الخميس 18 دجنبر 2014 كثيرة هي المعالم الحضارية الإسلامية التي خلفها المسلمون حين كانوا متمسكين بالإسلام كنظام حياة، والتي لم تقتصر على جانب دون آخر، بل شملت الجوانب السياسية والإدارية والاقتصادية والعلمية والعمرانية. ومنذ تراجع المسلمين عن مواكبة سير الحضارة الإنسانية المعاصرة، بسبب ابتعادهم عن دينهم، وسيطرة الدول الغربية على معظم المعالم الحضارية الإسلامية، من خلال استعادتهم المناطق التي فتحها المسلمون وحكموها باسم الإسلام لقرون من الزمان -كالأندلس مثلا- والغرب يحاول بشتى الوسائل سرقة هذه المعالم ماديا ومعنويا، من خلال تغيير الأساس الذي كانت عليه، وإطلاق اسم غير الاسم الحقيقي المشهور لها. وضمن هذا الإطار يأتي خبر الإجراءات التي قامت بها أسقفية قرطبة بحذفها كلمة "مسجد" من اسم "مسجد كاتدرائية قرطبة" على موقعها الإلكتروني وعلى تذاكر السياح الذين يزورونه وغيرها من المواد الدعائية للتعريف به، وهو الاسم المعروف لهذا المعلم الإسلامي التاريخي طوال القرون السابقة، وهو ما يعتبر سرقة مادية ومعنوية لهذا المعلم الحضاري الإسلامي بكل المقاييس. ومسجد قرطبة بناه المسلمون في القرن الثامن الميلادي، وهو من أكبر معالم قرطبة التي كانت مصدر إشعاع ثقافي في تلك الفترة، وعندما سيطر المسيحيون على قرطبة في القرن الثالث عشر الميلادي أقاموا كاتدرائية وسط المسجد وهذا ما جعل المبنى الأثري يشهد خلافا دائما حول تسميته الدينية. وبحسب مراسل الأناضول، فقد قامت الأسقفية بطبع عبارات اختفى منها أي ذكر لمسجد قرطبة، كما تحمل اللافتات في الموقع السياحي عبارة "الأسقفية ترحب بكم في الكنيسة الكاتدرائية". ورغم اعتراض واحتجاج حكومة إقليم الأندلس (جنوبي إسبانيا) على هذا الإجراء، وتصريح وزير السياحة في إقليم الأندلس "رفائيل رودريغوز" لصحيفة البايس الإسبانية "بأن محاولة إخفاء حقيقة المسجد هو أمر غير معقول، ويشبه محاولة تسمية قصر الحمراء قصر تشارلس الخامس" إلا أن السرقة الحضارية قد تمت على ما يبدو. والحقيقة أن الأمر ليس مجرد تغييب حقيقة المعلم الإسلامي من خلال شطب اسم المسجد منه، بل يتعداه إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير، ألا وهو تغييب الهوية الإسلامية عن بلاد الأندلس، وإخفاء كل ما يمت إلى الحقبة الإسلامية الحضارية الطويلة والعميقة لهذه الأرض. وقد أكد ذلك المحلل السياسي ومؤسس مركز "بويرتا د سول" للعلاقات الدولية حميد بالحسن بقوله: "يتعلق الأمر بتغير وضع قائم منذ زمن طويل، قرار أسقفية قرطبة يأتي في إطار تغيير وتغييب المكون الإسلامي لهذه البلاد، وأخشى أن المسألة تتجاوز موضوع تغيير اسم موقع أثري رغم أهمية ورمزية المكان بالنسبة للمسلمين في إسبانيا". أما ادعاء الأسقفية المسؤولة عن المسجد بأنها لا تنكر تاريخ المسجد فهو ادعاء باطل، لأنها بهذا التصرف تحاول طمس الحقيقة التاريخية، وتغيير الهوية الإسلامية للمسجد، ناهيك عن كونها قد حولت المسجد إلى كاتدرائية من قبل، وهو ما تعتبره ذريعة في شطب اسم المسجد عنه في تصريح نقلته صحيفة الغارديان البريطانية عن المتحدث باسم مسجد كاتدرائية قرطبة "خوسيه خوان خيمينيز غويتو". ورغم تأكيد "ماريام ايزابيل روميرو" رئيسة لجنة المآثر التابعة للهيئة الإسلامية الإسبانية "استحالة ما تحاوله الأسقفية من محو التاريخ ، وبأن اللجنة ستدافع عن أي أثر تاريخي لأي ديانة، معتبرة مسجد قرطبة هو رمز تاريخي للجميع ويجب الحفاظ عليه وعدم المساس به"، إلا أن ذلك لا ينفي خطر ما قامت به الأسقفية على الهوية الإسلامية في الأندلس. إن الحقيقة أن خطورة ما جرى يكمن في تزايد أمثال هذه الحوادث التي تمس الهوية الإسلامية في الأندلس كما يقول محمد المختار ولد عبد الله الباحث في تاريخ الأندلس وإمام مسجد "بويرتا د روساري" بجزر الكاناري، مؤكدا أن ما حصل في مسجد قرطبة هو من بين حوادث كثيرة نلاحظها في السنوات الأخيرة تؤثر على حيوية التراث الإسلامي في الأندلس، مشيرا إلى أن هنالك تجاوزات تحصل وتمس الهوية الإسلامية لهذا التراث. لا شك أن قرار الأسقفية ما كان ليمر لولا ضعف المسلمين وقلة حيلتهم أمام سطوة الغرب وهيمنته العسكرية والاقتصادية والسياسية حاليا، وهو ما يستدعي استعادة المسلمين لقوتهم الكامنة في دينهم، من خلال العودة إليه عودا جميلا، ليمنعوا سرقة معالمهم الإسلامية الحضارية أمام أعينهم.