انطلقت فكرة الفرنكفونية من كون اللغة لا تقوى إلا بكثرة الناطقين بها واتساع مجالات استعمالها. وحيث أن اللغة الفرنسية فقدت كل إمكانية للتوسع داخل أوروبا اتجهت فرنسا إلى مستعمراتها الإفريقية، بعد منتصف القرن العشرين من أجل إحلال الفرنسية محلة اللغات المحلية. واجتذاب الطاقات العقلية الإنسانية الحية المبدعة، لكن التطور السريع للولايات المتحدةالأمريكية وهيمنة القطب الواحد على الساحة الدولية سيخلق للغة الفرنسية والفرنكفونية بشكل عام متاعب كثيرة وهو ما جعلها تتجه نحو إخفاء طابعها الهيمني الاستعماري وتقديم نفسها بدل ذلك على أنها حركة و منظمة كونية لمناصرة الهوية الثقافية للشعوب ودعم الحوار بين الدول ضدا على خط الهيمنة وفكرة الصدام والصراع الحضاري الذي تجسده سلوكات الإدارة الأمريكية وخاصة بعدأحداث11شتنبر .إلا أن الحركة الفرنكفونية بشكل عام ورغم الشعارات التي حملتها لم تتغير صورتها عند كثير من المثقفين العرب ومنهم المغاربة الذين ما زالوا ينظرون إليها على أنها، حركة تسعى إلى إغراق الشعوب الأخرى في الحضارة الفرنسية، ومن خلالها في التبعية الثقافية لها. في حين يعتبر آخرون أن المشكلة ليست في الفرنكفونية من الجانب اللغوي بقد رما هي في طبيعتها الميالة للهيمنة والسيطرة عبر آليات متعددة تشكل اللغة أحدها ، وهوما لا يجعلها أفقا بالنسبة لمجتمعاتنا لضيق صدرها عن قبول الآخر، بدون إخضاعه واستلابه، مشيرين في الوقت نفسه إلى أن الفرنكفونية في المغرب بالأساس تبقى رهانا سياسيا لطبقة سياسية مغربية مهيمنة ، و أيضا رهانا لطبقة حزبية . رهان يمكن أن يتغير بتغير موازين القوى ، فإذا أصبحت اللغة الإنجليزية في السوق العالمية والداخلية ذات نفوذ فستتبنى الإنجليزية وتنبذ الفرنسية، الأمر الذي تحرص فرنسا بكل الوسائل ألا يحصل في بلدان المغرب العربي وبالخصوص في المغرب وتونس والجزائر . في عالم متغير متحول متداخل، أصبح لزاما علينا أن نأخذ بعين الاعتبار العلاقات التاريخية والسياسية والاستراتيجية مع بلد مثل فرنسا يقف موقفا إيجابيا في عمومه من قضايا العرب والمسلمين، ويحتضن جالية مسلمة هي من أكبر الجاليات من ذوي الأصول المغربية، ونسجت بينه وبين بلدان المغرب العربي علاقات متميزة، ولذلك فإن اتخاذ أي موقف متطرف من هذه الجهة أو تلك قد ينعكس بأوخم العواقب على مصلحة الطرفين. إنما الذي لا يمكن التنازل عليه هو الاعتراف المتبادل، وما لا يمكن التخلي عنه هو التفاهم المتبادل، وبغير هذا لن نحقق شيئا يذكر. الدكتور مصطفى بنيخلف ل "التجديد":تَقَدُّمُ الفرنكفونية بالمغرب يفسر ضعف النظام التعليمي المغربي يعتبر الدكتور مصطفى بنيخلف، أستاذ التعليم العالي بمعهد الإحصاء والتخطيط بالرباط أن الفرنكفونية حركة عامة تسعى إلى إغراق الشعوب الأخرى في الحضارة الفرنسية، ومن خلالها في التبعية الثقافية لها. ويؤكد في هذا الحوار الذي خص به التجديد أن الفرنكفونية لم تعد تتوفر على مقومات البقاء والاستمرارية، وأن عوامل هدمها وتجاوزها أصبحت حاضرة بقوة، من مثل الانتشار الواسع للإنجليزية لكونها لغة العلم والتواصل، في مقابل التراجع المستمر للدور الفرنسي على الساحة الدولية. ويعتبر بنيخلف أن الرهان على الفرنكفونية رهان خاسر، لا يمكن للمغرب معه أن يكون في مصاف الدول التي تواكب البحث العلمي وتسعى إلى التواصل مع العالم كله، ويرجع أسباب نجاح الفرنكفونية بالمغرب إلى الفشل الذريع الذي مس نظامنا التعليمي، داعيا إلى الانفتاح أكثر على الإنجليزية والإسبانية، مشيرا إلى أن الفرنسية ستعرف نهايتها على أقصى تقدير بعد عقد ونصف من الزمن. لا بد ونحن نقارب موضوع الفرنكفونية بالمغرب أن نتساءل عن معنى الفرنكفونية وعن دلالاتها وأهدافها، إيمانا منا بأن التحديد المفاهيمي لهذا المصطلح جزء من فهم مراميه؟ الفرنكفونية هي حركة تعني استعمال اللغة الفرنسية، ليس فقط من الجانب اللغوي اللساني، بل هي في الواقع حركة عامة تسعى إلى إغراق شعوب أخرى في الحضارة الفرنسية وفي التبعية الثقافية لفرنسا. غير أنه إن كان في بعض الأحيان يعلن عن هذا بشكل صريح، فإنه في أحيان كثيرة أخرى لا يعلن عنه ويتم بشكل ضمني. وهل لهذا تجليات على مستوى شمال إفريقيا مثلا بما في ذلك المغرب نموذجا؟ طبعا، فمفعول الفرنكفونية في شمال إفريقيا ليس هو فقط تشجيع الأدباء الذين يكتبون بالفرنسية، وهذا شيء مشروع، ولكن مفعولها هو حرصها على الاحتفاظ بقطاعات متعددة بيد الفرنكفونيين، غير أن ما يضمن التبعية والمحافظة على العلاقات التي كانت سائدة قبل الاستقلال هو مفهوم الفرنكفونية واستعمال الفرنسية في أكبر عدد من الميادين الممكنة، إن لم تكن في جميعها. إن الفرنكفونية حركة تتجاوز المعطى اللغوي الثقافي، على اعتبار أن لها مقاصد سياسية واقتصادية تتعدى ما هو ثقافي واجتماعي، ومن حقنا أن نسأل كيف تلعب اللغة الفرنسية دورا في الحفاظ على المصالح الفرنسية في المغرب، بل كيف توظف هذه اللغة لتنمية هذه المصالح بالمغرب وتطويرها نحو الأحسن؟ مؤكد أن المعطيات الثقافية والعلمية تكشف بالمغرب عن وجود فئة فرنكفونية، فرنسية الثقافة والتفكير، وبالتالي فهذه الفئة الفرنكفونية، التي تدافع على المصالح الفرنسية بالمغرب، تسعى إلى شد بلدنا إلى الوضع الذي كان عليه قبل الاستقلال، وهو تحرك أراه ناتجا بالأساس عن الثقافة الفرنسية التي تثقفوا بها في مقابل جهلهم باللغة العربية، ونحن نعلم أنه لا يمكن أن ندرس لغة ما دون أن ندرس المحيط العام الذي نتجت فيه، والبيئة التي شكلت منشأ لها. ومن ثمة يمكنني القول إن الفرنكفونية تحدث انفصاما في المجتمع المغربي، وهذا الانفصام من شأنه أن يتطور ليصبح صراعا بين من يعتبرون من الجماهير الشعبية، وبين من يعتبرون أنفسهم من القيادة التي لا يمكن من وجهة نظرهم أن تكون إلا فرنكفونية، وهذا تأثير واضح على التوازن الاجتماعي بالمغرب. ولو نظرنا على سبيل المثال إلى الجانب الاقتصادي والتجاري، حيث يعتبر عديد من الفرنكفونيين، بمن فيهم فرنكفونيون مغاربة، لوجدنا أن عددا من المهتمين يستغربون كيف أنه بعد حوالي نصف قرن من حصول المغرب على استقلاله، ما زلنا نلجأ إلى شركات فرنسية لتنظيف شوارعنا ولتوزيع مادتي الماء والكهرباء، بينما أنا أرى أنه ليس في الأمر ما يثير الاستغراب، على اعتبار أنه لو حرصنا على أن نجعل من هذه الصفقات صفقات دولية لما تم الإعلان عنها في الصحافة الوطنية والدولية باللغة الفرنسية، إذ نادرا ما يتم الإعلان عنها بلغات أخرى. وعلى فرض أنه تم استعمال غير اللغة الفرنسية، كالإنجليزية أو اليابانية مثلا، وتولت إحدى الشركات ذات الفعالية والجودة المطلوبتين هذه الصفقة، فإنه عند الحسم في تسليم العقود، تستعمل اللغة الفرنسية للتواصل، ومن ثمة فإن الشركات الفرنسية هي المستفيدة الأولى من كل الصفقات التجارية المغربية المعلن عنها إلا في حالات نادرة، وليس ذلك فحسب، بل إن هذه الشركات تفوز بصفقات ليست من طبيعة اهتمامها كبناء القناطر وشق الطرق، علما أن شركات إيطالية وإسبانية مشهود لها على الصعيد العالمي بكفاءتها في هذا المجال، ومع ذلك لا تمكن من هذه الصفقات. وليت الأمر يقتصر على ذلك، بل إن المهندسين المغاربة نموذجا، الذين يحصلون على شواهدهم العلمية بفرنسا نجدهم يستعملون اللغة الفرنسية وفق العقلية والثقافة الفرنسيين بالإدارات المغربية، وللتدليل على ذلك نضرب مثالا فقط بالمعدات ووسائل التجهيز الكهربائية التي تكاد تكون من مصدر فرنسي، وبالضبط من الشركة الفرنسية الكبرى هْفَلٌم ، والخلاصة هي أن هؤلاء المهندسين الذين يستعملون الفرنسية وفق الثقافة الفرنسية التي أشبعوا بها من خلال دراستهم بفرنسا يعتبرون مكسبا للفرنكفونية ولفرنسا بالمغرب. في نظركم الأستاذ مصطفى، وفي ظل هذا التنافس الفرنسي الأمريكي الواضح على شمال إفريقيا من جهة، وهذه العودة للهوية العربية والثقافة الإسلامية من جهة أخرى، هل يمكن للحركة الفرنكفونية بالمغرب بعد أن خرجت جيلا فرنكفونيا وقطعت أشواطا هامة، أن تحافظ على مكانتها ضمن الخريطة الثقافية والسياسية بالمغرب؟ صحيح أن الفرنكفونية نجحت نجاحا لا ينكر في العقدين الأخيرين، وأرى أن سبب هذا النجاح مرده إلى عملية الإفساد التي همت النظام التعليمي المغربي منذ بداية الاستقلال. صحيح أننا نحن المغاربة نتحمل جزء من المسؤولية في ما يتعلق بحالة الارتجال التي همت نظامنا التعليمي على مدى السنوات الماضية، لكن مع ذلك ساهم الفرنكفونيون المغاربة، بما أوتوا من وسائل وإمكانيات فعالة، في إقناع الرأي العام المغربي والأسر المغربية بأن الفرنسية هي اللغة المفضلة، وقد سلكوا في تحقيق ذلك إحداث مدارس ذات نظام فرنسي بفعالية قوية، الأمر الذي استدرج العديد من الأسر المغربية لإلحاق أبنائهم بهذه المؤسسات. وقد زاد من حدة هذه العملية ضعف النظام التعليمي المغربي وقلة مردوديته، ولا أخفيك في هذا السياق أننا أخطأنا كثيرا عندما قررنا تعريب التعليمين الابتدائي والثانوي، حيث شكل هذا القرار مناورة رهيبة ضد التعريب نفسه، على اعتبار أنه كان من الواضح أن هذه العملية ستصل إلى الباب المسدود عندما يتخرج من الثانويات المغربية تلاميذ درسوا المواد العلمية بالعربية ولا يجدون منفذا لهم في المدارس العليا بالمغرب، بسبب حفاظ هذه الأخيرة على اللغة الفرنسية، والنتيجة المؤسفة كانت بذل أوقات إضافية من أجل التمكن من اللغة الفرنسية التي هي اللغة المعتمدة بالجامعة المغربية في تدريس هذه المواد العلمية. وهنا لكم وللقراء الكرام أن تقارنوا بين وضعنا التعليمي في هذه النقطة بالذات وبين النموذج التعليمي السوري على سبيل المثال الذي لم يقتصر على تعريب المواد العلمية بالثانويات، بل تعدى الأمر ذلك إلى الجامعات، وأصبح الطلبة السوريون يدرسون مواد علمية دقيقة كالطب والهندسة وغيرهما باللغة العربية، وهم بالتبع يتقدمون علميا، بدل أن يتقدموا في لغة تعتبر هي نفسها لغة متخلفة وفي تراجع واضح، كالفرنسية مثلا إذا ما قورنت بالإنجليزية أو الإسبانية، ولو كان بإمكاننا الاختيار في بعض الميادين، لما درسنا جميع الدروس باللغة الإنجليزية، ذلك أن عملية ترجمة بعض المواضيع والعلوم من الفرنسية إلى الإنجليزية باستمرار تعتبر مضيعة للوقت، والأصل أن نتعلم كيف نكتب بالإنجليزية، يضاف إلى ذلك أن الفرنسية نفسها تفتقر لبعض المصطلحات العلمية في العديد من التخصصات. إن تقدم الفرنكفونية بالمغرب يفسر بضعف النظام التعليمي المغربي، وما هذا الإقبال اللامحدود على بعض مؤسسات التعليم الفرنسي بالمغرب إلا تعبير عن جهل حقيقي بحقيقة الوضع التعليمي الأنجلوساكسوني بشكل خاص، ومن ثمة فإننا نسمع بين الحين والآخر دعوات تنادي بإصلاح التعليم الفرنسي للوصول إلى ما وصل إليه النظام التعليمي ببعض الدول الأخرى كألمانيا وهولاندا وإسبانيا. وهل الارتماء في أحضان الفرنكفونية، من وجهة نظركم، مكن المغرب من حل مشاكله على مستوى التنمية؟ أبدا أبدا، ثم أبدا، بل إن الأمر يزداد صعوبة وغرابة، فالمغرب لم يستطع قط تجاوز هيمنة اللغة الفرنسية في العديد من القطاعات الحساسة بما في ذلك مثلا القطاع البنكي، حيث يصير لزاما على المواطن المغربي العادي كتابة وثائقه البنكية بالفرنسية، وكذلك الشأن في القطاعات الأخرى. لكني في هذا السياق أحب أن أشير إلى أنه من الصعب إيجاد بديل لحركة تتوفر على محركات متعددة في جميع القطاعات. من جانب آخر، أشير إلى أن قطاع العدل بالمغرب شكل استثناء في الموضوع، بحيث تم الاحتفاظ باللغة العربية في وزارة العدل وفي المحاكم إلى يومنا هذا، ولو استطاع البعض (في إشارة إلى الفرنكفونيين بالمغرب) إبعاد هذا الواقع لفعلوا، ولكن للقوة التي اكتسبناها في هذا القطاع منذ الاستقلال وإلى الآن تبين أنهم لن يستطيعوا، كما تبين أنه لا أحد يستطيع الآن الوقوف في وجه هذه الفئة المستفيدة والقوية بما تمتلكه من وسائل تزيدها قوة إلى قوة. هل معنى هذا أنكم تتوقعون مثلا موت الفرنسية بشمال إفريقيا بناء على الانتشار الواضح للإنجليزية على حساب الفرنسية، وظهور اهتمام واضح باللغة العربية من خلال أكاديمية محمد السادس للغة العربية ومعاهد التعريب، فضلا عن إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؟ ما تفضلت به في سؤالك صحيح، غير أني أود أن أضيف عاملا آخر يصب في الاتجاه الذي رميت إليه، وهو وضع فرنسا داخل الكيان الأوروبي، هذا الأخير الذي كان في بداياته تحت زعامة فرنسا في عهد الجنرال دوغول، غير أن الواقع الحالي تغير ولم يعد وضع فرنسا على ما كان عليه، ولنا أن نضرب على ذلك أمثلة منها أنه حين اختيار العملة الموحدة لأوروبا لم يؤخذ بما كانت تريده فرنسا من خلال تعميم عملتها الإيكوكِّ، العملة الفرنسية القديمة، وبالتالي تم التوحد على اختيار الأورو، ومنها سعي فرنسا لأن يكون البنك الأوروبي تحت رئاستها، الأمر الذي حصل بشأنه صراع كبير حسم باعتماد صيغة قائمة على التناوب، يضاف إلى هذا الموقف الفرنسي الأخير الرافض للحرب على العراق، وهو موقف إيجابي، لم تعره أمريكا أدنى اهتمام. أما ما أشرت إليه من إحساس مغربي بضرورة العودة إلى الأصل وإلى الحضارة العربية في بعدها العام، فيكفي أن أشير في هذا السياق إلى أننا لا نحتاج إلى عبقرية خاصة لندرك أن هذه الفرنكفونية لم تقدنا إلى خير واضح لا يناقش، بل إنها لم تستطع حل المشاكل، الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وغيرها، التي تعيق تنمية المغرب، على قدر اقتناع العديد من المغاربة بأن الأفكار الاشتراكية لم تأت هي الأخرى بأي حلول لقضايا المجتمع المغربي، ومن ثمة فإن كل ذي تفكير وطني عليه أن يبحث على الحل من داخل حضارتنا العربية والإسلامية. وجاءت المنافسة الأمريكيةلفرنسا في شمال إفريقيا، وهو أمر لا أعتبره ظرفيا بقدر ما أرى أنه بعد استراتيجي يفسر بتداخل المصالح الاقتصادية بالمنطقة، لتزيد من تقهقر وضع الفرنكفونية بالمغرب. هل لكم كلمة توجهونها للفرنكفونيين المغاربة؟ أقول إنه ينبغي أن ننظر إلى لغة المستقبل إلى لغة العلم والتواصل، ومن ثمة أدعو إلى الانفتاح على الإنجليزية والإسبانية للتعامل مع أوروبا نفسها كألمانيا وإيطاليا مثلا أو مع أمريكا والدول الناطقة بالإنجليزية. حاوره: عبد الرحمان الخالدي