هوية بريس – الأربعاء 24 دجنبر 2014 إن ما تفشى في كثير من المجتمعات الإسلامية؛ من الاستهانة بأمر الدين والسخرية من بعض مقدساته والتنقيص منها وسبها..؛ يحتم على العلماء والدعاة بيان خطورة هذا السلوك، وتوضيح ما يتعلق به من أحكام شرعية وآداب مرعية. وقد رأيت تناول هذا الموضوع؛ من خلال أربع مسائل: الأولى: بيان حكم المزاح بما فيه سب أو تنقص أو هزء بالله سبحانه ورسله وملائكته ودينه: قال الله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ، وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (التوبة:64-66). أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} قال: «قال رجل من المنافقين: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وما يدريه بالغيب؟». وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين، فقالوا: يرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات! فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «احسبوا عليَّ هؤلاء الركب». فأتاهم فقال: «قلتم كذا قلتم كذا». قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم ما تسمعون». وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره وأناس من المنافقين يسيرون أمامه، فقالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً فلنحن أشر من الحمير»[1]. قال القاضي أبو بكر بن العربي: «لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا؛ وهو كيفما كان كفر؛ فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة»[2]. قال العلامة الألوسي: «{قَدْ كَفَرْتُمْ} أي أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن فيه {بَعْدَ إيمانكم} أي إظهاركم الإيمان. واستدل بعضهم بالآية على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء، ولا خلاف بين الأئمة في ذلك»[3]. «فجانب الربوبية والرسالة والوحي والدين؛ جانب محترم لا يجوز لأحد أن يعبث فيه لا باستهزاء، ولا بإضحاك، ولا بسخرية، فإن فعل فإنه كافر؛ لأنه يدل علىاستهانته بالله عز وجل ورسله وكتبه وشرعه، وعلى من فعل هذا أن يتوب إلى الله عز وجل مما صنع، لأن هذا من النفاق، فعليه أن يتوب إلى الله ويستغفر ويصلح عمله ويجعل في قلبه خشية الله عز وجل وتعظيمه وخوفه ومحبته»[4]. المسألة الثانية: بيان عقوبة الفاعل: وهي قسمان: دنيوية وأخروية: أولا: الدنيوية: وهي نوعان: الأول: إقامة الحد: أجمع علماء الإسلام على أن من تنقص النبي صلى الله عليه وسلم -فضلا عمن تنقص الله تعالى- مرتد؛ يقام عليه حد الردة: قال القاضي عياض: «أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين وسابه». وذهب المالكية إلى أنه لا يستتاب: قال ابن القاسم عن مالك: «من سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم يستتب». قال ابن القاسم: «أو شتمه أو عابه أو تنقصه؛ فإنه يقتل كالزنديق، وقد فرض الله توقيره، وكذلك قال مالك في رواية المدنيين عنه: «من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شتمه أو عابه أو تنقصه؛ قتل مسلما كان أو كافرا، ولا يستتاب» اه. قلت: والراجح -والله أعلم-؛ أنه يستتاب كما قال أبو حنيفة والشافعي، فإن أظهر التوبة قبل منه. وإقامة الحد من مسؤولية الإمام واختصاصه، ولا يجوز لفرد من الأمة فعله إلا إذا كان مُوَكّلا من الإمام. النوع الثاني: تلحقه اللعنة في الدنيا؛ يبينه: ثانيا: العقوبة الأخروية: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً} (الأحزاب:57). قال في نظم الدرر (6/454): «{إن الذين يؤذون} أي يفعلون فعل المؤذي.. {الله} أي الذي لا أعظم منه ولا نعمة عندهم إلا من فضله. {ورسوله} أي الذي استحق عليهم بما يخبرهم به عن الله مما ينقذهم به من شقاوة الدارين ويوجب لهم سعادتهما ما لا يقدرون على القيام بشكره؛ بأي أذى كان. {لعنهم} أي أبعدهم وطردهم وأبغضهم {الله} أي الذي لا عظيم غيره. {في الدنيا} بالحمل على ما يوجب السخط {والآخرة} بإدخال دار الإهانة. ولما كان الحامل على الأذى الاستهانة؛ قال: {وأعد لهم عذاباً مهيناً}». قال العلامة الطاهر بن عاشور: «لما أرشد الله المؤمنين إلى تناهي مراتب حُرمة النبي صلى الله عليه وسلم وتكريمه، وحذّرهم مما قد يخفى على بعضهم من خفيّ الأذى في جانبه بقوله: {إن ذلكم كان يؤذي النبي} [الأحزاب:53]، وقوله: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} [الأحزاب:53]، وعلّمهم كيف يعاملونه معاملة التوقير والتكريم.. أردَفَ ذلك بوعيدِ قومٍ اتّسموا بسمات المؤمنين، وكان من دأبهم السعي فيما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام، فأعلم الله المؤمنين بأن أولئك ملعونون في الدنيا والآخرة، ليعلم المؤمنون أن أولئك ليسوا من الإِيمان في شيء وأنهم منافقون؛ لأن مثل هذا الوعيد لا يعهد إلا للكافرين.. واللعن: الإِبعاد عن الرحمة وتحقير الملعون؛ فهم في الدنيا محَقَّرون عند المسلمين ومحرومون من لطف الله وعنايته، وهم في الآخرة محقرون بالإِهانة في الحشر وفي الدخول في النار. والعذاب المهين: هو عذاب جهنم في الآخرة، وهو مهين لأنه عذاب مشوب بتحقير وخزي. والقرن بين أذى الله ورسوله للإِشارة إلى أن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم يُغضب الله تعالى فكأنه أذىً لله» اه.[5] المسألة الثالثة: لا يجوز نقل ذلك الباطل العظيم دون إنكاره، ومن فعل لحِقَه الوعيد؛ لأن فعله هو أعلى أنواع الإقرار: قال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} (النساء:140). أخرج ابن المنذر عن السدي في الآية قال: «كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول الله والقرآن فشتموه واستهزؤوا به، فأمر الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره»[6]. قال الإمام الطبري: «وقوله: «إنكم إذًا مثلهم» يعني: وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون..؛ فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال: مثلُهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آياتِ الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله..؛ فأنتم إذًا مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه»[7]. قلت: إذا كان هذا حكم القرآن فيمن يجالس ويسمع كلام من يستهزئ بدين الله؛ فأولى بالحكم منه من ينقل ما يجري في مجالسهم دون إنكاره؛ فالحكاية أشد من الاستماع. المسألة الرابعة: بيان الضوابط الشرعية للمزاح والضحك: والمراد بالمزاح: إدخال السرور بالملاطفة والانبساط؛ وهذا مشروع في ديننا: قال الإمام البخاري في صحيحه: «باب الانبساط إلى الناس… عن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْر». وعن الحسن قال: «أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ ادع الله أن يدخلني الجنة. فقال: «يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز». قال: فولّتْ تبكي. فقال: «أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز؛ إن الله تعالى يقول: {إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارا. عربا أترابا}»[8]. وفي الباب أحاديث كثيرة. لكن هذه المشروعية مقيدة بضوابط: قال رجل لسفيان بن عيينة: المزاح هجنة -أي مستنكر-؟ فأجابه قائلا: «بل هو سنة؛ لكن لمن يحسنه ويضعه في مواضعه». وأهم تلك الضوابط: 1- خلوه مما يتضمن تنقيصا لله سبحانه أو رسله أو دينه.. وقد سبق بيان ما فيه. 2- عدم اشتماله على السخرية بالآخرين: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات:11). 3- خلوه من الكذب: عن بهز بن حكيم قال حدثني أبي عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له»[9]. 4- عدم الإكثار: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تكثروا الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب»[10]. [1] الدر المنثور (ج 5 / ص 107). [2]تفسير القرطبي (جزء 8 / صفحة 181). [3] تفسير الألوسي (ج 7 / ص 283). [4] المجموع الثمين (1/ 63). [5]– التحرير والتنوير (ج 11 / ص 320). [6]– الدر المنثور (جزء 2 / صفحة 718). [7]– تفسير الطبري (ج 9 / ص 320). [8]– رواه الترمذي في الشمائل وحسنه الألباني. [9]– صحيح سنن أبي داود (ج 10 / ص 490). [10]– انظر تخريجه في: السلسلة الصحيحة (ج 2 / ص 32).