على ضوء تحقيق كتاب (أربعون حديثا في العدل)..؟ «1» اعتنى الناس منذ القديم بالعدل والعدالة وكلما ارتفع الوعي والإدراك لدى الناس ازداد طلبهم لتحقيق العدل والعدالة بينهم، وهذا ما نراه اليوم في العالم المعاصر حيث يتحرك الناس في كل مكان بوسائل متعددة ومختلفة باحثين عن العدل والعدالة فيما بينهم، والعالم الإسلامي ليس بعيدا عن هذه الحركة الداعية إلى العدل وتحقيق ما يضمن للناس ولو حدا أدنى من العيش الكريم في سياق منظومة من التشريعات والضوابط الدائمة والمتطورة والقائمة على أسس راسخة من الشرع والقانون. بل إن العالم الإسلامي اليوم يبدو أمام الناظر إلى الخريطة والى مختلف البقاع التي يوجد فيها مسلمون لا يرى إلا دعوات ملحة ومنبعثة من مختلف الفئات: نريد العدل ولاشيء سوى العدل والعدالة، ومن طبيعة الحال ما يستلزمه تحقيق ذلك من وضع دساتير ديمقراطية تضمن الحقوق وتحدد الواجبات، وتحدد مسارا معينا ومحددا للحاكمين لا يتجاوزونه، ولا يعطون لأنفسهم من الحقوق ما لا يعطى لغيرهم من بقية عباد الله، والناس في هذه المجتمعات أمامهم أمثلة ونماذج يقرؤون عنها في تاريخهم وسير أممهم وشعوبهم جسدت العدل والإنصاف للناس ولو من أنفسهم، كما يرون في هذا التاريخ أيضا كيف أن قادة وعلماء متشبعين بتعاليم الإسلام الحقة في هذا الباب قاوموا الظلم والظالمين، ففي كل أمة وفي كل مجتمع من هذه المجتمعات نماذج من هؤلاء قديما وحديثا، وبالأخص في التاريخ القريب حيث خرجت الشعوب مقاومة للقهر الأجنبي والمتحالفين معه من أبناء جلدة هذه الشعوب. هذا التحالف الذي لا يزال قائما في دنيا المسلمين مما حال ويحول بين الأمم وما تنشده من حكم عادل ديمقراطي شوري متوفر على كل القيم الإنسانية التي صدع بها القرآن ووضحتها السنة وسير الصالحين من حكام وقادة وزعماء هذه الأمة، وتسير على أسسها الأمم والشعوب المتحضرة. وحديث الجمعة سيتناول موضوع العدل والعدالة من خلال الحديث حول كتاب معني بهذا الموضوع. شعار هادف العدل أساس الحكم وأساس الملك ويعنون الحكم والحاكمين كلمتان يرددهما الناس في مجالي الحكم والتقاضي وذلك لتأييد حكم أو حاكم أو نقده على حد سواء وذلك على حسب ما يريده المتحدث أو القائل وحسب ما تعرض له، وهذه الجملة من الجمل التي اعتاد الناس كذلك في بعض البلدان والأقطار الإسلامية والعربية أن يكتبوها على جدران المحاكم أو قاعات التقاضي وصدور الأحكام، وذلك للذكرى والتذكير لعل القاضي أو الحاكم إذا نظر فيها تذكر ما ترمز إليه من توجيه وما يهدف إليه واضعوها من ذلك المكان من إشعار الناس الوافدين أو الزائرين: إن العدل هو ما تقوم عليه الحياة الإنسانية في مجالاتها المتعددة وأن فقدان العدل يؤدي إلى عواقب وخيمة لأن ما يقابل فقدان العدل والعدالة بين الناس هو الظلم وضياع الحقوق ومعروف أن الظلم مرتعه وخيم لا على الأفراد فقط بل وعلى المجتمعات والشعوب والدول ولذلك لخص ابن خلدون ذلك عندما قال (أن الظلم موذن بخراب العمران)، ومعنى ذلك أن الأمة التي تفقد العدل ويتفشى فيها الظلم مآلها الانهيار والاضمحلال مهما طال الزمن أو قصر، وعندما يردد الناس ذلك فإنهم لا يقولونه لمجرد القول ولكنهم في الواقع يرددون كلاما يتضمن حقائق لها أكثر من شاهد في التاريخ. أرجوزة معبرة وقد جمع احدهم هذا الأمر في الأرجوزة التالية: إذا وليت فاعدل وهو ملاك العمل الملك بالرجال والمال بالعمارة وإنما العمران عمارة البلاد من عادة الملوك وغنما لا يعدل كسارق أو سالب ولا يبالي ما خرب فالعدل دأب المقبل به بقاء الدول والجند بالأموال يحصل كالتجارة بالعدل يا إنسان والرفق بالعباد والنهب للصعلوك مستهدم مستعجل أو غاصب أو ناهب من البلاد وعطب شأن جامع والثقافة العربية الإسلامية زاخرة في باب العدل بكثير من الأقوال و الحكم وبقائها، سواء كانت هذه الحكم والأقوال إبداعا من إنتاج الثقافة العربية الإسلامية أو اقتباسا أو نقلا وتعريبا من لغات أقوام آخرين، لأن العدل مما يلتقي الناس جميعا في التماسه والدعوة إلى وجوده والعمل على أساسه في الفصل بين الناس وفي تطبيقه في توزيع الثروة وهو ما يعبر عنه بالقسم بالتسوية وهو ما جاء في الالتزام لمولى إدريس في خطاب تنصيبه أميرا على المغرب القسم بالسوية والحديث النبوي الشريف وهما الأصلان اللذان يرجع إليهما كل حاكم أو مسؤول في الدولة الإسلامية، وهما فيهما من الترغيب في العدل والترهيب من الظلم ومن الأمر الجازم والواجب الحتمي للحكم بين الناس بالعدل، وقد كان القرآن الكريم صريحا وواضحا في هذا الصدد «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ» (سورة النساء الآية: 58). وهذا ما أكدته آيات أخرى في مواضيع مختلفة من الكتاب العزيز وهذا مع الأمر باجتناب الظلم والوعيد الوارد في ذلك معروف لدى الخاص والعام. مجموعة وفي موضوع العدل وما ورد فيه من أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع ابن حجر الهيتمي المتوفي سنة 974 ه مجموعة الأحاديث في الموضوع بعنوان «أربعون حديثا في العدل» حققها وقدم لها بدراسة وافية الدكتور (سامي كتاني) أستاذ اللغة العربية في أكاديمية القاسي بفلسطين المحتلة 1948، والدراسة بذل فيها مجهودا مهما في استقصاء معنى العدل والعدالة عن طريق تتبع ما ورد فيه ليس في كتب الفقه والحديث وشراحه ولكن في كتب "الأدب" وكتب السياسة الشرعية أو الآداب السلطانية كما يعبر الناس في هذا الباب. العناية وأنا لا أريد أن استعرض ما كتبه في هذا الموضوع أو تناوله بالتحليل والنقد لأن الموضوع شاسع وقابل لاختلاف الآراء ووجهات النظر ولكني أريد أن أشير إلى عناية المسلمين وعلماء المسلمين بالعدل وفكرة العدالة، وليس في علم الكلام وأصول الدين حيث جعل المعتزلة "العدل" أصلا من أصول مذهب الاعتزال وتبنوا فيه كثيرا من الأفكار والمواقف استوجب أن تناول معارضوهم من أهل السنة اشاعرة وما تريديه وحنابلة نفس الموضوع بكثير من التفصيل والأخذ والعطا، والنقد وتوجيه الأفكار والناس إلى ما في الاتجاه الاعتزالي من الخطأ والعكس وارد كذلك من لدن المعتزلة وأنصارهم وهذا موضوع شاسع ولا داعي للدخول فيه في هذا الحديث ولكن العدل السياسي والقضائي الذي تناوله من كتب في الآداب السلطانية أو الأحكام السلطانية وكذلك من تناول السياسة الشرعية أو الحسبة أو المظالم وغيرها من الأبواب التي تدخل في الفقه السياسي. العدل السياسي والفقه السياسي من الأمور التي اشتغل بها ابن حجز الهينمي وفي هذا الموضوع كتب كتابه المهم جدا والعنوان الصواعق المحرفة في الرد على أهل البدع والزندقة. والذي جاء في مقدمته نذكر السبب الذي دفعه إلى تأليفه بما يلي: هداية من زل فإني سئلت قديما في تأليف كتاب بين حقيقة خلافة الصديق وإمارة ابن الخطاب فأجيب إلى ذلك مسارعة في خدمة هذا الجناب فجاء بحمد الله نموذجا لطيفا ومنهاجا شريفا ومسلكا منيفا، ثم سئلت قديما في اقرائه في رمضان سنة خمسين وتسعمائة بالمسجد الحرام لكثرة الشيعة والرافضة وغيرهما الآن بمكة اشرف بلاد الإسلام فأجبت إلى ذلك رجاء لهداية بعض من زل به قدمه عن أوضح المسالك ثم نسخ لئن أن أزيد عليه أضعاف ما فيه وأين حقيقة خلافة الأئمة الأربعة وفضائلهم، وما يتبع ذلك ما يليق بقوادمه وخوافيه فجاء كتابا في فئة حافلا ومطلبا في حلل الرصانة والتحقيق رافلا». الصراع المذهبي ومن هذه المقدمة يتضح إلى أي حد انغمس المؤلف في الفقه السياسي وما يزخر به من أفكار ومواقف ولاسيما في هذه المرحلة بالذات حيث بدأ الصراع قويا ومحندما بين الدولة العثمانية السنية، والدولة الصفوية الشيعية وكما هو واضح من خلال ذكر السنة التي توفي فيها الهيتمي فإن المغرب آنذاك خرج من وضعية صعبة بعد نهاية بني وطاس والمرينيين وخروج المسلمين من الأندلس، ولاشك أن هذا كان له الأثر كذلك في جمع هذه الأربعين حديثا التي جمعها في العدل كما سيضع عند الحديث عن هذه الأحاديث وما تتضمنه من الأحكام والتوجيه نحو العدل. العدل في القرآن الكريم والأستاذ المحقق للكتاب تناول من بين ما تناول في دراسته والتي كانت جادة ومفيدة نظرة القرآن إلى العدل لا بأس من إيرادها مع طولها ومقابلتها برأي غيره والمختصين في هذا الباب. يتناول القرآن موضوعات الحياة الإنسانية من جوانب متعددة، منها التنظيمي السلوكي، ومنها العبادات وطرق تنفيذها، ومنها الإيمان بالله وملائكته وبالكتب المنزلة وبالرسل، وغير ذلك. والنبوة هي أحد أهم الموضوعات التي تناولها القرآن الكريم، حيث تتصل دائما بالدعوة إلى عبادة الله، وبالتصدي لظلم الحاكم الظالم. ويشكل الأنبياء –كما وردت أخبارهم وقصصهم في القرآن- نماذج للحياة الأخلاقية. فهم يظهرون بمثابة صوت وحيد يصرخ في وجه النظام السياسي والاجتماعي الظالم. ولذا فالأنبياء هم الوسيلة إلى تحقيق العدل المتكامل بين أوساط بني إنسان على هذه الأرض. أنواع العدل وقد تناول القرآن موضوع العدل في آيات كثيرة، وذلك في مجالات متعددة، كالعدل بين الزوجات، والعدل في الحكم بين الناس، والإحسان، وغير ذلك. إلا أن العدل بالمفهوم السياسي لا يحتل أي مكان في القرآن. وبدلا من ذلك، نجد أن القرآن يعزز فكرة أن العدل مطلب طبيعي وضروري للمجتمع الإنساني، وينطلق من منطلق الحس الفطري الأساسي أهمية العدل في الحياة البشرية، وهذا ما ساعد بصورة كبيرة في بناء أساس فكري إسلامي قومي حول طبيعة تبني مفهوم العدل، وذلك تأثرا بنظرة القرآن الكريم إلى الموضوع. فالقرآن الكريم –إلى جانب الحديث النبوي- يشكلان مصدرا خصبا لتصورات العدل في الإسلام لدى الفقهاء وعلماء الشريعة، الذين أضافوا إلى ذلك مصدرا ثالثا وهو الاجتهاد القائم على القياس أو الإجماع. من أسماء الله الحسنى لقد ظهر ضمن أسماء الله الحسنى اسمان مشتقان من معاني «العدل»، وهما «العدل» (وهو صفة مشبه باسم الفاعل من الفعل «عدل»)، و «المقسط» (وهو اسم فاعل من الفعل «اقسط»). وهذان الاسمان يشيران إلى الطبيعة الإلهية لمفهوم العدل، حيث أنه لا يمكن أن يصل الإنسان إلى تحقيق العدل المطلق، فهو صفة إلهية خاصة. وقد تناول المتكلمون مسألة عدل الخالق في كتاباتهم، وفصلوا القول في الصفة الإلهية لهذا العدل. بين مصطلحين وفي القرآن يظهر الاقتران بين مصطلحي «العدل» و «الإحسان»، وذلك في الآية: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان»، وقد فهم بعض المتكلمين من هذا الاقتران أن الإحسان نوع من أنواع العدل، وهذا ما دعا إلى قيام «أبي هلال العسكري»، (395ه/ 1005م) اللغوي من القرن العاشر الميلادي، بالتمييز بين معنى كل من المصطلحين. وقد قلت أهمية «العدل الإلهي» بالمقارنة مع العدل العملي المنشود في الواقع السياسي للأمة، ويرى Rosenthal أنه ربما انتقلت أهمية هذا العدل الإلهي إلى النقاشات الدينية العقائدية البحثة». المقاصد الشرعية في الإسلام وقد اشرنا إلى كثير مما ورد في هذا التحليل، وإذا كان الباحث قد أشار إلى أن العدل وما ورد فيه كان مبعثه في بعض جوانبه ما كان لدى الغير مما استدعى ترجمته وتضمينه فإنه لم يتناول فكرة العدالة وأين انبعثت لدى الفقهاء المسلمين وهو موضوع تناوله بعض الباحثين في مقدمتهم المرحوم علال الفاسي في كتاب (مقاصد الشريعة) تحت العنوان أعلاه فقال مركزا على محاربة القرآن للفساد والمفسدين: «لقد ابنا كيف أن فكرة العدالة ظهرت مستقلة عن مجموع الشرائع اللاتينية والانكليزية أي مصدرا خارجا عن القانون والعرف. ويمكن أن نؤكد أن الشريعة الإسلامية كانت بعكس ذلك، لأن مصدرها الوحي القرءاني والسنة المحمدية واجتهاد الأئمة الذي هو بذل الجهد في استنباط الأحكام من الكتاب والسنة بطريق المنطوق أو المفهوم أو القياس، فالعدالة في الإسلام من صميم التطبيق للأحكام الشرعية وليست نظرية مستقلة عنها. وهي في غير ما نص عليه بصراحة تؤخذ من مقاصد الشريعة التي تنطوي على كل ما يمكن أن يقع من حوادث وأحكام، وليست المقاصد الشرعية مصادر تشريع خارجية كما حبب للسيد صبحي المحمصاني أن يفعل في كتابه (فلسفة التشريع في الإسلام) بل الأدلة الأصلية والمقاصد جزء من المصادر الأساسية للتشريع الإسلام، والحكم الذي نأخذه بطريق المصلحة أو الاستحسان أو غير ذلك من ضروب المآخذ الاجتهادية يعتبر حكما شرعيا أي خطابا من الله متعلقا بأفعال المكلفين، لأنه نتيجة الخطاب الشرعي الذي يتبين من تلك المقاصد التي هي إمارات للأحكام التي أرادها الله وأرشدنا إليها عن طريق ما أوضحه في كتابه وسنة نبيه من غايات للأحكام ومقاصد للشريعة. عمارة الأرض والمقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل وفي العمل وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع. يدل على ذلك قول الله سبحانه: وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة؟ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال إني اعلم مالا تعلمون. الغاية من الاستخلاف فهذه الآية تدل على أن المقصود من استخلاف الإنسان في الأرض هو قيامه بما طرق به من إصلاحها، والمراد بالإصلاح هنا إصلاح أحوال الناس لا مجرد صلاح العقيدة، كما يبين ذلك قوله في الآية الأخرى (هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه) فاستعمركم أي جعلكم مكلفين بعمارة الأرض. وهذا الإصلاح هو الذي دعا إليه الرسل وظلوا يعملون على تربية الناس عليه عن طريق التذكير بالفطرة وما جبل عليه الإنسان بصفته إنسانا ذا عقل ولغة وتكليف. فلنسمع لموسى يقول لأخيه هارون: (اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين). سبيل المفسدين وسبيل المفسدين هو الذي يقص علينا خبره من أعمال فرعون وملأه (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم انه كان من المفسدين). فالعتو في الأرض والطغيان وخلق الطبقات وقتل الرجال بغير حق واستحياء النساء للفساد أعظم ما يفسد الأرض، وهو محط المقاومة التي قام بها مؤمنو آل فرعون وإسرائيل استجابة لدعوة موسى ومن قبله من النبيين. ولنستمع لشعيب يقول لأهل مدين: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) وفي الآية الأخرى: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين). ولنستمع إليه سبحانه يقول في مواضع أخرى من كتابه الكريم: (فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم). وقال تعالى يصف بعض الظالمين: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل). وقال: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمرناها تدميرا). العدل في المؤلفات الفقهية: وتحدث المحقق عن فهم الفقهاء للعدل فقال: يقوم الفكر الإسلامي على فكرة أن الله هو رب العالمين، وأنه سيد المؤمنين كافة، وأنه هو حاكمهم والمشرع لقوانينهم، وبالتالي فإن الحكمة الإلهية هي مصدر أساسي للنظام الأخلاقي والاجتماعي في المجتمع الإسلامي، وتعد مبادئ العدل وقواعده المأخوذة من الحكمة الإلهية مقدسة وصالحة لكل زمان ومكان، وقابلة للتطبيق على البشر كافة. وبما أن المشرع الإلهي لم يباشر حكم المؤمنين بنفسه، فقد كان من الضروري تعيين حاكم يمثله على الأرض ويفوض سلطته لتطبيق الشريعة والحكم بالعدل. وقد ظهرت ضرورة هذا التعيين لمثل هذا الحاكم في القرآن الكريم صراحة. وبالتالي فقد نشأ في الإسلام نظام ثيوقراطي يقوم فيه حاكم ممثل لله بتطبيق شريعة الله على الأرض، وتكون الشريعة بذلك –وهي التي تجسد مبادئ السلطة الإلهية- هي التي تحكم بالفعل. لقد تناولت هذه المراجع العدل من جوانب شتى، كالعدل بين الزوجات، والعدل بين الأبناء، والعدل في القضاء، والعدل في سياسة الرعية. كما ركز أصحاب هذه المؤلفات عموما على الصفات التي ينبغي أن تتوفر في شخصية الحاكم، حتى يحسن القيام بدوره في الذود عن حياض الدين، وفي تطبيق الشريعة وتعاليمها. الأحزاب والنزاعات وبسبب النزاعات السياسية بين الأحزاب في الإسلام، فإن المطالب السياسية للأحزاب أخذت تعتمد على القرآن والحديث لتبرير أحقيتها في الحكم. وقد اعتمدت هذه الأحزاب أيضا على الفقهاء الذين اعتمدوا بدورهم على القرآن والحديث –النصين الأساسيين الأهم لدى المسلمين- في إضفاء الشرعية على مطلب معين ضد مطلب آخر من خلال حجج كلامية أو فقهية على أساس العدل. الإمامة فموضوع الإمامة هو الموضوع الذي شغل بال الفقهاء عبر عصور طويلة في تاريخ الإسلام، وكان هذا الموضوع وليد الأوضاع السياسية والاجتماعية التي رافقت مسار التاريخ الإسلام، وهي ظروف تتعلق بمحاولات الانفصال السياسي والعسكري عن الخلافة المركزية، وقد حدث ذلك خلال الحصر الأموي والعباسي. إضافة إلى ظروف اجتماعية واقتصادية سنتعرض إليها لدى حديثا عن العدل في المجال الاجتماعي –الاقتصادي». لا ثيوقراطية في الإسلام هذا ما كتبه المحقق حول العدل عند الفقهاء وقد أثار فيه انتباهي بصفة خاصة أنه وصف النظام السياسي في الإسلام (بالثيوقراطية) وهو صف خاطئ وغير دقيق لأنه ليس هناك نص يعطي الحق لأي كان أن يحكم باسم الله وأنه يملك الحق الإلهي الذي يخصه وحده دون سائر غيره من الناس ولذلك فإن الفقهاء المسلمين وهو أمر لاشك أن المؤلف اطلع عليه تناولوا أمر البيعة وما يلزم وينشأ عليها من حقوق وواجبات لكل من المبايع ومن أخذ البيعة فالنظام السياسي في الإسلام أساسه العقد بين الحاكم والمحكوم للدفاع عن الدين وتدبير أمر الدنيا وإيصال الحقوق لأصحابها دون إجحاف على أساس لا ضرر ولا ضرار وهو وكيل عن الأمة في تحقيق المصالح ودفع المفاسد وفق المصلحة العامة فإذا لم يفعل فإن الوكيل معزول إذا اتخذ جانبا يضر بمصلحة الموكل «أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم» اما تصرفات بعض المسؤولين وتجاوزاتهم واشتطاطهم وتعسفهم في تأويل النصوص فإنه لا يحسب على الإسلام ولا على نظامه السياسي فالنظام في الإسلام نظام مدني له مرجعية شرعية محددة كما تحدد وتقنن الدساتير اليوم علاقة الحكام بالمحكومين. وسنعود للموضوع لتحليل ومناقشة بعض ما جاء في الكتاب في الحديث المقبل بحول الله. *أستاذ الفكر الإسلامي