طبعا لم يكن الكم ولن يكون أبدا محددا في حياة الكاتب، ولا هو بالفيصل في الحكم على تجربته؛ فكم من كاتب حقق من خلال كتب قليلة العدد مجدا لم يحققه غيره، وأذكر من هؤلاء فرانز كافكا، الذي لم تتجاوز إصداراته عشرة كتب، أغلبها نشر بعد موته. وهناك بالمقابل من رسخ مكانته الأدبية من خلال عدد كبير من الإصدارات، من قبيل الياباني "يوكيو مشيما" ب 100 كتاب، والمصري نجيب محفوظ بأكثر من 50 كتابا. مناسبة هذا الكلام بلوغ إصداراتي، باحتساب الكتاب الجديد "وكأنه الخلود.."، أربعة وثلاثين إصدارا، انطلقت بصدور المجموعة القصصية "هواجس امرأة" الصادرة عام 2001؛ وخلال السنتين الأخيرتين فقط ظهر منها أربعة كتب. وإذ أعبر عن سعادتي بتحقيق هذا الحلم الكبير، الذي راودني عن نفسي منذ أن قررت خوض غمار تجربة الكتابة، التي أبدا لم ولن تكون سهلة ولا سالكة؛ إذ لا يدري عقباتها وصعوباتها إلا من اكتوى بنارها، وخلفت في نفسه علامات الكي المتكررة. خلال هذه الفترة الطويلة نسبيا، تعلمت الشيء الكثير عن الأدب والحياة والإنسان؛ وكلها دروس لم تأت أبدا بالمجان، فوراء كل معرفة جديدة معاناة حقيقية، تكسبك حبا جديدا من أناس غالبا ما يتعرفون عليك من خلال الكتابة، وتجني كذلك كرها مجانيا، غالبا ما يأتي من أناس لا يعرفونك إلا من خلال الآخرين، أو أنهم يعرفونك عن كثب لكن رهاناتهم عليك خابت، فاتخذوا الحقد سبيلا للانتقام من ذنب لم ترتكبه، بل زينته لهم أنفسهم المحبطة الكسيرة؛ فلا لوم عليهم إذن، وأتمنى لهم الشفاء من حقدهم لأنه يتعب أنفسهم بدون فائدة. بعد هذا الكم من الإصدارات، الذي تحقق لي ومنح حياتي معنى، أشعر بأنني قلت ما أستطيع قوله، وكتبت ما بوسعي كتابته، وأظن أنه ربما حان الوقت لأتأمل كل ما حدث وما لم يحدث وما كان من الممكن أن يحدث. لقد آمنت دوما بأن أفضل ما يمكن للمرء أن يحققه هو أن يكون جسرا يعبره الآخرون نحو المستقبل، وربما قد حان الوقت لأطبق ما أعتقده؛ لكن إن جاءت فكرة جديدة للكتابة تتميز بالجدة والنوعية فلن أتردد في خوض غمارها. طبعا سأتفرغ كليا للقراءة، معشوقتي الأزلية، وسأتابع ما يكتب وما ينشر، وسأسعد كما هي العادة بظهور كتاب جدد وانبثاق مواهب جديدة، قد تحقق ما عجزت وبعض من جيلي أو الأجيال التي سبقتنا عن تحقيقه. وأملي كل أملي أن أرى يوما راية الإبداع المغربي خفاقة في كل المحافل الأدبية العالمية. أما الجهات المعول عليها في دعم الإبداع والمبدعين، وخاصة أولئك الذين ينحتون على الصخر بأظافرهم، ولا مظلات حزبية تظللهم، ولا علاقات نافذة توصل صوتهم، فدعها تمارس لعبتها الصغيرة جدا التي أدمنتها حتى النخاع، لعبة الولاءات ونصب الفخاخ، والنفخ في الأسماء الميتة؛ فلن تتجاوز بذلك النحت على الرمل، الذي سرعان ما تجرفه وتمحوه موجة الإبداع الحقيقي، الذي لا شك أن جذوته ستستمر متأججة رغم الحصار المضروب عليها، فلن يزيدها ذلك سوى إصرار على العطاء، لأنها تعمل من أجل المستقبل ولا تهمها سفاسف الأمور.