ضمن الدكتوريوسف القرضاوي كتابه «من فقه الدولة في الإسلام مكانتها .. معالمها .. طبيعتها .. موقفها من الديمقراطية والتعددية والمرأة وغيرالمسلمين» الصادرعن دارالشروق في القاهرة-الطبعة السادسة سنة 2009- فصولا في فقه الدولة في الإسلام، وهو فقه قصرفيه المسلمون كثيرا في الأزمنة الأخيرة كما قال المؤلف ، ولم يعطوه حقه من البحث والا جتهاد، كما أعطوا مجالات الفقه الأخرى، التي توسعت وتضخمت وخصوصا فقه العبادات . وذكرالمؤلف بشكوى الإمام ابن القيم في عصره [القرن الثامن الهجري ] من جمود فقهاء زمنه، حتى إنهم اضطروا أمراء عصرهم إلى أن يستحدثوا [قوانين سياسية] بمعزل عن الشرع، وحمل ابن القيم الفقهاء الجامدين تبعة انحراف الأمراء والحكام، وشرودهم عن منهج الشريعة السمحة، وربما يعتبر هذا أول تسلل للقوانين الوضعية لتحل محل أحكام الشريعة الإسلامية . وأضاف المؤلف أن هؤلاء الجامدين من أهل الفقه ما زال لهم أخلاف في عصرنا، يعيشون في القرن الخامس عشر الهجري، ولكنهم يفكرون بعقول علماء ماتوا من قرون، وقد تغيركل شئ تقريبا في الحياة عما كان عليه الحال في عهود أولئك العلماء. ونسى هؤلاء أن الإمام الشافعي غيرمذهبه في مدة وجيزة، فكان له مذهب جديد، ومذهب قديم ، وأن أصحاب أبي حنيفة خالفوه في أكثرمن ثلث المذهب، لاختلاف عصرهم عن عصره، وقالوا : لورأى صاحبنا ما رأينا، لقال بمثل ما قلنا أو أكثر.. والإمام أحمد تروى عنه في المسألة الواحدة روايات قد تبلغ سبعا، أو أكثروما ذلك إلا لاختلاف الأحوال والملابسات، وتغيرالظروف والأوضاع في غالب الأحيان. وهذا الكتاب تعبيرعن فقه الدولة في الإسلام: ما مكانتها؟ ما حكم إقامتها؟ وما معالمها المميزة لها؟ وما طبيعتها ؟ أهي دولة مدنية ملنزمة بالإسلام أو دولة ثيوقراطية دينية كهنوتية؟ وكيف نرد على من يزعمون أنها دولة دينية تحكم بالحق الإلهي؟ وما موقفها من التعددية والديمقراطية ومن المرأة، ومن غير المسلمين؟ وهل يجوزلأي جماعة إسلامية أن تشارك في الحكم في دولة علمانية؟إلى آخر هذه القضايا الحساسة والمهمة. وبهذا يكون الكتاب إضاءة لهذه القضية الكبرى، وردا على بعض الشبهات المثارة، وبيانا للموقف الوسط بين الجامدين والجاحدين .. مكانة الدولة في الإسلام أشار المؤلف في البداية إلى تأثيرالا ستعمارالغربي الذي حكم ديارالمسلمين، حيث استطاع أن يغرس في عقول بعض الناس فكرة غريبة خبيثة، مؤداها :أن الإسلام دين لا دولة. [دين] بالمفهوم الغربي لكلمة [الدين] ، أما شئون الدولة فلا صلة له بها. وإنما ينظمها [العقل الإنساني ] وحده وفقا لتجاربه وظروفه المتطورة . لقد أرادوا أن يطبقوا على الإسلام في الشرق، ما طبق على المسيحية في الغرب. فكما أن النهضة هناك لم تتم إلا بعد التحررمن سلطان الدين، فكذلك يجب أن تقوم النهضة في شرقنا العربي الإسلامي على أنقاض الدين . مع أن الدين هناك معناه: الكنيسة وسلطة البابا، واستبداد رجال الكهنوت بالضمائروالأرواح. فأين هذا من الدين هنا، وليس فيه بابا ولا كهنوت ولا استبداد بالضمائروالأرواح ؟ ويضيف المؤلف : «على كل حال، لقد نجح الا ستعمارفي خلق فئات تؤمن بأن الدين لا مكان له في توجيه الدولة وتنظيمها، وأن الدين شئ والسياسة شئ آخر، وأن هذا يجري على الإسلام كما جرى على المسيحية. وكان من الشعارات المضللة التي شاعت : أن «الدين لله والوطن للجميع» . وهي كلمة حق يراد بها باطل، ويمكن أن تقلب على كل الوجوه، فنستطيع أن نقول : إن الدين لله والوطن لله، أو: الدين للجميع والوطن للجميع، أو: الدين للجميع والوطن لله. وإنما مرادهم بكلمة «الدين لله» أن الدين مجرد علاقة بين ضميرالإنسان وربه، ولا مكان له في نظام الحياة والمجتمع . وكان أبرز مثل عملي لذلك هو «الدولة العلمانية» التي أقامها كمال أتاتورك في تركيا، وفرضها بالحديد والنار على مجموع الشعب التركي المسلم، بعد تحطيم الخلافة العثمانية: آخرحصن سياسي بقي للإسلام بعد صراع القرون ، مع الصليبية واليهودية العالمية . وقد أخذت الحكومات في البلاد الإسلامية الأخرى تقلد تركيا الجديدة، على درجات متفاوتة، فأقصي الإسلام عن الحكم والتشريع في الأمورالجنائية والمدنية ونحوها، وبقي محصورا في ما سمي «الأحوال الشخصية» كما أقصي عن التوجيه والتأثيرفي الحياة الثقافية والتربوية والا جتماعية إلا في حدود ضئيلة . وفسح المجال ، كل المجال للتوجيه الغربي والثقافة الغربية والتقاليد الغربية. ولم يخف بعض الزعماء السياسيين العرب إعجابهم با تجاه أتاتورك [ ... ] وكان من أبرزالمظاهرلنجاح الغزوالثقافي الغربي: أن «الفكرالعلماني» الدخيل الذي ينادي بفصل الدين عن الدولة ، لم يقف عند الرجال «المدنيين» وحدهم، بل تعداهم إلى بعض الذين درسوا دراسة دينية في معهد إسلامي عريق كالأزهر، كما تجلى ذلك في كتاب الشيخ عبد الرزاق «الإسلام وأصول الحكم» . ومن الإنصاف أن نقول: إن هذا الكتاب قد أحدث ضجة هائلة حين صدوره، في المجتمع عامة، وفي الأزهر خاصة ، وقد شكلت هيئة من كبارعلماء الأزهرلمحاكمة مؤلفه، فقضت بتجريده من شهادة العالمية ، وإخراجه من زمرة العلماء، كما رد عليه كثيرمن العلماء والمفكرين، أزهريين وغير أزهريين . كان لا بد إذن من تأكيد الوقوف في وجه العلمانية ودعاتها ومبرريها ، بتأكيد شمول الإسلام، وإبراز هذا الجانب الحي من أحكامه وتعاليمه : جانب الدولة، وتنظيمها وتوجيهها بأحكامه وآدابه . وإعلان أن ذلك جزء لا يتجزأ من نظام الإسلام ، الذي امتاز بشموله للزمان والمكان والإنسان، ونزل كتابه تبيانا لكل شئ ، كما قال تعالى: « ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين» [النحل : 89] » وقدم المؤلف الدليل من نصوص الإسلام ومن تاريخه ومن طبيعته على هذه الحقيقة . معالم الدولة التي يبنيها الإسلام أكد المؤلف أن الإسلام كما يسعى إلى بناء الفرد الصالح، والأسرة الصالحة ، والمجتمع الصالح ... يسعى كذلك إلى بناء الدولة الصالحة . والدولة في الإسلام ليست صورة من الدول التي عرفها العالم قبل الإسلام أو بعده، أإنها دولة متميزة عن وكل ما سواها من الدول، بأهدافها ومناهجها ومقوماتها وخصائصها . فهي دولة مدنية مرجعها الإسلام، وهي دولة عالمية لأن لها رسالة عالمية، إنها دولة فكرة وعقيدة، تذوب فيها فوارق الأجناس والأوطان، والألسن، والألوان، حيث يوحد بين أبنائها الإيمان بإله واحد، ورسول واحد وكتاب واحد، ويجمع بينهم قبلة واحدة، وشعائرواحدة، وشريعة واحدة، وآداب واحدة، وبهذا تتكون منهم [أمة واحدة] تقوم على [توحيد الكلمة] المنبثق من [كلمة التوحيد] . . والدولة الإسلامية دولة شرعية دستورية كذلك . لها دستورتحتكم إليه، وقانون ترجع إليه، ودستورها يتمثل في المبادئ والأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم وبينتها السنة النبوية في العقائد والعبادات والأخلاق والممعاملات، والعلاقات: شخصية ومدنية، وجنائية وإدارية ودستورية ودولية. وهي ليست مخيرة في الالتزام بهذا الدستورأوالقانون، فهذا مقتضى إسلامها ودليل إيمانها. وهي كذلك دولة شورية لا كسروية ولا قيصرية، وهي دولة هداية لا جباية، ودولة لحماية الضعفاء، لا لحماية مصالح الأقوياء، فهي تفرض الزكاة وتأخذها من الأغنياء لتردها على الفقراء، كما تفرض في موارد الدولة الأخرى، كالفئ وغيره، نصيبا مؤكدا لليتامى والمساكين وأبناء السبيل: «كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم » [ سورة الحشر : 7] . وقال الخليفة الأول في خطبته الأولى : ألا إن القوي فيكم هو الضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم هو القوي عندي حتى آخذ الحق له. يقول المؤلف : «ولا نجد دينا كالإسلام، وعى حقوق الضعفاء، وعمل على حمايتهم من ظلم الأقوياء دون أن يطالبوا هم بشئ من ذلك، بل دون أن يحسبوا أن لهم حقا لدى غيرهم، فقد توارثوا الجوروهضم الحق، حتى أصبح هو الأصل والقاعدة في نظام المجتمع. فلما جاء الإسلام أرشد الناس إلى العدل الذي نزلت به كتب الله تعالى وبعث به رسله، وبه قام السماوات والأرض، يقتضي رعاية الضعفاء والوقوف بجانبهم، حتى ينالوا حقوقهم المادية والأدبية » . وقد أفاض المؤلف في بيان هذا الجانب المهم في نظام الدولة الإسلامية، مستشهدا بالنصوص والوقائع. ومؤكدا، إلى ذلك، أن الدولة الإسلامية دولة الحقوق والواجبات: حق الحياة، وحق التملك، وحق الكفاية من العيش، وحق الأمن على الدين والنفس والعرض والمال والنسل، وهي تعتبرفي نظرالتشريع الإسلامي من [الضروريات] الخمس أوالست ، التي أنزل الله الشريعة للمحافظة عليها، ولا يجوزلأحد أن يفرط فيها وقد أوجب الشارع العقوبات الرادعة من الحدود والقصاص لحمايتها من العدوان عليها . وواجب الدولة المسلمة أن تعمل على أن تحقق لكل فرد يعيش في ظلها هذين الهدفين الأساسيين من أهداف حياته : الكفاية والأمن، حتى يستطيع الناس إذا اكتفوا وأمنوا - أن يفرغوالعبادة ربهم «الذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف » [ سورة قريش : 4] . والدولة الإسلامية دولة مبادئ وأخلاق ، تلتزم بها، ولا تحيد عنها، في داخل أرضها وخارجها، مع من تحب ومع من تكره وفي سلمها وحربها، فهي لا تتعامل بوجهين ، ولا تتكلم بلسانين، ولا تقبل أن تصل إلى الحق بطريق الباطل، ولا أن تحقق الخير بوسائل الشر. طبيعة الدولة في الإسلام والدولة في الإسلام دولة إسلامية .. لا دولة دينية. وهنا فند المؤلف دعاوى من يزعم أنها دولة دينية تحكم بما سموه [الحق الإلهي] . وبين أن الدولة الإسلامية دولة مدنية . «وفرق كبيربين الدولة الإسلامية- أي الدولة التي تقوم على أساس الإسلام - والدولة الدينية التي عرفها الغرب النصراني في العصورالوسطى. وعلة ذلك أن هناك خلطا كبيرا بين ما هو إسلامي وما هو ديني، فكثيرون يحسبون أن كل ما هو إسلامي يكون دينيا . والواقع أن الإسلام أوسع وأكبر من كلمة دين . حتى إن علماء الأصول المسلمين جعلوا «الدين» إحدى الضروريات الخمس أو الست التي جاءت الشريعة لحفظها. وهي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وزاد بعضهم: العرض» وضرب المؤلف مثلا أوضح من خلاله مراده، فقال:«نحن ندعو إلى تربية إسلامية متكاملة، وهذه التربية تشمل أنواعا من التربية تبلغ بضعة عشرنوعا ، إحداها التربية الدينية، إلى جوارالتربية : العقلية والجسمية والخلقية والعسكرية والا جتماعية والا قتصادية والسياسية والعلمية والأدبية والمهنية والفنية والجنسية ... إلخ . فالتربية «الدينية» شعبة واحدة من شعب التربية «الإسلامية» الكثيرة . فالخطأ كل الخطأ الظن بأن الدولة الإسلامية التي ندعو إليها دولة دينية. إنما الدولة الإسلامية «دولة مدنية» تقوم على أساس الاختياروالبيعة والشورى، ومسئولية الحاكم أمام الأمة، وحق كل فرد في الرعية أن ينصح لهذا الحاكم ، ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، بل يعتبرالإسلام هذا واجبا كفائيا على المسلم ، ويصبح فرض عين إذا قدرعليه وعجزغيره عنه أوجبن عن أدائه . إن الحاكم في الإسلام مقيد غيرمطلق ، فهناك شريعة تحكمه، وقيم توجهه، وهي أحكام لم يضعها هو ولا حزبه أو حاشيته، بل وضعها له ولغيره «رب الناس ، ملك الناس، إله الناس» . ولا يستطيع هوولا غيره أن يلغوا هذه الأحكام أويجمدوها، فلا ملك، ولا رئيس ولا برلمان، ولا حومة، ولا مجلس ثورة، ولا لجنة مركزية ، ولا مؤتمرللشعب، ولا أي قوة في الأرض تملك أن تغيرمن أحكام الله الثابتة شيئا . ومن حق أي مسلم أو مسلمة إذا أمره الحاكم بما يخالف شريعة الله مخالفة بينة، أن يرفض، بل من واجبه أن يرفض، لأنه إذا تعارض حق الحاكم وحق الله، فحق الله مقدم ولا شك، إذلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» . وبعد أن استعرض المؤلف شبهات العلمانيين في دعوى الدولة الدينية كرعليها بالدحض والتفنيد . ومنها شبهة تتعلق بالحاكمية . مستدلا بالتجارب التاريخية وتقريرات العلماء . نحو فقه سياسي رشيد يرى الدكتو يوسف القرضاوي أن الفكرالسياسي أوالفقه السياسي، لم يأخذ حقه من البحث والتعمق قديما، كما أخذ فقه العبادات والمعاملات والأنكحة ونحوها. وهو كذلك اليوم يشوبه كثيرمن الغبش والتباس المفاهيم ، واضطراب الأحكام، وتفاوتها في أذهان العاملين للإسلام، تفاوتا يجعل المسافة بين بعضها وبعض كما بين المشرق والمغرب. لقد رأينا - يقول المؤلف - من يعتبرالشورى معلمة لا ملزمة، ومن يمنح رئيس الدولة حق إعلان الحرب وعقد المعاهدات دون الرجوع إلى ممثلي الأمة ... ومن يرى الأخذ بوسائل الديمقراطية وضماناتها : كفرا أو سبيلا إلى الكفر. ومن يرى أن المرأة لا مكان لها في سياسة الأمة، وأن مكانها البيت لا تخرج منه إلا إلى بيت زوجها أو القبر. وأن ليس لها حق التصويت والشهادة في أية انتخابات، بله أن ترشح نفسها لمجلس بلدي أو نيابي، فهو يحكم على نصف الأمة بالموت الأدبي، ويريد للأمة أن تتنفس برئة واحدة، وأن تطير بجناح واحد. ومن يرى أن التعدد أو التعددية - كما يقال اليوم - أمريرفضه الإسلام، ولا يجوز إنشاء أحزاب أوجماعات أو هيئات لها رؤية أورأي سياسي داخل الدولة المسلمة . لقد وقف شعررأسي حين أطلعني بعض الإخوة على رسالة كتبها بعض المتحمسين من الدعاة عنوانها «القول السديد في أن [دخول المجلس النيابي] ينافي التوحيد». وهو خلط عجيب يدخل مسائل العمل في مسائل العقيدة، ومسائل العمل تدوربين الصواب والخطأ لا بين الإيمان والكفر، فهي من السياسة الشرعية التي يؤجر المجتهد فيها مرتين إن أصاب، ومرة واحدة إن أخطأه التوفيق . ويناقش المؤلف عبارة شاعت على ألسنة وأقلام بعض العلمانيين والمتغربين وهي عبارة «الإسلام السياسي» ، ويعنون بها الإسلام الذي يعنى بشئون الأمة الإسلامية وعلاقاتها في الداخل والخارج، والعمل على تحريرها من سلطان أجنبي يتحكم في رقابها، ويوجه أمورها المادية والأدبية كما يريد، ثم العمل كذلك على نحريرها من رواسب الا ستعمارالغربي الثقافية والا جتماعية والتشريعية، لتعود من جديد إلى تحكيم شرع الله تعالى في مخاتلف جوانب حياتها .. وهم يطلقون هذه الكلمة «الإسلام السياسي» للتنفيرمن مضمونها، ومن الدعاة الصادقين الذين يدعون إلى الإسلام الشامل، با عتباره: عقيدة وشريعة، ودينا ودولة . ويسأل كثيرون هنا: هذه التسمية المحدثة «الإسلام السياسي» مقبولة من الناحية الشرعية؟ وهل إدخال السياسة في الإسلام أمرمبتدع من لدن الدعاة المحدثين والمعاصرين؟ أويعتبر هذا من الدين الثابت بالقرآن والسنة ؟ وجوابا على هذه التساؤلات يقول د. يوسف القرضاوي إن هذه التسمية مرفوضة. لأنها تطبيق لخطة وضعها خصوم الإسلام، تقوم على تجزئة الإسلام وتفتيته بحسب تقسيمات مختلفة، فليس هو إسلاما واحدا كما أنزله الله، وكما ندين به نحن المسلمين . بل هو«إسلامات» متعددة مختلفة، كما يحب هؤلاء . والحق أن هذه التقسيمات كلها مرفوضة في نظرالمسلم، فليس هناك إلا إسلام واحد لا شريك له ، ولا اعتراف بغيره ، هو «الإسلام الأول» إسلام القرآن والسنة. الإسلام كما فهمه أفضل أجيال الأمة، وخير قرونها، من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، من أثنى الله عليهم ورسوله . فهذا هوالإسلام الصحيح قبل أن تشوبه الشوائب، وتلوث صفاءه ترهات الملل وتطرفات النحل، وشطحات الفلسفات، وابتداعات الفرق، وأهواء المجادلين، وانتحالات المبطلين، وتعقيدات المتنطعين، وتعسفات المتأولين الجاهلين . والإسلام -كما يؤكد المؤلف- لا يكون إلا سياسيا . وإذا جردت الإسلام من السياسة، فقد جعلته دينا آخر، يمكن أن يكون بوذيا أونصرانيا أوغيرذلك، أما أن يكون هو الإسلام فلا. فالإسلام يوجه الحياة كلها. ومقاومة الفساد والظلم أفضل الجهاد. وتغييرالمنكرفريضة. وبتفصيل القول في هذا كله أبطل المؤلف دعوى أن لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين . وتحدث بعد ذلك عن الدولة الإسلامية والحكم بما أنزل الله مبينا فساد كثيرمن الشبهات حول هذا الموضوع . ومؤكدا الإجماع على وجوب الحكم بما أنزل الله، معرجا على ذكرمراتب تغييرالمنكر . موقف الدولة المسلمة من الديمقراطية والتعددية والمرأة وغيرالمسلمين ذكرالمؤلف في هذا الفصل أن جوهر الديمقراطية - بعيدا عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية - أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه، أونظام يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله وتغييره إذا انحرف، وألا يساق الناس - رغم أنوفهم - إلى اتجاهات أومناهج اقتصادية أواجتماعية أوثقافية أوسياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها. فإذا عارضها بعضهم كان جزاؤه التشريد والتنكيل، بل التعذيب والتقتيل. هذا هوجوهرالديمقراطية الحقيقية التي وجدت البشرية لها صيغا وأساليب عملية، مثل الا نتخاب والا ستفتاء العام ، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحق الأقلية في المعارضة، وحرية الصحافة، واستقلال القضاء ... إلخ . ويسأل المؤلف : فهل الديمقراطية - في جوهرها الذي ذكرناه - تنافي الإسلام ؟ ومن أين تأتي هذه المنافاة ؟ وأي دليل من محكمات الكتاب والسنة يدل على هذه الدعوى؟ ويجيب : «الواقع أن الذي يتأمل جوهرالديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام، فهو ينكرأن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه، ولا يرضون عنه ، .. وإذا كان هذا في الصلاة، فكيف في أمورالحياة والسياسة ؟ ... لقد شن القرآن حملة في غاية القوة على الحكام المتألهين في الأرض ، الذين يتخذون عباد الله عبادا لهم، مثل « نمرود» . وربط القرآن بين الطغيان والفساد. وذم الشعوب المطيعة للجبابرة. و بين أن جنود الطاغية وأدواته يتحملون الوزر معه . وحملت السنة النبوية على الأمراء الظلمة. وأوضح المؤلف أن ميزة الديمقراطية أنها اهتدت - خلال كفاحها الطويل مع الظلمة والمستبدين - إلى صيغ ووسائل، تعتبر - إلى اليوم - أمثل الضماات لحماية الشعوب من تسلط المتجبرين ، وإن ولم تخل من بعض المآخذ والنواقص، التي لا يكاد يخلو منها عمل بشري . ويضيف الدكتور القرضاوي ألا حجر على البشرية وعلى مفكريها وقادتها، أن تفكرفي صيغ وأساليب أخرى ، لعلها تهتدي إلى ما هوأوفى وأمثل، ولكن إلى أن يتيسر ذلك ويتحقق في واقع الناس، نرى لزاما علينا : أن نقتبس من أساليب الديمقراطية، ما لا بد منه لتحقيق العدل والشورى واحترام حقوق الإنسان ... ومن القواعد الشرعية المقررة : أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن المقاصد الشرعية المطلوبة إذا تعينت لها وسيلة لتحقيقها، أخذت هذه الوسيلة حكم ذلك المقصد . ولا يوجد شرعا ما يمنع من اقتباس فكرة نظرية أو حل عملي، من غير المسلمين، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب بفكرة «حفرالخندق» وهو من أساليب الفرس . واستفاد من أسرى المشركين في بدر«ممن يعرفون القراءة والكتابة» في تعليم أولاد المسلمين الكتابة ، برغم شركهم ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها . واعتبرالمؤلف الا نتخاب نوعا من الشهادة، مبينا أن الا ستبداد السياسي هوالمسبب لأول لما أصاب الأمة قديما وحديثا وأن الحرية السياسية أول ما نحتاج إليه اليوم وأن الشورى ملزمة وليست مجرد معلمة. وتطرق بعد ذلك لموضوع تعدد الأحزاب في ظل الدولة الإسلامية مبرزا أن هذا التعدد مثل تعدد المذاهب في الفقه، مفندا دعوى أن التعدد مبدأ مستورد . كما تحدث عن ترشيح المرأة للمجالس النيابية بين الإجازة والمنع منا قشا فتوى بتحريم الحقوق السياسية على المرأة. معرجا على موضوعات أخرى لها صلة وطيدة بفقه الدولة في الإسلام