– يحيى البوليني (مركز التأصيل) الثلاثاء 30 شتنبر 2014 لم تكن العلمانية كحركة فكرية لتظهر في العالم الإسلامي في عصور ازدهاره حيث كان الإسلام يحكم جميع نواحي الحياة، وكان المسلمون يحملون مشاعل الهداية وينشرون العلم لكل أرجاء الأرض، فكانت الحالة العلمية والعملية للمسلمين لا تسمح إطلاقا بنمو بذور تلك الفكرة الخبيثة والتي ظهرت أول ما ظهرت في القارة الأوروبية كرد فعل على التسلط الكهنوتي فيما يسمى بعصور الظلام العلمية والفكرية. إذا كانت العلمانية التي تعني فصل الدين عن كل مناحي الحياة، فان أهم أسباب ظهورها مواجهة سلطان قساوسة الكنيسة في أوروبا بعد تغولهم وتدخلهم في كل شيء، ووقوفهم حجر عثرة أمام العلم وأهله، لتخرج العلمانية لتحبس الدين داخل مبنى الكنيسة فقط، تحت الشعار المنسوب للنصرانية "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله". وحينما نقلت إلى ديار الإسلام واجهت هذه الفكرة معارضة شديدة على مستوى الفكر الإسلامي؛ لغربتها كل الغرابة عن الواقع الإسلامي، فاحتاجت إلى أعوان يساندونها من المسلمين، ولم يجدوا أفضل من يساندها من الطرف الإسلامي من الذين يطبقونها فعليا – بوجه آخر – تحت مسمى الطرق الصوفية. ومن الطبيعي أن العامل المباشر لظهور الفكرة في العالم الإسلامي هو المرحلة التاريخية للاحتلال الغربي لديار الإسلام تحت اسم "الاستعمار"، إلا أنه وجد أرضا ممهدة له بوجود انحرافات ضخمة في الفكر الإسلامي السائد الذي تزعمه الصوفية حينئذ، مع وجود انحرافات أخرى كثيرة على مستوى العقيدة والعبادة واختلال في البناء الذاتي للمسلم من حيث الأفكار والتصورات والسلوك، فلما قدم المستعمرون وجدوا الطرق ممهدة تماما لنشر فكرتهم العلمانية، واستطاعوا استقطاب الكثيرين إليهم لتبدأ مرحلة انتشار وتمدد للفكرة العلمانية التي يعاني منها المجتمع الإسلامي لليوم. فالطرق والفرق الصوفية تنزع الإسلام من كل جوانب الحياة لتحصره هو أيضا في الزوايا والتكايا والخلوات وتجعل منه دينا كهنوتيا يمارس فقط للزاد الروحي بعيدا تماما عن أي تطبيق له على الواقع، فالتقت الأفكار والمصالح لتدعم الصوفية -بعمد أو بجهل وغباء- الفكرة العلمانية في بلاد العالم الإسلامي، ولتحصل الفرق الصوفية على ثناء العلمانيين والليبراليين بوصفهم أصحاب الفهم الإسلامي المستنير، ولنجد الثناء المتبادل بينهما على حساب الإسلام والمسلمين. وعلى الرغم من كون الصوفية قد تشابهوا كثيرا مع رجال الكنيسة في العصور التي سمتها أوروبا بعصور الظلام إلا أن العلمانيين لم يصطدموا معهم، فالشيخ الصوفي يبسط نفوذه القوي على أتباعه باسم الدين، فاخترع الصوفية مقالة تضمن ولاء الأتباع لهم وهي "من لم يكن له شيخ، فشيخه الشيطان"، واخترعوا كذلك الاعتراف للشيخ الذي يجب وان يعلم كل سر وجهر في حياة المريد حتى خطرات نفسه، ويجب على المريد أن يعلم شيخه بخطاياه حتى يتحملها عنه، وهو ما يماثل صكوك الغفران عند النصارى، وبهذا وجد العلمانيون في زعماء الطرق الصوفية والمنتسبين لهم ضالتهم في النفاذ للأمة الإسلامية، لأنهم يحققون لهم عدة ميزات تخدم فكرتهم وتساهم في انتشارها، ومنها: – نشر الجهل والخرافات والبدع في العالم الإسلامي. نظرا للتقسيم الذي ابتدعته الصوفية للدين وجعله ما بين شريعة للعوام وحقيقة للخواص، ادعى الصوفية أن العلوم الشرعية الإسلامية لا يكلف بها إلا العوام فقط، ويقصدون بهم كل المسلمين من غير السائرين في طريق الصوفية من عارفين ومريدين، فازداد جهل الناس في دينهم، فيذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قول بعض من غلاتهم في الصد عن العلم وإعمال العقول، فينقل عنهم: "من أراد التحقيق فليترك العقل والشرع"1، ولهذا يعقب فيقول "كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم"2. ويرصد الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله أثر الصوفية في هدم وتمزيق الأمة الإسلامية بنشرهم للخرافات والبدع فيقول: "وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس سجفاً من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عديد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور، وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يشرب الخمر والأفيون (والحشيشية)، في كل مكان، وانتشرت الرذائل وهتكت ستر الحرمات من غير خشية ولا استحياء"3. – ترك ميادين العلم الشرعي والدنيوي. حارب الكثير من الصوفية العلم الشرعي وقطعوا الناس عن المعين الأساسي للعلم الشرعي وهو القران الكريم، فحرفوا تفسيره بعدة تأويلات باطنية إشارية ليس لها من القرآن نصيب، ليتم عزل الناس عن قراءة القرآن وتدبره، بادعائهم أن له ظاهرا عاما للعوام وباطنا خاصا لسادة الصوفية لا يعلمه غيرهم؛ ليكون الاتصال بالقرآن الكريم نفسه منقطعا إلا عن طريقهم. ومن بعض تفسيراتهم الباطنية الإشارية كما يزعمون في وقله تعالى: "فاخلع نعليك" يفسرها الشيخ عبد الغني النابلسي "أي صورتك الظاهرة والباطنة يعني جسمك وروحك فلا تنظر إليها لأنها نعلاك"4، وقالوا عن آية "وإن يأتوكم أسارى" أي غرقى في الذنوب، "والجار ذي القربى" أي القلب، "والجار الجنب" أي النفس، ورغم أن سهلا ابن عبد الله التستري قال: "احفظوا السواد على البياض (يعني العلم) فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق"5؛ إلا أنه هو نفسه فسر "ولا تقربا هذه الشجرة" بقوله: (لم يرد معنى الأكل في الحقيقة وإنما أراد أن لا تهتم بشيء غيري)، فقال الشاطبي تعليقا على قوله: "وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس"6. ومن محاربتهم لتلاوة القرآن وتعلم علم الحديث ما ذكره الغزالي "أنه رغب مرة في قراءة القرآن فمنعه شيخه الصوفي من ذلك قائلاً " السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية"7، ونقل عن الداراني قوله: "إذا طلب الرجل الحديث أو تزوج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلي الدنيا لأن الزهد عندنا ترك كل شيء يشغلك عن الله عز وجل"8، فجعلت الصوفية تلاوة القرآن وطلب علم الحديث من مشاغل الدنيا ومن الركون إليها، ويعلق ابن الجوزي علي ذلك قائلاً: "عزيز أن يصدر هذا الكلام من فقيه، فإنه لا يخفي قبحه فإنه طر لبساط الشريعة التي حثت علي تلاوة القرآن وطلب العلم"9. فإذا كان هذا الاحتكار لفهم وتفسير القرآن الكريم وتجهيل وصد الناس قد فعلوه بكتاب الله سبحانه فكيف بما فعلوه فيما سواه من كتب العلم من السنة الشريفة وكتب الفقه وغيرها من العلوم الإسلامية؟ وبالجملة فإن الصوفية يعتبرون أن ترك علم الحقيقة والاتجاه إلى علم الشريعة انحطاط في همة المريد -كما يلقبون كل من يلحق بهم- وجعلوه عائقا لمن يناله عن بلوغه طريقهم، فيذكر القشيري أن الدقي سئل عن سوء أدب الفقراء مع الله فقال: "انحطاطهم من الحقيقة إلى العلم"10، وذكر الغزالي في الإحياء عن الجنيد أنه قال: "أحب للمريد ألا يشغل قلبه بثلاث و إلا تغيرت حاله: التكسب، طلب الحديث، التزوج"11، وروى أيضا عن أبي سليمان الداراني قوله: إذا طلب الرجل الحديث، أو تزوج، أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا"12، واثنى ابن عجيبة في فتوحاته الإلهية على قولهما وذكر أنه متفق على قبوله عند الصوفية"13. وفي الوقت الذي أهمل فيه القرآن الكريم والسنة الشريفة المطهرة وكتب العلم الشرعي الصحيح ألزم الناس بقراءة أوراد ليس لها أدنى سند شرعي، إلا أهواء الشيوخ والأولياء وكان بعضها بلغة غير عربية أو غير مفهومة إمعانا في تضليل الناس. – تضييع العبادات والتلاعب بالدين. كما ضيع الصوفية العلم الشرعي ساهموا في تضييع العبادات عند الناس، فصار الدين لعبة يتلاعب بها شيوخهم، فيمكن أن يكون الإنسان وليا صالحا -عند الصوفية- وهو تارك للصلاة لا يصلي جمعا ولا جماعات، ويمكن أن يكون مرتكبا للمنكرات كلها شاربا للخمر زانيا ومرتكبا لكافة أنواع الفواحش ولا يقدح ذلك في ولايته، فيذكر الشعراني في طبقات الصوفية مواصفات وأفعال لمن يدعي أنهم أولياء لا يظهر منها أي اثر للإسلام فضلا عن الولاية فيحكي عن "الشيخ محمد العدل الذي يظل سنة كاملة لا يحضر فيها جمعة ولا جماعة، والشيخ الشربيني الذي لم يكن يحضر الصلوات أبدا، ولما طلب منه جماعة من الفقهاء أن يذهب معهم لصلاة الجمعة اعتذر وقال: (ما لي عادة بذلك)، فلما أنكروا عليه قال: "نذهب اليوم لأجلكم"، والشيخ شريف المجذوب الذي كان يفطر في نهار رمضان"14، وغيرهم الكثير جدا من حكايات زندقة وكفر من يدعي أنهم أولياء لله. بل صار عندهم البله والمجانين والمجاذيب أولياء أيضا لله سبحانه رغم أنهم كفاقدين للعقل ليس عليهم أي تكليف لا يصح منه إيمان ولا عبادة فكيف باعتبارهم أولياء؟، وامتلأت كتب الطبقات والتراجم لديهم بذكر هؤلاء المجانين بهلول المجنون وأبي علي المعتوه وابن القصاب المجنون والشبلي الذي دخل المارستان مرتين وعمر المجذوب وإبراهيم العريان وغيرهم ما لا يستعصي على الحصر"15. وضيع الصوفية أيضا العلم الدنيوي الذي يقيم الحضارات ويرفع شأن الأمم، فبعد أن كان المسلمون يعلمون الأمم العلم صور لهم الصوفية أن للكون من يديره وينظمه ويقوم على شأنه وهم أقطاب وأوتاد الصوفيين، فما عليهم إن أرادوا أن ينتصروا على عدوهم سوى اللجوء للولي الحي أو لقبر ولي مدفون. فعند الرفاعية الصوفية قراءة الفاتحة 300 مرة تكفيهم شر عدوهم، أما إهلاكه وقتله فلا يتطلب منهم سوى قراءتها 1000 مرة"16، وعندهم حزب يسمى بحزب السيف القاطع الذي يدعون أن من يداوم عليه لا يخذل ولا يهان ويكون بعين الله وظل رسوله، وهو خلط وتلاعب بترتيب آيات الله تعالى كما يفعل السحرة. ومثاله: "وتقطعت بهم الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب وجعلنا له نورا يمشي به في الناس، فلما رأينه أكبرنه قالوا تالله لقد آثرك الله علينا إن الله اصطفاه عليكم شاكرا لأنعمه". وبين كل مجموعة من الآيات يكتبون: "أعداؤنا لن يصلوا إلينا بالنفس ولا بالواسطة، لا قدرة لهم على إيصال السوء إلينا بحال من الأحوال"17. وصدق السذج من المسلمين ذلك فاستمعوا لشاعر صوفي يناديهم في فتنة التتار وهجومهم الكاسح على الأمة الإسلامية ويقول: "يا خائفين من التتر عوذوا بقبر أبي عمر ينجيكموا من الضرر"18. فلاذوا بقبر أبي عمر فما أغنى عنهم شيئا وقتل كل من في بغداد من المسلمين، وذكر الشعراني في الطبقات أن الصوفية لما هجم الصليبيون على ثغر دمياط في الوقعة المشهورة كان الصوفية يعكفون على قراءة رسالة القشيري!! – الكسل والقعود وترك العمل والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كان لانتشار عقيدتي الإرجاء والجبر من خلال الصوفية تأثير كبير في ظهور روح السلبية والاستسلام التام في صفوف المسلمين إذ تشابك هذا الانحراف الإرجائي مع مفهومي العبادة والقضاء والقدر عند الصوفية، فتحول مفهوم الزهد الإيجابي الذي حث عليه الإسلام وكان عليه الزهاد الأوائل إلى سلوك سلبي انسحابي يأخذ صورة التفرغ للعبادة في مكان منعزل (مسجد أو زاوية أو خلوة أو ربما كهف في جبل)، في حين اتهم من يتجه إلى معالجة شؤون الدنيا بالدين على انه مقصر ومفرط في عبادته. وبالتالي تركت فرضيتا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك أيضا الجهاد في سبيل الله ضد القوى الاستعمارية الأجنبية التي احتلت بلاد المسلمين، بل كان لهم دور خبيث في إعانة الاستعمار ومساعدته في الاستيلاء على بلاد المسلمين، فصوفية مصر ادخلوا نابليون بونابرت حلقة من حلقات الذكر وألبسوه جبة المشيخة ورحبوا به على أنه قدر الله، وذُكر أنه حمل المسبحة وسمى نفسه الدرويش عبد الله نابليون، وتيجانية المغرب كانوا في خدمة الفرنسيين وساهموا مساهمة فاعلة في ترسيخ أقدامهم في شمال أفريقيا وغربها، وختمية السودان مهدوا الطريق لدخول الإنجليز وثبطوا الناس عن مقاومة المحتل وساهموا في القضاء على الثورة المهدية. وكما أفقدت الصوفية الأمة روح الجهاد، فقتلت فيهم روح الحياة الكريمة ومقاومة المستبد وتقويم الحاكم بصورتها الشرعية، فدفعت الناس إلى الهروب إلى الزوايا والتكايا والخلوات منكرة عليهم أي تدخل في إصلاح بأمر بمعروف غائب أو نهي عن منكر قائم. كما ترك السعي على المعايش -على سبيل التدين بذلك- بعد أن أشيعت هذه الروح الكسولة في الأمة حتى قال احدهم: "فلو ترك الشخص العمل وهو قادر عليه غير معتمد على السؤال من شخص معين أو على الشحاذة، بل كان غير متعرض لذلك، واثقاً بربه أنه يسوق إليه رزقه فلا إثم عليه"19، وبذلك جعلوا النوم والخمول في الزوايا وترك العمل من التوكل، وصدق وصف أبي بكر الطرطوشي التصوف حين وصفه بأنه مذهب البطالة. وبإشاعة هذه الروح في الأمة الإسلامية فقدت الأمة قوتها، ولم تستطع التخلص من أوهام الصوفية لقرون طويلة؛ نظرا للإرهاب الفكري الذي يضغطون به على الناس، إذ يمنعون متبعيهم من السؤال تحت قول: "من قال لشيخ لِمَ لم يفلح"، ويهددون العلماء بتسويق الخرافات للعامة في القصص الخيالية التي يخترعونها، مثل الحكاية التي ساقها النبهاني في جامع كرامات الأولياء فقال: "قال المناوي: قال لي فقيه عصره شيخنا الرملي: إن بعض المنكرين رأى أن القيامة قد قامت، ونُصِبَتْ أوانٍ في غاية الكِبَر، وأُغْلِيَ فيها ماء يتطاير منه الشرر، وجيء بجماعةٍ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، فصُلِقوا فيه حتى تَهَرَّى اللحم والعظم، فقال: ما هؤلاء؟ قال: "الذين ينكرون على ابن عربي وابن الفارض"20، وتعج كتب الصوفية بمثل هذه الخرافات التي يتهددون بها كل من يقترب من عروش سلاطينهم. ويلخص أبو الحسن الندوي حال المسلمين التي أوصلهم إليها الصوفية في القرون الأخيرة حيث أصبحت لهم القيادة والريادة العلمية في العالم الإسلامي فيقول: "لا بد أن نشير إلى أن ذلك الوسط والعهد (القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين)، كان التصوف فيهما قد تغلغل في أحشاء المجتمع الإسلامي، وامتزج بلحمه ودمه، حتى أصبح التصوف له طبيعةً وذوقاً، وسمةً وشعاراً، بل كانت العامة لا تعبأ بعالم أو مرب أو مصلح، ولا تقيم له وزناً، ولا تعتقد فيه الخير والصلاح، ولا تنتفع بمواعظه وكتاباته، ما لم يكن له إلمام بالتصوف والسلوك، ويكون قد صحب بعض المشايخ المعروفين، وانخرط في سلك بعض الطرق السائدة المقبولة في الناس"21. فهل كان العلمانيون يحلمون بفرصة أفضل من هذه لنشر فكرتهم الخبيثة في ديار المسلمين؟ تلك الفرصة التي منحها لهم الصوفية عن عمد أو جهل. ولهذا لوحظ انكباب المستشرقين ومن ورائهم علمانيي العرب على التنقيب عن تراث هؤلاء المنحرفين الزائغين أصحاب فكرة الحلول والاتحاد ووحدة الوجود من الصوفية الأوائل، فيقول د.ناصر الحنيني: "المتأمل في تاريخ هؤلاء الليبراليين يلحظ بجلاء أن انكبابهم على تراث المنحرفين الزائغين من أمثال الصوفية الزنادقة والفلاسفة الملاحدة -مع ضعف العلم والبصيرة- كان هو نقطة التحول الرهيبة في حياتهم الفكرية مثلما كان هو الشرارة النارية الأولى في تغير نسيجهم الثقافي، حيث يفعل ذلك التراث فعله الفظيع في النفس الإنسانية إذ يغرز فيها حب التفلت والتحرر من أي قيود أو ضوابط شرعية كما أنه يعمق فيها منهج الشك في كل شيء حتى في قطعيات الدين وثوابته الراسخة"22. ويلاحظ قطعا أن الحكومات قد تختلف والأنظمة السياسية قد تتصارع ويعقب بعضها بعضا وأن الدول قد تتحارب ولكنهم لا ينحرفون عن فكرة دعم الصوفية في بلدانهم، فهم مسلمون نموذجيون بالنسبة لهم، فلا يهتم الصوفية بشرق أو بغرب، ولا بعدو أو صديق ولا بسياسة ولا بحكم، وكل همهم منصب فقط في ممارسة طقوسهم وبدعهم وخرافاتهم وإقامة موائدهم وموالدهم وقراءة أورادهم ومدائحهم واحتفالات رقصهم وجمع أموال صناديق نذورهم. وغير خاف ما ذكره الجبرتي عن اهتمام نابليون بونابرت بإقامة حفل الصوفية بالمولد النبوي الشريف فقال "سأل صاري العسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم فاعتذر الشيخ البكري بتوقف الأحوال وتعطل الأمور وعدم المصروف فلم يقبل وقال (لابد من ذلك) وأعطى الشيخ البكري ثلاثمائة ريال فرانسة يستعين بها فعلقوا حبالا وقناديل واجتمع الفرنسيس يوم المولد ولعبوا ودقوا طبولهم واحرقوا حراقة في الليل وسواريخ تصعد في الهواء ونفوطا". وعلق الجبرتي على سبب اهتمام نابليون بالمولد فقال -وهو المؤرخ المعاصر له-: "ورخص الفرنساوية ذلك للناس لما رأوا فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات"23. وتبعه في ذلك كل قائد محتل للبلاد، فداوم على ذلك المندوب السامي البريطاني، فكما يقول الدكتور عمر فروخ: (يجب ألا نستغرب إذا رأينا المستعمرين يغدقون الجاه والمال على الصوفية، فرب مفوض سام لم يكن يرضى أن يستقبل ذوي القيمة الحقيقة من وجوه البلاد، ثم تراه يسعى إلى زيارة حلقه من حلقات الذكر ويقضي هنالك زيارة سياسية تستغرق الساعات، أليس التصوف الذي على هذا الشكل يقتل عنصر المقاومة في الأمم؟)24. ومنذ أن قام نابليون بذلك ومن بعده كل مندوب سام بريطاني -وهم من وضعوا بذور العلمانية في مصر والمشرق الإسلامي ومن رعوها حتى أفرخت- من يومها ولا يتخلف قادة الأنظمة في الدول العلمانية حضور احتفالات وطقوس الفرق الصوفية ويباركونها ويشجعونها بالمال وبالإعلام والحماية والأمن. ساهم الصوفية في تحويل الإسلام إلى النموذج الذي يرضى عنه الغرب فحولوه إلى طقوس وثنية وأهازيج الشعرية وطبول ومزامير وتمايل ورقص، فرضي الغرب عنهم ورضي العلمانيون بهم وصاروا جميعا يدا واحدة على كل من ينكر على الصوفية تضييعهم للدين وتمزيقهم لدولة الإسلام من النواحي السياسية والاقتصادية والفكرية. [1] مجموع الفتاوى (11/243) باب مناقضة ابن عربي للرسل [2] مجموع الفتاوى (2/174). [3] الإمام الدهلوي، (ص:34). [4] بدوي: شطحات الصوفية (ص:195).. [5] تلبيس إبليس (ص:325). [6] القاسمي: محاسن التأويل (1/73). [7] ميزان العمل للغزالي (ص:31). [8] الإحياء 1/61 و 2/24 و 2/237 و 4/229. [9] تلبيس ابليس 323. [10] الرسالة القشيرية 126. [11] الإحياء 4/239. [12] إحياء علوم الدين 1: 61، 4: 24، 2: 237، 4: 229. [13] الفتوحات الإلهية 271. [14] طبقات الشعراني 2: 126 و136 و144و150. [15] كتاب المختار من كلام الأخيار لمحمد علوي 8: 197 وطبقات الشعراني. [16] الكليّات الأحمدية/89. [17] قلادة الجواهر ص:271. [18] ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم). [19] بغية الطالب للحبشي 264، وهو عبد الله الهرري الحبشي، يدعو إلى تصوف يقسّم مصادر المسلمين إلى حقيقة وشريعة وظاهر وباطن ويدّعي أخذ العلوم عن الله بما يسمونه "العلم اللدني" والاجتماع بالخضر وبأرواح المشايخ وأخذ البيعة والعهد عنهم وهم في قبورهم وغير ذلك من عقائد الصوفية الباطلة. [20] "جامع كرامات الأولياء" للنبهاني (2/218) ط. دار صادر – بيروت. [21] الإمام السرهندي حياته وأعماله، (ص:124). [22] التطرف المسكوت عنه أصول الفكر العصراني لناصر الحنيني، (ص:20). [23] تاريخ عجائب الآثار (2/306): [24] "الألوهية في العقايد الشعبية" (ص:36-37).