الجزائر بلد مختلف له القدرة على أن ينفرد بوضعية خاصة ومواقف مختلفة. في استقلالها من الاستعمار الفرنسي كانت معركتها أشد ووطيسها أحمى من غيرها. صراعها مع التعريب كانت لها فيها صولات وجولات. موقفها من العلاقات «الطبيعية» مع المغرب كانت دائما مثار تعجب واستغراب في ظل دعمها غير المفهوم لحركة البوليساريو الانفصالية. "" حكم العسكر وسلطته القوية ومنظومته الأمنية القاسية ولدت حركات أصولية متشددة عاثت في البلاد إرهابا وتخويفا، وأصبح المشهد الدموي هو سيد الموقف. تفاءل الكثير بوصول عبد العزيز بوتفليقة(الصورة) إلى سدة الرئاسة في الجزائر، فالرجل عرف عنه الحكمة والرزانة والعقل ولم يكن يميل كل الميل في أي موقف من مواقفه، وحافظ على الحد الأدنى المطلوب لأي علاقة سوية. جاهد بوتفليقة كثيرا في إيجاد صيغ توافقية ما بين تيارات المجتمع الجزائري المتناحرة: علمانية تميل بقوة لنموذج أوروبي وتنشد أواصر أقوى مع القارة العجوز، وحالة من العودة للوعي الأفريقي تقودها مجاميع الأمازيج المنتشرة في البلاد في «ردة» ضد العروبة وتبعياتها، وفريق يدعو للانفتاح على أمريكا وخصوصا اقتصاديا بعد أن سئموا من فرنسا وقلة دعمها وتبعيتها اللازمة، وفريق اعتنق السلفية الجهادية كوسيلة خلاص من كل المتناقضات التي يحياها المجتمع المتناحر. ونجح بوتفليقة في إعادة الأمل لبلاده بتزكية مبدأ تسامحي بين الفرق المختلفة، وبدأ الجزائريون في تنفس الصعداء، ساعد في ذلك الدخول المرتفعة للبلاد نتاج ارتفاع أسعار النفط عالميا بشكل قياسي غير مسبوق. والآن يصدم بوتفليقة العالم وهو يقوم بتعديل دستور بلاده ليجعله رئيسا مدى الحياة، وبذلك يثبت الرئيس عروبته «سياسيا» ويؤكد أن الطبع يغلب التطبع. مسكين الدستور في العالم العربي فهو «ملطشه» للكل، الجميع يعدل فيه كسبورة قديمة في فصل دراسي كئيب، كل فرد يمسح جزءا ويعيد كتابة جزء آخر بهدوء وعدم اكتراث. وطبعا لذلك أصول؛ فهناك «خياطون» للدساتير، يفصلون الدستور ليكون على المقاس وصالحا لشخص بعينه تحديدا «شك وتنزيل»، وهناك طبعا أسلوب آخر تماما، وهو الطريقة الفضفاضة الواسعة التي تتسع «لكل ما هو مطلوب»، حتى تحول الحديث عن الدستور إلى وسيلة لجلب النكات والتندر والسخرية بدلا من الاحترام والتقدير. الجزائر تستمر في إحداث الصدمات والمفاجآت، ولكن خطوة الرئيس بوتفليقة الأخيرة لا يمكن الاقتناع معها بأن العالم العربي بخير أو أنه أمة تفكر في مستقبلها وتحترم شعوبها. الجزائر من البلاد النادرة جدا التي فيها رؤساء سابقون وعلى قيد الحياة، والآن ستدخل التاريخ برئيس سيحكمها مدى الحياة.. ثورة تتحول إلى ثروة واستقلال يتحول إلى استغلال.. حال محزن. [email protected] عن الشرق الأوسط اللندنية