاجة. قال: فألحق. قال: فلحقت. فلما دخل أذن لي، فإذا هو على سرير ليس فوقه شيء فقلت: نصيحة. فقال: مرحبا بالناصح غدوا وعشيا. قلت: عابت أمتك منك أربعا! وفيه: قلت: وذكروا أنك حرمت متعة النساء، وقد كانت رخصة من الله نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلها في زمان ضرورة، ثم رجع الناس إلى السعة، ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عمل بها ولا عاد إليها، فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق، وقد أصبت. ورواه البخاري في التاريخ وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل مختصرا. قلت: هذه رواية ضعيفة بسبب عيسى بن يزيد الأديب الإخباري العالم بالسير، المضعف في رواية الحديث، وشيخه عبد الرحمان ابن البيلماني مولى سيدنا عمر، لينه أبو حاتم وذكره ابن حبان في الثقات. وبعض ما تضمنته الرواية حسن بالشواهد المتقدمة. وهي صريحة في أن متعة النساء لم تنسخ إباحتها عند الفاروق، فإنه لم ينكر على ابن سوادة مقالته، بل إنه قال: فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق. ولعلها مستند جمهور فقهاء السنة في تجويز النكاح بنية الطلاق. فهذه ثلاثة وقائع تتفق في كون المتعة كانت تتم بالمدينة سرا زمن الخليفة، وبشهادة النساء فقط، وكلها أدت إلى الحمل. وإذا علمت أن زواج المتعة كان يتم في العلن زمن النبوة، واستحضرت آثار إنكار الرجال المستمتعين في السر لأولادهم على المجتمع، أدركت بوضوح أن سيدنا عمر قرر منع المتعة، بعدما كان يسمح بها، درءا للمفاسد الاجتماعية التي خشي حدوثها إذا تفشت المتعة بين الناس. وهذا إجراء إداري لا علاقة له بالتحريم، قد يوافقه فيه أو يخالفه حاكم آخر. وإذا كان عهد الخليفة الثاني لا يلجئ الناس إلى المتعة، فإن غيره من الأزمنة يحتاجها، ولا شك أننا في عصر يتطلب تقنين المتعة ورفع الحظر عنها. خطبة منع المتعتين تفضح المحرمين: بناء على الوقائع السابقة وغيرها، قرر سيدنا عمر منع المتعة بقرار إداري اجتماعي اجتهادي، هدفه حماية المجتمع وضمان حقوق النساء والأولاد. وكان منعه في خطبة علنية حفظها ونقلها جماعة، حرص خلالها الفاروق على تأكيد مشروعية المتعة، مؤكدا أنه مجتهد لا مبين لحكم شرعي. ورغم وضوح كلام الفاروق وصراحته، فإن علماءنا يغمضون أعينهم ويتكلفون تحريف كلامه بما يوافق المقرر في المذاهب. ونورد روايات خطبة الفاروق، لتعرف مدى تعسف وتعصب علمائنا رحمهم الله، ونحن مسبوقون بقراءة ابن حزم، فلا يتجنى علينا إلا أعمى البصر والبصيرة: رواية جابر بن عبد الله: قال: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر رضي الله عنه، فلما ولي عمر خطب الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرسول وإن هذا القرآن هو القرآن، وإنهما كانتا متعتان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما، إحداهما متعة النساء، ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل إلا غيبته بالحجارة، والأخرى متعة الحج فأفصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم. رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم. رواية أبي سعيد الخدري: قال: قام عمر رضي الله عنه خطيبا حين استخلف فقال: إن الله عز وجل كان رخص لنبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء، ألا وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد انطلق به، فأحصنوا فروج هذه النساء، وأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم. رواه الطحاوي في شرح الآثار بإسناد صحيح. رواية عبد الله بن عمر: روى عن أبيه أنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج. أخرجه الطحاوي وابن عبد البر بإسناد صحيح. رواية التابعي سعيد بن المسيب: روى سعيد بن منصور في السنن والدارقطني في العلل عن سعيد بن المسيب أن عمر نهى عن متعة النساء ومتعة الحج. وفي لفظ عنه أن عمر قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما: متعة النساء ومتعة الحج. وهذا مرسل صحيح. رواية التابعي أبى قلابة: روى ابن منصور وابن عبد البر وابن حزم عنه: قال عمر بن الخطاب: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج. إسناده صحيح. فهذه خمس روايات صحيحة، تنفي أن يكون سيدنا عمر قد احتج على قراره بنهي سابق عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويفيد سائرها أنه اتخذ قراره بالاجتهاد، بل وتصرح بأن المتعة بقيت معمولا بها طيلة عهد النبوة. ونفهم بعد نظرة يسيرة على خطبة الفاروق أن المتعة مباحة عنده، بطرق ثلاث: الطريقة الأولى: ألفاظ الخطبة صريحة في نفي وجود أي تحريم سابق للمتعة: فقوله عند جابر: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرسول، وإن هذا القرآن هو القرآن"، يقصد به أنه لا يتلقى الوحي، ولا يتصرف بناء عليه، وأنه لا يريد تغيير الأحكام الثابتة في القرآن، بل يجتهد في تنزيلها وحسن تطبيقها بناء على ما تقتضيه المصلحة العامة. فكأنه يقول: المتعتان ثابتتان بالكتاب والسنة، وأنا لست نبيا معصوما، فلا تفهموا من قراري أنني مستند إلى وحي أو نص من الكتاب والسنة، بل أنا إمام مجتهد في رعاية مصالح الرعية. فكلامه تصريح بأن حكم المتعتين باق على ما كان عليه زمن النبوة. وقد كان العمل بهما جاريا، باعترافه رضي الله عنه، والعمل دليل الإباحة، فهما مباحتان عنده، لكن المصلحة اقتضت إيقاف العمل بهما في عهده. وقوله عند أبي سعيد الخدري:"إن الله عز وجل كان رخص لنبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء، ألا وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد انطلق به"، تصريح بأن المتعتين كان مرخصا فيهما زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مات، وقوله: "قد انطلق به" يعني أن الوحي قد انقطع، وأنه يتصرف عن اجتهاد لا عن سنة سابقة. فرواية أبي سعيد تؤكد ما قلناه في رواية جابر. وقوله عند الجميع: "متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، صريح في أن العمل بالمتعة بقي مستمرا مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم. لأن "كانتا" تستلزم الخبر، وهو محذوف، وتقديره: كانتا مباحتين أو معمولا بهما أو شائعتين. وقوله: "أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما" يدل بوضوح على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن المتعتين بشهادة الفاروق، فهي لطمة قوية لمدعي النسخ. وأي تكلف في توجيه هذا القول العمري لا ينطلي على عاقل، فبعض الشراح يزعمون دون حياء ولا خجل، أنه يقصد توكيد النهي النبوي، وهو تعسف وكذب عليه وعلى المعصوم. وكونه أول من منع المتعة موافق لقول سيدنا جابر: "كنا نعمل بها، يعني متعة النساء، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي زمان أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر، حتى نهانا عنها". وقول سيدنا سلمة: أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملنا بها حتى قبضه الله، ما أنزل الله فيها من تحريم، ولا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا فيها من نهي. فتأكد بالألفاظ المتقدمة أن الفاروق كان مجتهدا لا متبعا لحكم شرعي. الطريقة الثانية: من سوء حظ محرمي متعة الفرج، أن الفاروق نهى عنها مع متعة الحج، فحرمهم أقوى الحجج. فإنه صرح في الخطبة وخارجها بمشروعية متعة الحج، فكفانا ردا على من يعدون منعه وتهديده دليلا على التحريم، ويرون سكوت الصحابة إقرارا على ذلك: روى الشيخان عَنْ أَبِى مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ فَقَال: «بِمَ أَهْلَلْتَ»؟ قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلاَلِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْىٍ»؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: « فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حِلَّ». فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي وَغَسَلَتْ رَأْسِي، فَكُنْتُ أُفْتِى النَّاسَ بِذَلِكَ فِى إِمَارَةِ أَبِى بَكْرٍ وَإِمَارَةِ عُمَرَ، فَإِنِّي لَقَائِمٌ بِالْمَوْسِمِ إِذ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِى شَأْنِ النُّسُكِ. فَقُلْتُ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كُنَّا أَفْتَيْنَاهُ بِشَيء فَلْيَتَّئِدْ، فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ، فَبِهِ فَائْتَمُّوا. فَلَمَّا قَدِمَ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هَذَا الَّذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ؟ قَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)، وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، فَإِنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْىَ. وفي سنن النسائي بإسناد جيد عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: والله إني لأنهاكم عن المتعة وإنها لفي كتاب الله، ولقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني العمرة في الحج. وروى ابن أبي حاتم في العلل والبيهقي في السنن عن عبيد بن عمير قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنهيت عن المتعة؟ قال: لا، ولكني أردت كثرة زيارة البيت. قال: فقال علي رضي الله عنه: من أفرد الحج فحسن، ومن تمتع فقد أخذ بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم. وقوله: (لا) بعد استفهام مولانا علي، صريح في أن السؤال هو: هل تمنع المتعة لأنك تراها محرمة؟ فهذه اعترافات من عمر رضي الله عنه بأنه منع متعة الحج اجتهادا لا تنفيذا لأمر الله ورسوله، وبه يسقط تعلق المحرمين بقراره، لأن قوله "كانتا على عهد رسول الله" يعني أن متعة الحج كانت مشروعة مباحة بدليل تصريحه في الروايات المتقدمة عن أبي موسى وابن عباس رضي الله عنهما. وما دامت الجملة إقرارا بعدم نسخ متعة الحج، فهي تعني نفس الأمر بخصوص متعة النكاح، فقد جمع بينهما سيدنا عمر. ومن زعم أن مقولته تصريح بجواز متعة الحج دون متعة النساء، فهو مطالب بالحجة والقرينة. فإن قال: الحجة والقرينة هي الروايات الدالة على مشروعية متعة الحج عند الفاروق. قلنا: وتقدمت كذلك روايات صريحة في أن الفاروق كان يرى عدم نسخ متعة النساء، فهي قرينة على أن قوله: "كانتا على عهد رسول الله" يعني أنها كانت مشروعة طيلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم. الطريقة الثالثة: ثبت عن جماعة من الصحابة القول بإباحة المتعة بعد استشهاد الفاروق، منهم ابن عباس وجابر وسلمة بن الأكوع وابن مسعود ومعاوية وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم، وكلهم كانوا عالمين بقراره ومنعه، بل كان سيدنا ابن عباس أعلم الناس بقضاء الفاروق وسياسته، وكان من الحاضرين عندما منع المتعتين، ثم كان إمام القائلين بمشروعيتهما بعد الفاروق. فهل يجوز أن يكون سيدنا عمر مستندا في قرار المنع إلى تحريم ونسخ سابقين زمن النبوة، ثم يكون هؤلاء الصحابة الكبار أول المخالفين بعد استشهاده؟ وقد زعمتم أنهم كانوا يجهلون النسخ زمن النبوة وخلافة الصديق وصدرا من خلافة الفاروق، حتى أعلمهم في شأن عمرو بن حريث، فرجعوا إلى التحريم. فما قولكم في الروايات الدالة على أنهم صرحوا بالإباحة بعده؟ نحن بين احتمالين لا ثالث لهما: إما أن الفاروق كان مجتهدا فأصر هؤلاء الصحابة على الإباحة، أو أنه كان مستندا إلى تحريم سابق سمعه من النبي دونهم فلم يصدقوه. والاحتمال الثاني مرفوض جملة وتفصيلا، فلم يبق إلا الاحتمال الأول، ومن له احتمال آخر يقنع العقلاء فليكرمنا به. أما ما قاله السادة العلماء، فهو كلام يضحك منه المغفلون والحمقى قبل أولي العقل والنهى، حيث زعموا أن هؤلاء الصحابة رجعوا إلى التحريم بعد قرار الفاروق مباشرة، وهؤلاء السادة يعلمون أن كلامهم كذب مخالف للواقع، إذ كل الروايات عن هؤلاء الصحابة كانت بعد استشهاده رضي الله عنه، بل إنهم يحتجون بحديث خيبر، وهو صريح في أن ابن عباس كان يرى الإباحة إلى عصر الإمام علي، أليس هذا تناقضا وكذبا مكشوفا؟ لماذا جمع الفاروق بين المتعتين؟ لأن الصحابة والتابعين كانوا يجمعون بين متعة الحج ومتعة النساء، فكان بعض المسلمين يحرمون بالمتعة إلى الحج، وينكحون النساء متعة بينهما. فكره سيدنا عمر أن يستمتع المسلمون بالنساء بين العمرة والحج، لأنه رآه لا يتناسب وهاتين العبادتين، فقرر أن يمنع متعة الحج حتى لا تكون مبررا لمتعة النساء، لذلك نهى عنهما في الموسم الذي حج فيه بالمسلمين آخر حياته رضي الله عنه. وحديث سيدنا أبي موسى الأشعري صريح فيما نقول: فعن أبي موسى أنه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: رويدك ببعض فتياك! فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعد، حتى لقيه بعد فسأله فقال عمر: قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم. فقوله رضي الله عنه: ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم. لا يمكن أن يعني به استمتاع الرجل بين العمرة والحج بزوجته المؤبدة، فلا يعقل أن يراه مولانا الفاروق، الذي نزل بسببه تشريع الجماع في ليالي رمضان أمرا مكروها لا يتناسب وعبادة الحج. لكنه يستساغ منه أن يكره نكاح المتعة، لأنه ليس إلا رخصة وفسحة. فالذي يطمئن إليه القلب، هو أن المتعتين كانتا متلازمتين عند المسلمين قبل نهي سيدنا عمر، هذا التلازم تؤكده مقولة مولانا جابر بن عبد الله الصحيحة: "تمتعنا مع النبي صلى الله عليه وسلم المتعتين جميعا، فلما قام عمر نهانا عنهما، فلم نعد" رواه أحمد ومسلم وأبو عوانة والطحاوي وأبو نعيم في المستخرج. وتقدم أن المسلمين تمتعوا بعد عمرة الجعرانة. وقول مولانا الفاروق في خطبته: "متعتان كانتا على عهد رسول الله"، يشير أيضا إلى جمع الصحابة بين المتعتين زمن النبوة. فكأنه يقول: كان الناس يجمعون بين المتعتين بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنني أرى منعهما لتغير أحوال الأمة. فهو كجعله ثلاث تطليقات في المجلس الواحد طلاقا بائنا، رغم أنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله طلقة واحدة. وكإيقافه سهم المؤلفة قلوبهم رغم أنه ثابت بالقرآن صراحة. فإن كان مجتهدا في هذين ونحوهما، فهو مجتهد في منع المتعتين. وقفة مع الكذابين على الفاروق: حاول المتعصبون تبرئة مولانا عمر من منع المتعة اجتهادا، فكذبوا عليه وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعوا رواية زادوا فيها تصريح الفاروق بأنه يمنع المتعة تنفيذا للتحريم النبوي. فروى محمد بن يوسف الفريابي عن أبان بن أبي حازم عن أبي بكر بن حفص عن ابن عمر قال: لما ولي عمر بن الخطاب، خطب الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثا ثم حرمها، والله لا أعلم أحدا يتمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة إلا أن يأتيني بأربعة يشهدون أن رسول الله أحلها بعد إذ حرمها. رواه ابن ماجه والبزار وتمام في فوائده وابن حزم في حجته والضياء في مختارته. وروى أبو خالد الأموي ويحيى بن أبي زكريا أبو مروان عن منصور بن دينار حدثنا عمر بن محمد عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: صعد عمر على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها؟! ألا وإني لا أوتى بأحد نكحها إلا رجمته. أخرجه البيهقي في السنن وابن شاهين في الناسخ والمنسوخ. وهذان الأثران موضوعان سندا، منكران متنا، فلا تقوم بهما حجة، إلا عند المعتوهين قلبا وعقلا: نقد السند: أما الطريق الأول، فقال الشوكاني في نيل الأوطار: أما ما رواه البزار عن عمر أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحل لنا المتعة ثم حرمها علينا. فقال ابن القيم: إن هذا الحديث لا سند له ولا متن، أما سنده فمما لا تقوم به حجة عند أهل الحديث، وأما متنه فإن المراد بالمتعة فيه متعة النساء.ه وقال ابن الأزرق مستغفرا ربه متوكلا عليه: أبان بن عبد الله بن أبي حازم البجلي الكوفي وثقه أحمد وابن معين وابن نمير والعجلي. لكن قال النسائي: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن حبان: كان ممن فحش خطؤه وانفرد بالمناكير. وقال الفلاس: ما سمعت يحيى القطان يحدث عنه قط. وذكره العقيلي في الضعفاء. وقال الذهبي: كوفي له مناكير، حسن الحديث. وقال الحافظ في التقريب: صدوق، في حفظه لين.ه والذين جرحوا أبانا فسروا سبب الجرح، وهو ضعف الحفظ والضبط المؤدي إلى فحش الغلط والنكارة، فقولهم مقدم على من وثقوه، فهو ضعيف فيما تفرد به، والضعفاء كانوا يسمعون الحديث الموضوع من الكذابين، ثم ينسون ويختلط عليهم الأمر، فيحدثون به عن شيوخهم الثقات، ولا نشك في وضع هذا الأثر لنكارة متنه، فيكون من جملة ما سمعه أبان البجلي من الوضاعين الكذبة. وأما الطريق الثاني، ففيها من العلل القادحة: أولا: يحيى بن أبي زكريا ضعيف، يروي المقلوبات عن الثقات. ومتابعه أبو خالد الأموي هو عبد العزيز بن أبان الكوفي أحد المتروكين، مجمع على ضعفه، واتهمه جماعة من النقاد كابن معين بالكذب والوضع وسرقة الأحاديث. فمتابعته لا تفيد يحيى بن أبي زكريا شيئا، لأن الأموي ضعيف جدا، ولأنه قد يكون أحدهما سرق حديث الآخر ثم بدأ يرويه. ثانيا: منصور بن دينار مضعف. ثالثا: عمر بن محمد العمري في حفظه لين، ثم هو مضطرب في روايته لحديث المتعة من طريق ابن عمر. نقد المتن: اشتمل متن الأثر من طريقيه على علتين تقضيان عليه بالنكارة والوضع، هما: الأولى: استعمل في طريق أبان بن أبي حازم فعل "حرم" مكان "نهى"، وذلك مخالف للطرق الصحيحة التي نقلت أخبار المتعة في خيبر والفتح وأوطاس، فإنها كلها تروي النهي الإداري لا التحريم الشرعي. وقلب الألفاظ إذا كان صادرا من الضعفاء يكون منكرا ولا بد. الثانية: يصرح الأثر أن سيدنا عمر استدل، في خطبة منع المتعة، بنهي النبي صلى الله عليه عنها، وهذه زيادة لم ترد في أي طريق من الطرق الصحيحة التي روت خطبة الفاروق رضي الله عنه، عن جابر والخدري وابن المسيب وأبي قلابة. بل صح عن ابن عمر أنه روى خطبة أبيه ولم يذكر أنه نسب التحريم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فهي زيادة منكرة مكذوبة ورب الكعبة. فثبت بمجموع هذه العلل أن الأثر المتضمن للزيادة المرفوعة كذب على الفاروق، وابنه عبد الله، بل هو كذب على رسول الله، وضعه الرواة المتعصبون لتأييد مذهبهم العاطل. شاهد لا يفرح به إلا متعصب أو جاهل: قال الطبراني في الأوسط: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ رِشْدِينَ قَالَ: أخبرنا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ دَاوُدَ أَبُو صَالِحٍ الْحَرَّانِيُّ قَالَ: أخبرنا الْبَرَاءُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْغَنَوِيُّ قَالَ: سمعت أبا نضرة يحدث عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب لما استخلف، نهى الناس عن متعة النساء وقال: إنما هذا شيء رخص للناس فيه والناس قليل، ثم إنه حرم عليهم بعد ذلك، فلا أقدر على أحد يفعل ذلك اليوم إلا أحللت به العقوبة. لم يرو هذا الحديث عن أبي نضرة إلا البراء بن عبد الله.ه وقال الدارقطني في السنن: أخبرنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى نا أَبُو نُعَيْمٍ نا الْبَرَاءُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نا أَبُو نَضْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ، وَقَالَ: «إِنَّمَا أَحَلَّ اللَّهُ لِلنَّاسِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنِّسَاءُ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ، ثُمَّ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ بَعْدُ، فَلَا أَقْدِرُ عَلَى أَحَدٍ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَتَحِلُّ بِهِ الْعُقُوبَةُ» قلت: هذا خبر موضوع مكذوب والله، فالبراء الغنوي مجمع على ضعفه، خصوصا فيما يرويه عن أبي نضرة. ولم يصح السند إليه، فشيخ الطبراني هو أحمد بن محمد بن الحجاج ابن رشدين موصوف بالكذب والوضع، وكذلك شيخ الدارقطني ابن أبي داود، اتهمه أبوه صاحب السنن وغيره بالكذب. ومما يدل على بطلانه واختلاقه، أن سيدنا ابن عباس كان من أشد الصحابة معارضة لمنع المتعة، حتى صار أول وأشهر من ينسب إليه مذهب إباحتها. فكيف يروي عن سيدنا عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم المتعة، ثم يفتي بخلاف ذلك إلى أن مات؟ ورغم وضوح بطلان هذين الأثرين المكذوبين على الفاروق، فإن بعض كبار العلماء يحتجون بهما، وفيهم محدثون وحفاظ كالجبال. وهذا أكبر برهان على تغلغل التعصب والمذهبية في علمائنا غفر الله لهم، وهو أقوى حجة على انتفاء الدليل الصحيح عندهم، فاحتموا بالضعيف والموضوع ظانين أن البحث الموضوعي لن يكشفهم. سؤال وجيه: هل يجب احترام قرار الفاروق وعدم تغييره؟ إن قرار الفاروق اجتهادي منطلق من ظروفه الاجتماعية وبساطته الإدارية، ولسنا ملزمين بقراراته رضي الله عنه ولا بقرارات غيره من الخلفاء، وإنما نحن ملزمون بأوامر الله ورسوله التشريعية، بالنظر إلى أحوالنا وظروفنا العصرية. والفاروق كان عليه أن يشدد الإجراءات القانونية، لا أن يمنع المتعة بالكلية، لأن قراره أحد أسباب فشو الزنا في الأمة كما يفيد قول ابن عباس، ثم إنه أدى إلى اعتقاد تحريم المتعة المشروعة من قبل الناس. وربما يكون الفاروق معذورا لأنه لم يجد الوسائل القانونية لضمان عدم انزلاق المجتمع إلى الهاوية بسبب إخفاء المتعة وإنكار المواليد الناتجين عنها، وباستطاعة رجال القانون اليوم أن يبدعوا الوسائل الكفيلة بحماية المجتمع المعاصر مما تخوفه الفاروق. فشتان بين أوضاعنا وأوضاع أهل القرن الأول إدارة وتنظيما وقانونا. وإذا جاز للفاروق أن يخالف ما كان ثابتا زمن النبوة وخلافة الصديق رعاية لمصالح الأمة، فإن مخالفته أولى بالجواز، لأننا سنترك سنته ونأخذ بسنة نبي الرحمة، بل بسنته أيضا قبل أن يمنع وينهى. ولنا في هذا المثال درس وعبرة: شهد على الوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بشرب الخمر، فَقَالَ سيدنا عُثْمَانُ لِمولانا علي بن أبي طالب: أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَأَمَرَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ أَنْ يَجْلِدَهُ، فَأَخَذَ فِي جلده وَعَلِيٌّ يَعدُّ حَتَّى جَلَدَ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ قَالَ علي لعبد الله: «أَمْسِكْ؛ جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ». رواه أحمد ومسلم وغيرهما. ونحن نقول: أذن النبي صلى الله عليه وسلم في المتعة، وتبعه خليفته الصديق، ومنعها الفاروق سياسة، وكل سنة، وما كان عليه رسول الله أحب إلينا وأنسب لعصرنا وظروفنا. ومن يقدم قرار الفاروق على النبي والصديق، فهو محروم من التوفيق. الخلاصة: كان سيدنا الفاروق مقرا مشروعية المتعة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر خلافته. ولم يصح أنه احتج على قرار المنع بنهي أو تحريم سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فالأسانيد التي نقلت ذلك عنه كلها واهية، ورغم تعددها لا تنجبر ببعضها ولا تعتضد لشدة ضعفها. ثم إن متونها مشتملة على نكارات واضحة. وتضمنت خطبة منع المتعة، إشارات قوية على أنه لا ينكر إباحتها، وقرائن صريحة في أنه مجتهد لا تابع. رضي الله عن سيدنا عمر والصحابة الكرام، وجمعنا بهم في جنات النعيم مع عظيم المقام، وصلى الله على شفيع المذنبين يوم الزحام. -خريج دار الحديث الحسنية [email protected]