من المؤكد أن السيد نور الدين عيوش لم يكن يتخيل أن "اقتراحه" سيتحول إلى كرة نار دفعت إلى تحرك آليات الإطفاء مبكرا خوفا من أن يتحول "مستصغر الشرر" إلى حريق تصعب السيطرة عليه. ويكفي أن وسائل الإعلام العمومية تحركت بسرعة لتأكيد شيء واحد، هو أن ما أقدم عليه السيد عيوش "اجتهاد شخصي"، لم توح به أو تباركه أية جهة "رسمية"، بل يكفي أن حجر الدارجة الذي ألقي في مياه راكدة أخرج المفكر عبد الله العروي من "منفاه الفكري الاختياري"، وأعاده إلى ساحة السجال عبر حوار مطول مع إحدى اليوميات قبل أن يطل على المشاهدين من شاشة القناة الثانية. قد يكون السيد عيوش -وهو رجل إشهار بالدرجة الأولى- استفاد شخصيا من رميته "الطائشة" تلك، وربما يكون نجح في التطبيع مع مطلب "التدريج والتلهيج"، بما أن من سيأتي بعده يمكن أن يدخل في صلب الموضوع مباشرة دون مقدمات لأن الحاجز النفسي تم هدمه بعدما انساق الجميع مع التيار، وبدل أن نكون أمام رفض تلقائي لمطلب غوغائي، أصبحنا أمام نقاش "علمي" يحاول أن يؤكد أن الفصحى أحق من الدارجة، والحال أن أكبر إهانة لأي لغة حية هي مقارنتها بلهجة ولو كانت منحوتة منها..قال الشاعر: ألم تر أن السيف يزرى بقدره..إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟ وقد يكون المغاربة اكتشفوا بالمناسبة جيلا جديدا من الباحثين الشباب الذين واجهوا ليس فقط دعوات التدريج العيوشية، بل حتى بعض أفكار المفكر عبد الله العروي التي ساقها عرضا في حواراته ولم يتوسع فيها، من قبيل أن لغة القرآن ليست فصيحة أو فصحى... غير أن ما يهمني هنا أولا وأخيرا، هو أن "الهوجة" التي شهدتها الأيام والأسابيع الماضية حول هذا الموضوع، لم تتوقف لا كثيرا ولا قليلا عند الحقيقة الغائبة المتمثلة في أننا أمام مظهر آخر من مظاهر الانفصام الذي جعل المغرب في وضع المتردد الحائر في اختيار طريقه. فقبل الحماية، ورغم أن المغرب كانت له امتداداته الاوروبية والإفريقية إلا أنه كان يعتبر نفسه دائما جزءا أصيلا من الشرق فكرا وتفكيرا وحضارة. لكن بعد الحماية، دخل عامل جديد تمثل في الألغام التي زرعها الاحتلال في الساحة الفكرية والثقافية والتعليمية، بل وفي بنية المجتمع عموما، حيث ظهرت "ازدواجية" منذ اللحظات الأولى للاستقلال، فأصبحنا أمام عربة يقودها حصانان جامحان يجر كل منهما في اتجاه. إن العجز عن الحسم المبكر في هوية "الحصان" الذي يحق له جر العربة، هو ما أوصلنا إلى ما نحن فيه من تخبط. ذلك أننا أصبحنا أمام بلد يفكر بخلفيتين ثقافيتين متنافرتين، الشيء الذي أدى مع مرور الزمن إلى تقلص مساحة "المشترك"، ليس بين المواطنين العاديين، فهؤلاء كانوا خارج الحسابات دائما، بل بين صناع القرار والسياسات العامة التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه. إن حالة التردد التي عرفها المغرب على مستوى تحديد بعض مقومات هويته، تحولت مع الوقت إلى "تورم" يوحي بأننا أمام بلد طوائف أو قبائل، والحال أن دولا جمعت أشتات أعراق وديانات ولغات نجحت في البناء على "المشترك" رغم قلته، فقط لأنها حسمت خياراتها منذ البداية ووضعت مسألة "الهوية" خارج دائرة الصراع السياسي والإيديولوجي. فالمغرب، وبعد ستة عقود على استقلاله، مازال إلى يومنا هذا يناقش موضوع اللغة الرسمية ولغة التدريس ..وهلم جرا..مع أن المفروض أن هذه العقود الطويلة كانت كافية للحسم في جميع هذه الابجديات. لكن في ظل تجاذب اللوبيات واصطدامها أحيانا بحقائق الواقع ومجريات التاريخ، التي لا يمكن القفز عليها، مازلنا نتردد على نفس المختبر لإجراء تجارب مفتوحة على كل الاحتمالات، وكأن الزمن توقف بالنسبة إلينا، مع أن أول شرط من شروط الرقي يتمثل أساسا في الحسم المبكر في هذه الأوليات. ولهذا أظن ان السؤال الأساسي - مادمنا بصدد الحديث عن عنصر اللغة تحديدا- ليس هو أية لغة تصلح للتعليم أو للتواصل مع العالم؟ ولا اية لغة هي الانسب للمواطن المغربي؟ فأسئلة من هذا النوع تدخل في نطاق السفسطة والنقاش البيزنطي العقيم الذي لا يمكن اينتج أفكارا ولا مقاربات ولا حلولا علمية ولا عملية، خاصة إذا كان الخائضون فيه ينطلقون من مواقف مغرقة في الذاتية. إنما السؤال الحقيقي هو : لماذا هناك حرب لغوية في المغرب؟ واختيار كلمة "حرب" هنا ليس اعتباطيا، بل لأننا تابعنا عبر تاريخ المغرب المستقل كيف أن المواجهة العنيفة كانت دائما عنوان أي حديث عن موضوع اللغة. فمن خاضوا هذه المواجهات ولازالوا يخوضونها ضد اللغة العربية تحديدا، لا يفعلون ذلك من موقع التدافع ولا عملا بمبدإ "اللغة الجدية تطرد اللغة الرديئة من سوق التداول"، بل إنهم ربطوا منذ البداية وجود واستمرار اللغات والألسن التي يروجون لها، بإقصاء اللغة العربية من الساحة. دعك مما يروج له هؤلاء ويرفعونه من شعارات، فالهدف واضح ومعلن، وإلا فإن في الساحة متسعا للجميع، واللغة في النهاية هي مجرد أداة ووسيلة لنقل الفكر والمعرفة والثقافة والحضارة والإبداع بشكل عام..وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. ولهذا ألتمس العذر لبعض من ينتصرون ل"نظرية المؤامرة" عند حديثهم عن الشأن اللغوي في المغرب. فاللغة العربية رغم دسترتها ورغم ترسيمها قبل خمسين عاما ما زالت "تناضل" من أجل تكريس الحد الأدنى من هذه "الشرعية" الدستورية والتاريخية والواقعية. بل هل نستطيع القفز على المنطق الذي يقول بأن هذه اللغة تتعرض لحرب متواصلة بهدف الاستئصال؟ أصحاب هذا الرأي يعتبرون أن تخريجة السيد عيوش هي بمثابة الجيل الثالث من الحروب التي تعرضت لها اللغة العربية منذ الاستقلال. فبعد رهان طويل على الفرنسة امتد لعقود، كان الفشل في النهاية: أولا، بسبب ظاهرة الفضائيات العربية التي أفقدت وسائل الإعلام الرسمية قوة التأثير، بما أن المغاربة انصرفوا تماما عن التلفزة العمومية التي كانت أداة فعالة للفرنسة، ووجدوا في تلفزات المشرق بديلا يستجيب لحاجاتهم. وفقدان السيطرة على الساحة الإعلامية واحتكارها، كانت له انعكاسات على أدوات "الفرنسة" الاخرى ومنها التعليم، ذلك أن ساعة من الرسوم المتحركة كافية لنسف أية جرعة من اللغة الاجنبية...وهو ما انعكس أيضا حتى على الاذواق الفنية، ذلك أن المطربين العرب أصبحوا سادة الساحة ولم يعد أمام الاجانب سوى هوامش ضيقة (لا مقارنة بين ما كان يسمعه شباب الثمانينيات والتسعينيات مثلا وما يسمعه شباب هذه الأيام).. وثانيا، بسبب ثورة الأنترنيت التي جعلت المغاربة يخرجون من الشرنقة التي حاول البعض حشرهم فيها، وكان الحضن المنطقي لهذا الانفتاح هو الشرق العربي طبقا بحكم الأواصر التي لم تنقطع يوما، ويكفي أن نشاهد حجم المساهمات المغربية في عدد لا يحصى من المواقع الإلكترونية العربية. وثالثا، بفضل انفتاح الأجيال الجديدة على اللغات الأجنبية، وخاصة منها الأنجليزية التي هي لغة العلم والتجارة والاقتصاد والسياسة وحتى التعارف والصداقات الدولية. وبعد ذلك كان هناك رهان عابر على الأمازيغية، فشل هو الآخر لأن الذين ركبوا عليه انشغلوا بالهجوم على اللغة العربية أكثر من انشغالهم بالتمكين للغتهم التي تم ترسيمها ودسترتها، وكان بالإمكان أن تقدم قيمة مضافة للتنوع الثقافي والتعدد اللغوي بالمغرب، ثم جاء الرهان أخيرا على الدارجة، على أمل أن تنجح فيما فشلت فيه سابقاتها. شخصيا، لست من أنصار "نظرية المؤامرة"، لكن هل يمكن للصدفة وحدها ان تبرر المسار الذي شاهدناه، خاصة وأن كثيرا من أنصار الفرنسة والأمازيغية والدارجة لا يخفون كرههم للغة العربية؟ ومن يقرأ كثيرا مما ينشر من مقالات وتحليلات ودراسات يفاجأ بحجم الحقد على هذه اللغة التي يعتبرها البعض سبب كل الشرور والانتكاسات. شخصيا لا أفهم كيف لا نسمع أحدا من أنصار اللغة الأجنبية يدعو إلى استبدال الفرنسية بالأنجليزية أو بالإسبانية بما أنهما لغتا الحاضر والمستقبل، كما لا أفهم كيف تتأسس جمعية ثقافية في مدينة ما وتجعل من بين أهدافها منع استعمال "العربية" في أغاني أحيدوس وهو تلاقح تلقائي استغرق قرونا، كما لا أفهم كيف أن البعض يرى استعمال لغة الشارع في المدرسة حلا لكل معضلات المغرب حاضرا ومستقبلا. هل يسمح وضع البلد بكل هذا الإسفاف والتهريج؟ أظن ذلك..والدليل أن من يقف خلف كل هذا جزء كبير من النخبة "المستنيرة".. http://facebook.com/my.bahtat