آلية لدعم الانتقال الديمقراطي من خلال انتقال ثقافي حقيقي إن التجربة المغربية في ميدان الانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي تعد تجربة رائدة على المستوى الإقليمي والجهوي. بالطبع تجري أحداث هذا الانتقال في بلد تتعدد فيه اللهجات والانتماءات القبلية والثقافات الجهوية والتيارات العقائدية، ... كما تجري هذه الأحداث كذلك بعد تاريخ سياسي موسوم بالصراع العنيف سواء في فترة الاستعمار أو ما بعد الاستقلال توج بمصالحة تاريخية ونقاشات وتقييمات عديدة. كما أبانت المرحلة على تفاعلات سياسية ومجتمعية يصعب أن نفرق من خلالها بين الحق والإحساس الوطني الصادق والنفعية الانتهازية. على أي، فانطلاقا من تتبع الإصلاحات بمغرب العهد الجديد، يمكن أن نرجح فرضية اعتبار هذا الغموض وصعوبة التمييز في النوايا نتائج أو تأثيرات جانبية ظرفية لمسلسل الانتقال السياسي. كما تعبر الإرادة المتجددة للملكية في السير قدما إلى الأمام والاستمرار في الإصلاحات عن عزم الدولة على الاستمرار في خلق التراكم من أجل إبراز معالم نسق سياسي يليق بتاريخ المغرب وبموقعه الإستراتيجي وبآفاق تقوية مكانته الإقليمية والجهوية وبتحويله إلى واجهة للاستثمارات الغربية المنتجة للثروات والتكنولوجيا. "" فموازاة مع تقابل هذه المتناقضات [صعوبة التمييز في النوايا وقوة العزم في الاستمرار في الإصلاحات]، تطرح إشكالية جديدة، قلما تناولتها الصحافة المغربية، ويتعلق الأمر بالجواب على السؤال التالي: هل يمكن إنجاح مسلسل الانتقال الديمقراطي بدون تحقيق انتقال ثقافي؟ وعندما نطرح هذا السؤال، تتبادر إلى الذهن ثلاث إشكاليات جزئية: الإشكالية الأولى: كيف يمكن تحويل المشهد السياسي إلى مجال للمنافسة الفكرية كتعبير سياسي مهيمن ومنفتح على القضايا المصيرية للأمة [اقتصادية، قانونية، أخلاقية، ثقافية،...]؟. وبعبارة أخرى، كيف يمكن للمجتمع المغربي أن يرقى بثقافته السياسية إلى درجة تندثر فيها الممارسات المستغلة للانفعالات الناتجة عن النزعات القبلية والعرقية والعقائدية و منطق الغنيمة؟ الإشكالية الثانية: ما هي السبل الممكنة لإلغاء العراقيل المختلفة أمام الأفكار الخلاقة والحداثية الفردية والجماعية وبالتالي الحسم بصفة نهائية في طبيعة العلاقة التي تربط السياسة والإثنية والمسألة الدينية؟ الإشكالية الثالثة: كيف يمكن تحويل التنوع والاختلاف الثقافي الجهوي إلى آلية لدعم الانتقال السياسي؟ واعتبارا لما سبق سنحاول من خلال هذا المقال مناقشة الإشكاليات المطروحة أعلاه باستحضار العلاقة التي تربط بين الانتقال السياسي والانتقال الثقافي، والجهوية والشرعية السياسية والتنوع البشري والثقافي. وتأملا في معطيات التحولات السريعة التي يعرفها العالم في إطار ما يسمى بالنظام العالمي الجديد في كل الميادين، نستنتج أن مفهوم "الإنتقال الديمقراطي" أو "التناوب التوافقي" أصبح غير ملائم. أغلب دول العالم تعيش تجديدات مستمرة لاستراتيجياتها العمومية ولنخبها السياسية. والحالة هاته، فالتمادي في استعمال مفهوم الانتقال للتعبير عن صيرورة الإصلاح سيجعل من الديمقراطية مسلسلا ناقصا لأمد طويل. وعليه، بات من الضروري تعميق التفكير في هذا المفهوم من خلال تشخيص موضوعي ومعمق للوضعية السائدة في مجال زمني محدد من أجل استشراف المآل الممكن وبرمجة المراحل الضرورية للوصول إلى تحقيقه. وتعتبر مبادرة جلالة الملك التي أعطت الانطلاقة للتفكير في الجهوية مناسبة لإعادة التفكير لتجاوز مفهوم الانتقال بالحسم النهائي في الإشكاليات السابقة. لقد عرف المغرب، إلى جانب مجموعة من الدول، عدة انتقالات كلل بعضها بالنجاح بينما البعض الآخر باء بالفشل. ويعتبر الانتقال الأخير الذي ابتدأ منذ 1998 من أهم هذه الانتقالات لكون مرجعه الفلسفي الدستوري هو دولة الحق والقانون. إنها مرحلة التنقيح وإعادة الهيكلة للممارسة السياسية بالبلاد. لقد أسند لحكومة السيد عبد الرحمان اليوسفي مهام بلورة وخلق شروط إعطاء الانطلاقة لمسلسل ترسيخ منطق سياسي جديد يرمي إلى تفعيل الديمقراطية التمثيلية. ونظرا لأهمية أحداثها وللمهامات المنجزة خلالها ولأهمية الإنتظارات الشعبية المعبر عنها، لا زالت المرحلة موضوع قراءات وتقييمات متنوعة ومتناقضة ومتضاربة في أغلب الأحيان. وهذا الأمر ليس مفاجئا في المشهد السياسي المغربي لأن تاريخ البلاد عرف عدة أحداث تحققت من خلالها وحدة القوى السوسيوسياسية تارة والتباين والتنافر والاختلاف تارة أخرى. وأعتقد أن بطء وثيرة مسلسل الانتقال السياسي الأخير له ارتباط كبير بحصر محتوى المتطلبات السياسية الأساسية في تحقيق دولة الحق والقانون من باب طرح الإصلاحات السياسية. وقد انعكس هذا الحصر سلبا على مجريات الأحداث حيث تم استغلال فرصة توسيع هامش الحقوق والحريات في خلق نزعات "تقليدانية" معرقلة للمشروع المجتمعي للدولة. فبالرغم من تحقيق نتائج مشجعة، برزت عراقيل كثيرة مكنت من تحويل الظواهر التي كان يفترض أن تكون جانبية لهذا المسلسل إلى نزعات انفعالية ذات تأثير شعبوي. وعليه، لقد أصبح واضحا أن مقاربة تسخير مطلب تحقيق دولة الحق والقانون كآلية وحيدة للإنتاج السريع لمقومات الانتقال السياسي لم تحقق مراميها. لقد أنتجت هذه التجربة مفارقة كبيرة بين الإرادة الفكرية والذهنية لتحقيق مستقبل أفضل ومستلزمات الفعل الميداني المبني على معطيات الواقع [السياسية، والمجتمعية، والاقتصادية، والقانونية، والثقافية، والعقائدية،...]. وأمام هذه المفارقة، تطرح ضرورة إعادة التفكير في ضرورة الحفاظ على التراكم المؤسساتي الفكري الناتج عن الإرادة المخيالية النظرية للانتقال وتفاعلاتها مع الواقع مع ضرورة بلورة إستراتيجية محكمة لخلق التحول من خلال نهضة سوسيوثقافية وفكرية تعير اهتماما بالغا للواقع والموقع المغربي الإقليمي والجهوي والدولي [أرضية مرجعية دقيقة لا تحتمل الخطأ]. واعتبارا لتراكمات العهد الجديد والتي توجت بالإعلان الرسمي عن انطلاق ورش التفكير في إعادة الاعتبار لمفهوم الجهوية، أعتقد أن القطيعة مع منطق التذبذب في العلاقات السياسية بين الفاعلين بات واضحا. كما أصبحت الظروف الراهنة مواتية لفتح نقاش سوسيوسياسي، وثقافي، واقتصادي، معقلن تطغى عليه مشاعر الوطنية والموضوعية. يحتاج المغرب إلى حوار يعيد تركيب المعطيات السياسية بشكل تتجاوز من خلاله العادات والبدع السياسية المعرقلة للإصلاح الحقيقي. ويجب أن يرتكز التركيب الجديد على ثلاث معطيات أساسية: الجهوية، البث النهائي في مخلفات الضمير التاريخي الجماعي وأخيرا تقوية المؤسسات بشكل تفند من خلاله كل الأطروحات اللاعقلانية التي تختزل التاريخ في التقليد والتعصب. معطى الجهوية: إن تاريخ المغرب يكشف أن هذا التنظيم الترابي ليس جديدا بل معطى تاريخي قديم. لقد شكلت الديمقراطية الجهوية جوهر المنظومة السياسية للبلاد. وبالموازاة، شهد التاريخ أن هذه المقاربة كانت دائما تتم في إطار ارتباط وتعلق الدولة والشعب بالوحدة الترابية. ويعتبر حدث المسيرة الخضراء آخر نموذج للتفاعل الوطني الحقيقي والمتبادل بين الدولة والشعب. معطى الضمير التاريخي: لقد عاش الضمير السياسي التاريخي عدة مقاربات اعتمدت بالخصوص على منطق التكييف، والمقايضة السياسية، ومنطق الترتيبات والإعداد في أفق الإصلاح السياسي التدريجي. وعليه، أعتقد أن "التعاقد" أو خلق "تعاقد جديد" مع الملكية، كمفاهيم حديثة انبثقت عن منطق الانتقال، أصبحت متجاوزة. معطى تقوية المؤسسات: ويتعلق الأمر بجعل الارتقاء المؤسساتي آلية فعالة لترسيخ الحق والحقوق والتصدي لعقلية الامتيازات والريع التي أضعفت ثقافة الواجب كمعطى حضاري للشعب المغربي. إن تنامي هذه العقلية جراء تفاعلات الصراع السياسي شكل عرقلة كبيرة للانتقال السياسي. إن تجربة الانتقال الديمقراطي الأخيرة أبرزت حقيقة لا مفر منها. لقد أفرزت الحاجة الملحة إلى خلق انتقال ثقافي بمراحل محكمة ودقيقة وبأفق زمني مضبوط. انتقال تندثر فيه النعرات القبلية والإثنية والتقليد الثيولوجي ويفتح المجال للتباري على أساس البرامج والأفكار ونجاعة آليات التفعيل والتنفيذ. إن التمادي في عدم الحسم المؤسساتي في مسألة تثبيت الحق سيجعل من الخطابات بشأن الديمقراطية أمرا باطلا وبدون جدوى. إن الانتقال المؤسساتي والسوسيوثقافي يبقى من مسؤولية كل الفاعلين [الدولة، المبدعون، الكتاب، المفكرون، المنظومة التربوية والجامعية، الأحزاب السياسية، المجتمع المدني،...]. وتتجلى هذه المسؤولية في العمل على خلق الالتقائية في مشروع إبراز الحقيقة السوسيوتاريخية للبلاد والتي تنبني على بعد التنوع من خلال ارتقاء الجهوية إلى مستوى تمكينها من تشييد علاقات ايجابية جديدة بين مختلف الحساسيات الثقافية الموروثة على أساس قيم الديمقراطية المتعارف عليها دوليا. على المغرب أن يتمكن في الأمد القريب أو المتوسط، من خلال سياسة جهوية محكمة، من جعل الوطنية الأساس الوحيد للانفعال السياسي كيف ما كانت توجهاته الإيديولوجية ومن تم إعادة تركيب وتجميع أشكال ولوج الفاعلين إلى عالم السياسة وعقلنة تدبير مصالحهم المشروعة في أفق تحقيق تناقح الهوية الوطنية بالتنوع الثقافي للمجتمع. إن المفهوم السياسي للجهوية ما هو إلا مرادفا لسياسة إعداد التراب الوطني، سياسة تهدف لترسيخ الديمقراطية بأبعادها الأفقية والعمودية بشكل تندثر فيه التخويفات التي تقابل، بمنطق تعارضي، التنوع الثقافي بالوحدة الوطنية. فإلى جانب التنوع الجغرافي للجهات، يشكل التنوع الثقافي معطى بنيوي مدعم وموطد للسيادة الثقافية الوطنية. ووعيا بأهمية هذا المعطى في مسلسل بناء الدولة، كان الخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد المسيرة الخضراء الأخير حاسما. فإعطاء الانطلاقة للتداول المؤسساتي والمجتمعي في هذا الشأن تحت إشراف المؤسسات الرسمية للبلاد يعد حدثا بارزا ورائدا في جدول الأعمال الإصلاحي للعهد الجديد. إنها انطلاقة ستدعم المكاسب في مجال حقوق الإنسان. فالجهوية بطبيعتها ستساعد الدولة من المرور من ملف الحقوق السياسية إلى الحقوق الاقتصادية. فلا يمكن تحقيق توزيع السكان والأنشطة الاقتصادية والخدمات العمومية بشكل متساوي بين جهات المملكة إلا من خلال جهوية ترابية محكمة. كما يبقى رهان مواجهة الخطابات التي تفرق المغاربة إلى أصناف مختلفة ومتناحرة[الأصليون «autochtones» ، المتحضرون «les civilisés»، المتعصبون للعرق وللعقيدة،...] متعلق بجودة بناء هذا المشروع. وأعتقد أن جهويتنا سيكون لها طابع خاص ينضاف إلى الأنماط المعروفة في العالم وستدعم التنوع الجهوي العالمي وأنماط السيادات الوطنية [أمريكا، المملكة المتحدة، إسبانيا، ألمانيا، سويسرا، البرازيل، المكسيك،...]. إن الجهوية بالمغرب، تعتبر رهانا استراتيجيا لبناء نمط جديد للعيش الجماعي يرتكز على التضامن والإخلاف والتنوع كأساس للابتكار والتنافس بين الجهات. كما من شأنها أن تشكل مناسبة لخلق منهجيات ومقاربات ومفاهيم جديدة تخلق قطيعة فعلية مع "لغة الخشب" المعتادة. علينا أن نتجاوز سقف منطق توزيع الإعتمادات السائد جهويا والذي يخلق مشاكل كبيرة في تدبير الشأن العام [تداخل الاختصاصات، التمييز بين الوحدات الترابية المحلية، نزعة الانتماء الترابي للنخب،...]. فبعد التفكير في إنجاز تقطيع ترابي علمي تراعى فيه المقاييس المعروفة عالميا، يجب تمكين الجهة من لعب الأدوار المنوطة بها في إطار تفعيل سياسة إعداد التراب الوطني. بالموزاة، لا يمكن التكلم على الجهوية بدون التوفر على وزارة مختصة في التهيئة وإعداد التراب الوطني. ففي فرنسا مثلا نجد "لادطار"، مؤسسة تحت إشراف الوزير الأول، ولها سلطات واسعة في مجال تنسيق العمل الحكومي في مجال تهيئة الجهات من خلال تخطيط استشرافي احترافي يلعب فيه المهيئ المعماري أدوارا ريادية [القطاع الخاص والعام]. وأعتقد، أن هذا الورش الكبير قد أعطيت انطلاقة تنفيذه من طرف حكومة السيد عبد الرحمان اليوسفي حيث خلقت المفتشيات الجهوية المختصة في هذا الميدان وأعطيت الانطلاقة لإعداد مخططات جهوية لإعداد التراب. والغريب أن بعد المصادقة على المخطط الوطني لإعداد التراب، لا ندري كيف تم التعامل مع مآل المفتشيات السالفة الذكر في عهد الحكومة الحالية. إن انهماك الوزارة المختصة في الأوراش الخاصة بالسكن، يجعل المتتبع يتساءل عن فحوى المهامات الأساسية للوزارة في ميدان التعمير وإعداد التراب. فإذا كانت وظيفة الوكالات الحضرية تتجلى في تقديم المساعدات التقنية للجماعات المحلية، فلا يمكن إنجاح الجهوية بدون مؤسسات حكومية مكلفة بإعداد التراب. مهام الجهة، لا يقتصر على إنجاز المشاريع الصغيرة، بل عليه أن يرتكز على إنجاز المشاريع الكبرى داخل التراب الجهوي [الموانئ، الطرق السيارة، الجامعات، القناطر، الطرق المعبدة، معاهد التكوين والتربية، التجمعات السكنية، المستشفيات،...]. على المغرب أن يجعل من الإدارة الجهوية الحكومية والتمثيلية أداة قوية قادرة على بلورة وتفعيل خيارات التهيئة المصادق عليها «les options d’aménagement» . وبهذا، سيكون المغرب، إن شاء الله، مع موعد بناء معالم مؤسساتية تذوب فيها النزعات الإثنية والثقافية ويتحقق من خلالها الانتقال الثقافي الذي سيشكل لا محالة دعامة أساسية للانتقال السياسي. الدولة تحتاج إلى التركيز في تأهيل التراب الوطني. وهذا التركيز لن يكون عميقا وناجعا إلا في حالة اندثار انشغالات الدولة بتدبير الانفعالات المصطنعة التقليدانية التي تحدثها بعض الجهات المعادية للحداثة.