في ضوء تحقيق كتاب (أربعون حديثا في العدل) «2» الحديث عن العدل والعدالة من الأمور التي يشعر معها الإنسان بشيء من الاطمئنان لأنه يمني النفس أن العدالة ولاشك ستأخذ طريقها إلى دنيا الناس الظامئين إلى العدالة. وهل هناك بين الناس من لا يسعده أن يرى الناس وقد رضي كل منهم بما يجري في حياتهم اليومية من إنصاف المظلوم وإحقاق الحق ودحر الباطل؟ إن هذا بالفعل مما يسعد الإنسان ويضعه في حالة الاطمئنان لأنه لن يتعرض للظلم والتعسف الذي يغمر الناس في أوقات انعدام العدالة وانتشار الظلم والطغيان والاستبداد. وإذا كان الناس في كل مكان وفي مختلف العصور وعلى اختلاف الأديان والعقائد والمذاهب ينشدون العدل بل يقدمون التضحيات من أجل إشاعته بين الناس، فإن ديار الإسلام ومن على ظهرها من الناس تشعر أنها محرومة من العدل ومن العدالة فهي في محاكمها تندب ما تراه من الحيف والظلم وتجأر من ذلك في كل المناسبات الممكنة، وهي في مجال العمل والإنتاج يحس العاملون بما ينالهم من انتقاص الحقوق وفرض أقصى الواجبات، وفي معاملتها داخل المجتمع تلحظ ما يدل على ان الناس أمام العدل ليسوا سواء. ومع التعامل بين الحاكمين والمحكومين يلحظ بسطاء الناس وحتى غير البسطاء أن العدل السياسي ليس إلى الآن قريب المنال، فلا تعبير عن الرأي مضمون بالشكل المضمون للناس في ديار أخرى غير ديار الإسلام. ولا المحاسبة على المسؤولية لها طابع العدالة التي لا تحيف. ولا ولاية هذه المسؤولية يخضع لما يجب من الاختيار الحر والنزيه الضامن للعدالة. وأمام نشدان العدالة بمعناها الواسع نواصل الحديث عن تحقيق كتاب (أربعون حديثا في العدل) تأليف: ابن حجر الهيتمي تحقيق: سمير كتاني. ********* تناولنا في الحديث الأخير (من حديث الجمعة) بعضا مما ورد في دراسة وتحقيق كتاب أربعون حديثا في العدل، واستلزم الحديث عن هذا تناول بعض القضايا المتعلقة بالعدل وموضوعه وفكرة العدالة في الإسلام ولكن يبقى علينا الحديث في بعض القضايا الواردة في الكتاب وهي كثيرة ولكننا سنقتصر على البعض، قبل أن نلج إلى إلقاء نظرة عما تضمنه الكتاب من الأحاديث المروية عن الرسول (ص) وبعض ما جاء على لسان الصحابة الكرام (ر.ض). والواقع أن الباحث بذل مجهودا جبارا في الدراسة التي قدم بها لهذا التحقيق إذ هي دراسة جادة وعميقة وتستغرق من الكتاب معظمه (363 صفحة من 430ص) هي متن الكتاب دراسة وتحقيقا، وهو في هذا الجهد راجع كثيرا من المصادر والمراجع ذات الصلة بالموضوع وهو مادة "الأدب" وما تفرغ عنها وما تناولته من مضامين في مختلف العصور في الدراسات والكتابة الأدبية لدى العلماء العرب مسلمين وغير مسلمين، وان كان في هذا كله يشتط به القلم في بعض المباحث وينزلق مع آراء استشراقية وغيرها من الآراء المشابهة والناهلة من معين دراسات الاستشراق. كما تناول أقسام العدل من حيث مجال التناول ولكن في المجمل إذا كان العدل متوفرا فهو متوفر وإذا لم يكن في جانب فإنه يكون منعدما في أي قسم من أقسامه، ولم يفته أثناء الدراسة تناول فكرة التخصص أو الشمولية، ويورد في الهامش مقولة ابن قتية، التي يقول فيها: (من أراد أن يكون عالما فليطلب فنا واحدا ومن أراد أن يكون أديبا فليتفنن في العلوم كلها) (هامش 2 ص:32). ويورد أسماء بعض العلماء وعناوين كتبهم في موضوع "الأدب" الذي يحتوي على ما يعتبر من باب العدل السياسي، كما يتناول العلاقة بين الشريعة والسياسية والعلاقة بين الفقهاء والأمراء التي عرفت مدا وجزرا (ص:52) وما بعدها. ويخصص فصلا طويلا لما يسمى (آداب المرايا) وهو ما يتناول الآداب السلطانية. أنواع العدل: وهو عندما يتحدث عن أقسام العدل كما اشرنا يحددها فيما يلي: 1– عدل يجب على الحكام 2 – عدل يلزم الإنسان في محاسبة نفسه فيما بينه وبين خالقه. 3 – عدل الرعية تجاه الحاكم 4 – عدل الرعايا تجاه بعضهم البعض والواقع أن هذه الأقسام التي يذكرها يمكن الرجوع في أصلها إلى ما ورد في الحديث المعروف الصحيح (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته (الحديث). المفهوم النسبي ويعتبر الدارس العدل مصطلحا نسبيا يتخذ مضامينه ومدلولاته من المفاهيم والظروف الاجتماعية والبيئية والزمانية المختلفة. ولكننا عندما نتتبع الدراسة نجد أن العدل بمعنى إيصال الحقوق إلى ذويها يبقى المعنى المطلوب من تحقيق العدل في أي جانب من جوانب الحياة الإنسانية، سواء كانت قضايا خاصة أو قضايا عامة، ويبقى أن العدل آنذاك ليس هو الذي يتغير في مدلوله ودلالاته، ولكن الذي يتغير هو مجال التطبيق فهو الذي يحدد له وصفا معينا أو تخصيصا معينا. أسلمه المادة الأدبية حول العدل وتعريبها والكاتب يستعير عنوانا حديث التداول وهو الأسلمة ليكتب مبحثا مهما في هذا الإسقاط الذي يعتبره أسلمة قائلا: ... عندما يتم مادة فكرية أجنبية في فكر حضارة ما، فإنه يتم صوغ هذه المادة بأسلوب يعبر عن طبيعة الفكر والقيم السائدة في هذه الحضارة، وهذا الصوغ الجديد، باللغة المتداولة وبأساليبها المتبعة، هو بمثابة محاكاة أدبية. ويلاحظ أن تصور العدل السياسي في المصادر الإسلامية الوسيطة يستند إلى إجراءين أساسيين، إضفاء الصبغة الدينية عليه وتعريبه. نماذج الأسلمة و يوضح الباحث هذه الفكرة على النحو التالي: 1 – نسبة الحكم والأقوال القديمة (وغير العربية الأصل عادة) إلى شخصيات من عالم الإسلام، كالرسول والصحابة، وكبار الخلفاء والوزراء، وكبار الزهاد والعلماء من القرن الأول الهجري. وذلك مثل «الأحاديث» التالية: - «عدل السلطان يوما يعدل عند الله عبادة ستين سنة». - «أحب الناس إلى الله وأقربهم السلطان العادل، وأبغضهم إلى الله وأبعدهم السلطان الجائر». - «والذي نفس محمد بيده أنه ليرفع للسلطان العادل إلى السماء مثل عمل جملة الرعية». - «حد يقام في الأرض خير من أن تمطر أربعين صباحا». - «إمام عادل خير من مطر وابل». - «المقسطون على منابر من لؤلؤ يوم القيامة بين يدي الرحمن بما أقسطوا في الدنيا». وقد وردت هذه «الأحاديث» في مراجع متأخرة منسوبة إلى النبي، بينما وردت في مراجع «الأدب» المبكرة كأقوال مأثورة منسوبة إلى شخصيات مختلفة، إسلامية وغير إسلامية. ما نسب إلى الصحابة وعن نموذج ما ينسب إلى الصحابة نورد النموذج التالي: ومثل ذلك أيضا القول المنسوب إلى الخليفة علي بن أبي طالب: «العالم حديقة سياجها الشريعة، والشريعة سلطان يجب لها الطاعة، والطاعة سياسة يقوم بها الملك، والملك راع يعضده الجيش، والجيش أعوان يكفلهم المال، والمال رزق تجمعه الرعية، والرعية سواد يستعبدهم العدل، والعدل أساس قوام العالم»، فهذا القول قد ورد في المراجع الأدبية منسوبا إلى كسرى أنوسروان، مع تغيير في الصيغة. ملامح دينية هذا عن النصوص كما وردت غير أن الباحث يلاحظ أن هذا يحول النصوص من صبغتها السياسية والعادية إلى صيغة دينية. 2 – صبغة القول بملامح وسمات دينية إسلامية، مثل أن ثواب الإمام العادل الجنة، وأن مكانه بجانب عرش الرحمن يوم القيامة، وأن العدل نوع من العبادة الروحانية، وما إلى ذلك. وقد نسب إلى الفضيل بن عياض الزاهد قوله: «النظر إلى وجه الإمام العادل عبادة»، وكذلك قوله: «لو كان لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في الإمام. إسقاط في غير محله هذه بعض النماذج التي يرى المؤلف أنها نقلت من أصلها غير الإسلامي وغير العربي وأضفيت عليها الصيغة العربية والصبغة الدينية والباحث الباحث في هذه المسألة يقوم بعملية إسقاط لكلمة أسلة على موضوع هو بالأساس ما قامت عليه الشرائع التي جاءت من عند الله سبحانه وتعالى فالأساس في هذا الموضوع هو قوله تعالى (قل أمر ربي بالقسط) فالقسط والقسطاس المستقيم من الأمور التي قام بالدعوة إليها وسعى لإيجادها وانتشارها بين الناس، الإسلام ورسوله النبي الخاتم محمد عليه السلام ومسألة أسلمتها أو غير هذا من المصطلحات المتداولة في عصرنا لم تكن واردة في ذهن القائمين على تلقي النصوص الشرعية القطعية أو التفسيرية لها ما دامت هذه التفاسير والشروح ملتزمة بالموضوعية الشرعية المبنية على قواعد راسخة من حيث الدقة والإحاطة والمرونة اللازمة للتطوير، ولكن في دائرة وفي سياق المفاهيم التي آنبنت عليها الشريعة والفقه والمعبرة عنها لدى الأصوليين بالمقاصد الشرعية، فما دامت مقولة معينة جاءت وفق هذه المقاصد كانت حكمة أو شعرا أو قولا مرسلا فهي في إطار هذه المقاصد، وتبرز بطبيعتها الإسلامية لا متأسلمة. السلف الموضوعي وكانت لدى الخلف والسلف المعنيين بهذا الموضوع القدرة على نسب هذه إلى أصحابها، وهذا ما نلاحظه في الكتب المعبر عنها بالمرايا أو المتناولة للآداب السلطانية أو الأحكام السلطانية، ونسبها إلى المجموعة الحديثة لا يعني أبدا أو لا يتم إلا في إطار حسن النية وحسن الظن بالقائل، ولكن المهم في هذا الباب هو ما يتقرر في أمهات الكتب الحديثية المعروفة وبالأخص الكتب الستة، فهي التي يقرر من خلالها مدى صحتها أو ضعفها أو غير ذلك من ألقاب مصطلح الحديث والدليل على ذلك وجود بعض الأدباء، والمؤلفين يوردونها في مجالات غير حديثية. جنوح إلى اتهام كما ذكر المؤلف نفسه وهو يجنح به الأمر في هذه القضية إلى اتهام جهات لم يحددها بالوضع والاختلاق في موضوع الحديث، مع أن علماء الحديث وضعوا ضوابط ومنهاج يحددون به حتى الكلمات الواردة في نص حديثي ولم ترد في النص الأخر ومصدر الزيادة أو النقص مع التدقيق في الراوي وما يتعلق به من الصدق والضبط والأمانة والحفظ والورع والتقوى وعدم انتمائه إلى جهات ممن يعتبرونه ذوي الأهواء والزيغ والاختناق. ندرة النصوص ويطرح المؤلف قضية بالنسبة إليه والمجموعة المعنية للموضوع وهذه القضية هي شح أو نظرة النصوص الحديثية الواردة في العدل السياسي، فيقول: «وبالنسبة إلينا كباحثين في الحضارة العربية والإنسانية، فإنه يثير اهتمامنا ملاحظة عدم وجود مادة حديثية ملائمة لموضوع العدل السياسي في الفترات الزمنية الأولى (القرون الهجرية الأولى)، وكأن الأمر يثير احتمالا بأن الأدباء لم يكونوا قد وجدوا مثل هذه الأحاديث بعد، أو أن مثل هذه الأحاديث لم تكن قد «وضعت» بعد، (ولا يعنينا هنا ما إذا كانت هذه الأحاديث المنسوبة إلى النبي قد قالها النبي بالفعل، أو أنه لم يقلها وقد نسبت إليه فقط، ولكن بعض العلماء وعامة المسلمين اعتبروا هذه «الأحاديث» صالحة للاستخدام والاقتباس في عصور متأخرة). بناء على غير أساس الباحث هنا كما اشرنا يثير ملاحظة يظهر أنها لم تبن على أساس من الموضوعية المطلوبة، فالحديث النبوي أو السنة ليست كتابا خاصا في العدل سواء كان سياسيا أو اجتماعيا أو قضائيا، ولكنها تأتي حسب ما يقتضيه الموقف للتوجيه والإرشاد، وكأن المؤلف هنا يشبه من يريد من القرآن أن يأتي بنظريات علمية جاهزة رغم أنه فيه ملامح و إشارات بل وحتى حقائق اعجازية من الناحية العلمية ولكن يبقى الأساس هو أن القرآن كتاب هداية. الدعوة إلى العدل وفي موضوعنا فإن الأمر يعني الدعوة إلى العدل وإقامته بين الناس في القضايا المختلفة وطبقا للأقسام التي يصنفون إليها هذه القضايا، والمؤلف هنا كذلك يتبع في الطرح ما كان سائدا لدى الكثير من الباحثين من أن التأليف في الفقه السياسي لدى المسلمين قليل مع أنه اكتشف في السنوات الأخيرة عدد هائل من الكتب والمؤلفات في الفقه السياسي من لدن العلماء المسلمين، وإذا كان القرآن كما اشرنا جاء مؤكدا للعدل وما جاء في الحديث في نفس الاتجاه، ولاشك أن الدخول في التفاصيل يترك للاجتهاد ولاسيما السياسة التي هي مما يقبل التطور حسب الواقع وحسب ما يحدث في المجتمع من الأحداث والاقضية وهي أمور لا يمكن حصرها وعلى هذا الأساس لجأ الأصوليون إلى ضرورة استعمال القياس والاستحسان والمصلحة المرسلة وغيرها من آليات الاستنباط والحصول على الأحكام عندما تقتضي الحاجة ذلك. استنتاج وتأويل وقد أورد المؤلف ما تم بعد القرون الأولى من غزارة النصوص الحديثية في العدل السياسي ليؤول ويستنتج استنتاجا غير صائب وفيه نوع من اللمز وربما الاتهام بما يعرف عند علماء الحديث بالوضع أي اختلاق نصوص لم تكن موجودة، حيث يقول: «وفي المؤلفات العربية التي وضعت في الفترات المتأخرة نسبيا (بعد القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، حيث أن «أبا نعيم الاصبهاني» قد وضع مؤلفا يشتمل على أحاديث في موضوع العدل السياسي، نجد أنها تشتمل على كم وافر من الأحاديث النبوية، والآثار العربية البدوية، وهذه المؤلفات وضعها أدباء ذوو صلة بالعلوم الدينية، كالماوردي، والغزالي، والطرطوشي وغيرهم. عدم الاكتمال وهذه الحقيقة تبين أن هذه المادة الأدبية»- الدينية لم تكن قد اكتملت في عصر «ابن قتيبة»، أو أنها لم تكن قد جمعت في عصره. (انظر المدخل إلى هذه الدراسة). ووجود هذه المواد في العصور التي تلت عصر أبي قتيبة يدل على عدم توافرها في زمن هذا الأخير (حيث أنها لو وجدت في زمانه، لكان استخدمها في «عيون الأخبار»، إذ أنه كان قاضيا يهتم بالآثار الدينية، كما أن استخدامه للأحاديث النبوية «يكسر» من حدة الطابع الفارسي للمادة الأدبية التي يزخر بها كتابة المذكور)، فهي اكتشفت في فترة متأخرة. أو ربما يدل الأمر على أنها «اخترعت» في وقت متأخر. وكما ذكر آنفا، لا يهمنا في الواقع ما إذا كانت هذه الأحاديث قد قاله النبي فعلا، أو أنها وضعت وضعا، فنحن نتعامل معها كأحاديث، وذلك لأن الأدباء نظروا إليها كأحاديث «قابلة للاستخدام» في التصنيف «الأدبي» والديني في العصور المتأخرة». جذور غير عربية وفي الفقرة التالية يتضح الهدف الذي يرمي إليه الباحث حيث يقول: «ولهذا فإن معظم المادة التي نجدها لديه تعود إلى جذور غير عربية في غالبها. (ولذا، يمكن القول بأن النزعة الإنسانية عند «ابن قتيبة»، وإن كان الرجل ذا توجه معرفي ديني، قد حتمت عليه النزوع إلى المصادر غير العربية، وبالأخص، غير الإسلامية). التوظيف السياسي والتساؤل الذي نثيره هو: ما هي طبيعة العلاقة بين الحديث النبوي وراويته من جهة، وبين أدب «الأدب» من جهة أخرى؟ الباحث يرى أن هناك جهات معينة أرادت وعملت على توظيف الأحاديث النبوية توظيفا سياسيا. «من المهم التأكيد هنا على أنه بالإمكان اعتبار الأحاديث النبوية مادة خاما تم توظيفها في جهود جمع وتصنيف (بمعنى ترتيب وتنظيم) نصوص «الأدب». ولذلك، فإن جمع مواد حول العدل من قبل عالم حديث أو فقيه غير مرن في العادة، كابن حجر الهيتمي في حالتنا هذه، يخدم مفهوم الأسس التي تشكل «الأدب» على صعيد الطبقات الحاكمة والارستقراطية، حيث «تستهلك» هذه الطبقات خصوصا المادة الأدبية، وتهتم كثيرا بالنصائح السياسية والأخلاقية. حجة الإمام مالك إن الباحث في هذه الفقرة يكاد يفصح إن لم يكن قد أفصح بالفعل عن نسبة الوضع في الحديث في هذا الموضوع بالذات والقرينة التي اعتمد عليها قرينته استشراقية لأنه لا يعني عدم وجود حديث في كتاب أو عدم ورود نص ما قد يكون غائبا عن المؤلف أو ليس من النصوص ذات الأولوية عنده، ولذلك نجد الفقهاء حتى في مجال الأحكام الفقهية والمقارنة بين المذاهب، يقولون لعل فلان لم يبلغه هذا الحديث أو الخبر أو له عليه ملاحظة ولكن لا يعني أنه غير موجود بل هذه كانت حجة الإمام مالك رحمه الله التي دفع بها رأي أبي جعفر المنصور لما طلب منه أن يحمل الناس على الموطأ، فقال له: (إن أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار وكل نقل إلى المصري الذي يوجد فيه ما رواه أو سمعه بين الرسول عليه السلام فدع الناس على ما هم عليه). الحديث النبوي وتوظيفه في موضوع العدل السياسي وإذا كنا في الحديث الماضي تعرضنا لموضوع العدل في القرآن كما أورده الباحث فإننا في هذا الحديث نرجع إلى العدل وتوظيفه في العدل السياسي الذي يقول فيه الباحث ما يلي: خلفية عامة: موضوع العدل في الحديث النبوي لقد تناولت الأحاديث النبوية، منذ الفترات المبكرة التي جمعت فيها، موضوعات أخلاقية متعددة، تشمل المعاملات واللباس والآداب، وشتى الموضوعات الأخرى. غير أن موضوع العدل السياسي، كان غائبا بصورة عامة عن الأحاديث التي جمعت في الفترة المبكرة حتى القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي. ويعد الاشتغال بعلوم الحديث من العلوم الدينية الرئيسية في الإسلام كونه يعالج ثاني أهم اثر قولي بعد القران الكريم. ويمكن تقسيم الاشتغال بالحديث وعلومه إلى فترتين رئيسيتين: الفترة الأولى: وهي الممتدة بين القرنين الثالث والخامس الهجريين (التاسع والحادي عشر الملاديين) وقد تم فيها تصنيف وتنقيح الأحاديث التي جمعت. الفترة الثانية: وهي الممتدة بين القرنين الثامن والتاسع الهجريين (الرابع عشر والخامس عشر ملاديين) وهي الفترة التي حكم فيها المماليك. وقد تم خلالها تصنيف معاجم للحديث النبوي ولرواته لما يتصل به من موضوعات. ولما كانت السلطة قد تنبهت إلى الدور الخطير الذي يمكن أن تلعبه الشريعة في استقرار النظام السياسي في الدولة، فإنها عكفت على توظيفها لما يخدم مصالحها، وكان الحديث النبوي من ابرز الآثار التي تتمتع باحترام وثقة العامة، كما أن العلماء كانوا يمثلون الشريعة. ولهذا، يفترض أن يكون "ظهور" بعض الأحاديث في فترات تاريخية معينة مقترنا بسعي السلاطين الدائم نحو ما يقوي ملكهم، بتشجيع منهم لبعض المحدثين والعلماء، (وقد غالى بعض المفكرين المحدثين في تبسيط الصورة القائلة بان السلطان المسلم على مر الأزمان، كان من وراء مؤامرة تهدف إلى تشويه الإسلام وتفريغه من رسالته الأساسية التي جاء بها النبي محمد، وذلك بما يتوافق مع الأهداف السياسية للحاكم. بل يرى هؤلاء ان السلطان تواطأ مع غير المسلمين من الحاقدين على الإسلام لتحريف وابتكار أحاديث ونسبها إلى الرسول، حتى وان تناولت هذه الأحاديث موضوعات لا تمت بأي صلة إلى السياسة، بغرض التأثير على نمط التفكير لدى المسلم، وجعله إنسان ساذجا ومهزوما. ولنا عودة للموضوع لاستكماله. *أستاذ الفكر الإسلامي