لم يعيشوا حياتهم جزافا، بل كانت لهم رسالة أرادوا إيصالها للناس، إنهم أولياء الله الصالحين الذين خاضوا تجربة روحية وتأملا وجوديا لتحقيق الوعي بمقامات التقوى، وبما أننا في شهر العبادة والذكر، تأخذكم "بيان اليوم" طيلة أيام شهر رمضان المبارك، في صحبة أشهر أعلام التصوف في الإسلام، لنسافر معهم إلى عوالم العشق الإلهي، ونسبر أغوار عالم التصوف وخباياه، ولنتعرف أيضا على التنوع الكبير في أشكال الولاية والطرق إلى الله. الرحلة الرابعة والعشرون: عبد الوهاب الشعراني "إن أردت أن تكون من أهل الله، فلا تكن من أهل الدنيا، ولا أهل الآخرة" يقول في كتابه "لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق": "مما أنعم الله تبارك وتعالى به على نظري إلى الوقت الذي أنا فيه دون الماضي والمستقبل، فإن الماضي قد ذهب بما فيه من خير أو شر، وختم على صحيفته، والمستقبل، لا يدري العبد ما الله صانع فيه، وما بقي إلا الحالة الراهنة، ولا يخلو البعد فيها من أن يكون مخاطبا فيها بأحد ثلاثة أمور، إما يمتثله، وإما نهي يجتنبه، وإما قدر يرضى به، وقد قال القوم: الصوفي ابن وقته". أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري المشهور بالشعراني، ولد في قلقشندة في مصر يوم السابع والعشرين من رمضان 898 ه، وتوفي سنة 973 ه بعد إصابته بالشلل النصفي. انتقل إلى ساقية أبي شعرة من قرى المنوفية، وإليها نسبته، فيقال: الشعراني والشعراوي، نشأ يتيم الأبوين؛ إذ مات أبوه وهو طفل صغير، ومع ذلك ظهرت عليه علامة النجابة ومخايل الرئاسة، فحفظ القرآن الكريم وهو ابن ثماني سنين، وواظب على الصلوات الخمس في أوقاتها، وقد كان يتلو القرآن كله في ركعة واحدة قبل بلوغ سن الرشد. ثم حفظ متون العلم، كأبي شجاع في فقه الشافعية والآجرومية في النحو، ثم انتقل إلى القاهرة سنة 911 ه، وعمره آنذاك اثنتا عشرة سنة. حفظ القرآن في قريته وهو باكورة طفولته، مات أبوه فكلفه أخوه العالم الصوفي الورع الشيخ عبد القادر، جاء إلى القاهرة وهو ابن سبعة عشر عاما، فحفظ متون الكتب الشرعية وآلاتها على الأشياخ ثم انتقل إلى مدرسة "أم خوند"، وفي تلك المدرسة بزغ نجم الشعراني وتألق تألقا ملأ الدنيا. درس على أساتذة عصره دراسة فهم وتذوق بروح المجتهد المؤمن المحب بروح الطالب المثالي الذي ينشد الحق فلا يتعصب لمذهب من غير دليل والذي يجل أئمة الإسلام ورجال الفكر فيه، فلا يسارع إلى تخطئة أحدهم ولا يبادر إلى الاعتراض عليه، لإيمانه بأن علماء الإسلام وأئمته على هدى من ربهم. كما أخد العلم عن أكثر من خمسين شيخا، وهذا ما ذكره في كتابه الطبقات الكبرى، غير الذي ذكره عن كثير من مشايخ الصوفية وغيرهم ما جعل الصوفية يعدوه مؤرخهم الأول، ومن شيوخه الصوفيين: علي المرصفي، محمد الشناوي، علي الخواص، وغير الصوفيين كشهاب الدين الحنبلي، زكريا الأنصاري، شهاب الدين الرملي، جلال الدين السيوطي. قال عنه المستشرق "ماكدونالد" : إن الشعراني كان رجلا ذواقا نقادا مخلصا واسع العقل، وكان عقله من العقول النادرة الخلاقة في الفقه بعد القرون الثلاثة الأولى في الإسلام، ولقد كانوا يقولون إن الشعراني كان عالما فقيها وصوفيا مشهورا، وكان ينتمي إلى الطريقة الشاذلية التي أسسها الشيخ أبو الحسن الشاذلي. وقال عنه أيضا المستشرق "كولدس": "إن الشعراني كان من الناحية العلمية والنظرية صوفيا من الطراز الأول، وكان في الوقت نفسه كاتبا بارزا أصيلا في ميدان الفقه وأصوله، وكان مصلحا لا يكاد الإسلام يعرف له نظيرا، وإن في كتبه ما يعد ابتكارا محضا، لم يسبق إليها ولم يعالج فكرتها أحد قبله.