نسعى من خلال هذا الحديث الوجيز إلى الإقتراب من موضوع يحتاج إلى أعمال علمية كبيرة وموسعة، ويقتضي دراسات تتقاطعها تخصصاتُ التاريخ والفقه والتصوف والأدب والموسيقى والأنتروبولوجيا وغيرها، كما تستعجل قبل هذا وذاك إخراج جم من المخطوطات والوثائق المنسية أو المهملة، والعمل على تحقيقها تحقيقا علميا ثم نشرها وإذاعتها بين الناس. يتعلق الأمر بموضوع الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب، فعلى أهمية ما أنجز فيه وحوله من إضاءات، ما يزال في مسيس الحاجة إلى بحث في المظان التاريخية للوقوف على تفاصيل هذا الاحتفال في مختلف اللحظات التاريخية منذ انطلاق هذا الاحتفال في القرن السادس الهجري على عهد العزفيين إلى راهننا المعاصر؛ وذلك من أجل الوقوف على مختلف مظاهر هذا الاحتفال الرسمية والشعبية وآثارها الأدبية والعلمية والاجتماعية والدينية وأبعادها الحضارية ومدى إسهامها في تشكيل وجه من أوجه الهوية الدينية للمغرب الأقصى؛ وكذا من أجل رصد الوظائف المتعددة التي صارت تضطلع بها كل تلك المظاهر؛ حيث صار هذا الاحتفال، بطقوسه وعاداته في اللباس والطبخ والتزيين والإنشاد والاجتماع والعمران وسك العملات وإحياء ليالي الذكر والتذكير في المساجد والزوايا والمشاهد والبيوتات الخاصة...؛ صار هذا الاحتفال بفضل ذلك وغيره علامة مميزة للشخصية الإسلامية المغربية. هذه آفاق ينبغي على البحث والباحثين أن يمخروا عبابها، فثمة أصداف تنتظر في شغف من سيظفر بها ليجليها لنا، كيما نتعرف على الأبعاد الاجتماعية والنفسية والسياسية والفلسفية والجمالية والحضارية لاحتفال المغاربة بالمولد النبوي الشريف؛ وهو الاحتفال الذي تظل كل نظرة تعتبر مظاهره من مخلفات الأعراف والعادات الثانوية أو التقاليد التي تعللها الوراثة والحنين للماضي، تظل نظرةً قاصرة وكليلة عن إدراك خفايا امتداد هذا الاحتفال وإصرار المغاربة، رسميا وشعبيا، على التمسك به وإحياء وتجديد مظاهره وتجلياته. سيلزمنا في البدء وقبل تناول بعض مقاصد هذا الاحتفال، أن نقترب قليلا من تاريخ انطلاقه وتطوره. -1 الاحتفال بالمولد النبوي: اقتراب تاريخي من المعلوم أن الاحتفال بالمولد النبوي الكريم قد ظهر وانتعش رسميا منذ عهد الفاطميين بمصر وتونس حيث كانوا يحتفلون به ضمن احتفالهم بستة مواليد، وهي مولد الرسول الأعظم(ص)؛ ومواليد آل البيت عليهم السلام علي ابن أبي طالب والحسن والحسين وفاطمة الزهراء؛ ومولد الخليفة الحاضر. كما أن مكةالمكرمة كانت تحتفي بهذا العيد، حيث ينقل لنا الرحالة الأندلسي ابن جبير في «رحلته» عام 579ه-1183م أن مشهد مولد الرسول(ص) بمكةالمكرمة يفتح في شهر ربيع الأول يوم الاثنين تحديدا فيدخله الناس كافة، ويضيف أبو العباس العزفي في كتابه «الدر المنظم في مولد النبي المعظم» أن يوم المولد يتخذ عطلة عامة بمكةالمكرمة وتفتح فيه الكعبة المشرفة ليؤمها الزوار. وإذا كان بعض الباحثين يعين القرنين السادس والسابع الهجريين باعتبارهما تاريخ ظهور الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف، فإن غيرهم يؤكد «أن العباسيين احتفلوا به طوال مختلف عهودهم وأن العلويين والشيعة عامة قد احتفلوا به حتى قبل قيام الدولة العباسية»، وممن احتفل بالمولد النبوي الشريف خلال القرن السابع الهجري الملك مظفر الدين بن زيد الدين صهر صلاح الدين أمير أربل (وهي مدينة تقع جنوبي شرقي الموصل بالعراق)(ت.630ه/1232م). وقد زار هذه المدينة ابن دحية السبتي -وهو من كبار علماء المغرب في عصر الموحدين- عام 604ه/1207م، وحين رأى احتفال الملك مظفر الدين وولعه بعمل المولد النبوي الشريف ألف له كتاب «التنوير في مولد السراج المنير». أما في المغرب فقد كان أول من دعا إلى الاحتفال بعيد المولد النبوي الكريم أبو العباس العزفي السبتي المتوفى سنة 633ه/1236م، ويذكر في مقدمة الكتاب الذي بدأ تأليفه «الدر المنظم في مولد النبي المعظم» الحافز الذي حذا به إلى الدعوة لهذا الاحتفال؛ ذلك أن أبا العباس العزفي لاحظ متابعة المسلمين ومجاراتهم للنصارى في احتفالهم بأعياد «النيروز» (أول يناير ويوافق ميلاد السيد المسيح عليه السلام) والمهرجان (العنصرة حيث ذكرى ميلاد النبي يحيى عليه السلام يوم 24 يونيو)، و«ميلاد السيد المسيح عليه السلام») هو 25 ديسمبر حسب التقويم الغربي)، فدفعته غيرته على الإسلام والمسلمين في الأندلس وخوفه على هويتهم ودينهم إلى أن يفكر في ما يدفع هذه المناكر ولو بأمر مباح. فكان أن انتبه إلى ضرورة العناية بمولد النبي الكريم (ص) فبدأ يطوف على الكتاتيب القرآنية بسبتة ويشرح لصغارها المغزى والغايات الفاضلة من هذا الاحتفال، كما حض على تعطيل قراءة الصبيان في هذا اليوم العظيم. وهكذا انطلق هذا الاحتفال كشكل من أشكال مقاومة التقليد الديني للمسيحيين. ولما تولى ابنه أبو قاسم العزفي إمارة سبتة، كان من إنجازاته أن حقق رغبة والده فاحتفل في سبتة بالمولد النبوي في أول ربيع من إمارته عام 648ه/1250م، ويصف ابن عذارى المراكشي احتفال أبي قاسم العزفي في أول ربيع له بالمولد الكريم، فيكتب: «ومن مآثره العظام، قيامه بمولد النبي -عليه السلام- من هذا العام، فيطعم فيه أهل بلده ألوان الطعام، ويؤثر أولادهم ليلة يوم المولد السعيد بالصرف الجديد من جملة الإحسان إليهم والإنعام، وذلك لأجل ما يطلقون المحاضر والصنائع والحوانيت يمشون في الأزقة يصلون على النبي عليه السلام، وفي طول اليوم المذكور يسمِّع المسمعون لجميع أهل البلد مدح النبي عليه السلام، بالفرح والسرور والإطعام للخاص والعام، جار ذلك على الدوام في كل عام من الأعوام». ومن أجل إشاعة هذا الاحتفال، وبعد أن أكمل أبو القاسم كتاب والده «الدر المنظم في مولد النبي المعظم»، وبعث بنسخة منه إلى الخليفة ما قبل الأخير في سلالة الموحدين عمر المرتضى مشيرا عليه بإحياء هذه «البدعة الحسنة» كما وصفها كتاب «الدر المنظم»، صار هذا الخليفة الموحدي يحيي ليلة المولد بمراكش ويحتفل بها احتفالا، ويبدو أن الإنشاد والسماع كانا حاضرين أيضا كمحورين رئيسيين في هذا الاحتفال، كما يوحي بذلك «كتاب المسموعات» الذي ألفه مؤرخ المرتضى أبو علي الحسن بن علي بن محمد بن عبد المالك الكتامي الرهوني المعروف بابن القطَّان نزيل مراكش 661ه/1263م. وهو كتاب ضمنه قصائد مختارات فيما يخص المولد الكريم، وشهور رجب وشعبان ورمضان، وغير ذلك.وهو كتاب مفقود. وقد امتد الاحتفال بالمولد النبوي في المغرب على عهد المرينيين إلى أن أصبح عيدا رسميا معمما في جميع جهات المغرب مع يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني أواخر صفر عام 691ه/1292م. وفي أيام أبي سعيد الأول بن يوسف أضيف إلى ليلة المولد الاحتفال بسابعه، وفي أيام هذا السلطان تبنت الدولة القيام بنفقات الاحتفال بليلة المولد في سائر جهات المملكة. وقد اتخذت هذه الاحتفالات طابعيها الاحتفائي الباذخ والبهي مع أبي الحسن وأبنائه، حيث دأب أبو الحسن المريني على إحياء ليلة المولد سفرا وحضرا، إذ يقتني لها ألوان المطاعم والحلويات والبخور والطيب؛ مع إظهار مظاهر الزينة والتأنق في إعداد المجالس كل حسب مرتبته وطبقته، ويأخذ الجميع من لباسه أبهاه ومن ريحه أطيبه، ويقدم في هذه الليلة ما طاب ولذ عن الفواكه الطرية واليابسة والحلويات وغيرها، وقد يقع الإطعام بعد العِشاء الآخرة. وكانت إذا «استوت المجالس وساد الصمت قام قارئ العشر فرتل حصة من القرآن الكريم، ويتلوه عميدُ المنشدين ويؤدي بعض نوبته تم يأتي دور قصائد المديح والتهاني بليلة المولد الكريم». وكانت تواكب هذه الاحتفالاتِ الرسمية احتفالاتٌ أخرى شعبية، حيث تُقام الأفراح وتستنير المدن بالأضواء، ويَتجمل الناس وتُزين المدن. وصار يوم الثاني عشر من ربيع الأول يوم دخول الصبيان بفاس للكتاتيب القرآنية، ومناسبةً لختان الأطفال. كما دأب الصوفية على الاحتفال بهذا العيد بزواياهم أو بالبيوتات الخاصة؛ فهذا أبو مروان عبد الملك الريفي أحد تلامذة أبي محمد صالح الماجري دفين آسفي، يقيم المولد النبوي في منزله بسبتة بحضور المريدين ومن إليهم ويستعمل في الليلة السماع، كما أن شعراء الملحون في هذا العهد كانوا يتبارون لإظهار براعتهم الشعرية بمناسبة المولد النبوي «حيث يجتمعون صباح يوم العيد في الميدان الرئيسي ويعتلون المنصة واحدا تلو الآخر لإلقاء أشعارهم وقد تجمهر عليهم الناس، ثم يُنَصَّبُ أميراً للشعراء من أحرز منهم قصب السبق». ويُذكر كذلك أن السلطان المريني «كان يقيم حفلا بهذه المناسبة يستدعي له رجال العلم والأدب، وأن الشعراء كانوا يلقون القصائد أمامه فيُنعم على الفائز الأول بمائة دينار وفرس ووصيف وحُلَّتِه التي يكون لابسا في هذا اليوم ويمنح سائر القراء خمسين دينارا لكل واحد». وقد ازدهت وازدهرت هذه الاحتفالات مع السعديين، وتعيينا في عهد المنصور كما أرخ لذلك عبد العزيز الفشتالي في «مناهل الصفا» حيث نقرأ فيه وصفا دقيقا لأحد مجالس هذه الحفلات. يقول الفشتالي: «فإذا استوت الورود، واصطفت الصفوف وتقاربت الأجناس وتآلفت الأشكال، ورضيت مقاعدها السراة(...) تقدم أهل الذكر والإنشاد يقدمهم مشائخهم من بعد أن يفرغ الواعظ من قراءة ما يناسب المقام من الاستفتاح بفضائل النبي(ص) وسرد معجزاته والثناء على شريف مقامه وعظيم جلاله، واندفع القول لترجيع الأصوات بمنظومات على أساليب مخصوصة في أماديح النبي الكريم (ص) يخصها العرف باسم «المولديات» نسبة إلى المولد النبوي الكريم، قد لحنوها بألحان تخلب النفوس والأرواح، وترق لها الطباع وتبعث الانشراح في الصدور والأشباح، وتقشعر لها جلود الذين يخشون ربهم، يتفننون في ألحانها على مذهب تفننها في النظم، فإذا أخذت النفوس حظها من الاستمتاع بألحان المولديات الكريمة، تقدمت أهل الذكر المزمزمون بالرقيق من كلام الشيخ أبي الحسن الششتري رضي الله عنه وكلام غيره من المتصوفة أهل الرقائق. كل ذلك تتخلله نوبات المنشدين للبيتين من نفيس الشعر يتحينون به المناسبة بينها وبين ما يتلى من الكلام عند الإنشاد». وقد تطورت بعد ذلك هذه التقاليد في عهد الدولة العلوية ونالت من العناية والرعاية و والأبهة والتأنق ما تزخر به كتب التاريخ على غرار ما نجد كتاب «العز والصولة» للمؤرخ عبد الرحمن بن زيدان. وهو الاحتفال الذي مازلنا نعيش فصولا رائعة منه في زماننا الحاضر من خلال الحفل السلطاني المتفرد و البهيج الذي يترأسه أمير المومنين كل سنة بهذه المناسبة. على أن امتداد هذا الاحتفال على مدى قرون يجعلنا نتساءل: ما هي المقاصد والغايات التي جعلت المغاربة يتمسكون بهذه البدعة الحسنة ويتفننون في الاحتفاء بها وإحيائها؟ -2 من مقاصد الاحتفال بالمولد النبوي الشريف لن نستقصي هنا كل المقاصد المرجوة من هذا الاحتفال، بل حسبنا التمثيل على بعضها وتحريرها بنماذج مبينة. الفرح برسول الله (ص) إن من أبرز ما يعبر عنه الاحتفال بالمولد النبوي الكريم ويطلبه هو الفرح بولادة «الفجر الأعظم» سيدنا محمد (ص). وهو الفرح المستمدة شرعيته من قوله تعالى: «قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا»﴾ (يونس الآية 58). فقد جاء في «الدر المنثور» للإمام السيوطي وفي غيره منقولا عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قوله: «فضل الله العلم ورحمته محمد(ص)». بل إن أبا العباس المرسي يذهب إلى أنه عليه السلام الرحمةُ عينها، إذ لما كان سائر الرسل قد بُعثوا رحمة إلى أقوامهم؛ وكان (ص) قد فاقهم خَلقا وخُلقا وعلما وكرما، حتى استمدوا من روحانيته غرفا من البحر أو رشفا من الديم، كان (ص) هو «عينَ الرحمة» لقوله سبحانه «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»﴾ (الأنبياء، الآية 107). من هنا وجب علينا الفرح والابتهاج والحبور بهذه الرحمة التي أهداها لنا ومَنَّ بها علينا الحق سبحانه. فقد قال أبو العباس المرسي في لطيفة نفيسة: «الأنبياء إلى أممهم عطية، ونبينا(ص) لنا هدية، وفرق بين العطية والهدية؛ لأن العطية للمحتاجين والهدية للمحبوبين، قال رسول الله(ص): إنما أنا رحمة مهداة». ومن ثم كان الاحتفال بهذا العيد فرحا بهذه الرحمة الربانية المهداة وشكرا على هذه النعمة المسداة التي أنعم الله علينا بها لما بعث فينا خليله وحبيبه المصطفى (ص).