لقد سبق لي أن تناولت موضوع العدل و الظلم و العلاقة بينهما في استقرار الأمم على ضوء الحديث النبوي الذي رواه إمام مالك بقوله عن النبي(ص): « إن الله يقيم الدولة العادلة و لو كانت كافرة و لا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة « , وقد تم نشره بتاريخ 08/08/2014 في جريدة الاتحاد الاشتراكي. و نظرا لأهمية الموضوع فقد ارتأيت تتميمه بالمقال الحالي,ذلك أن المقال الأول و المشار إلى تاريخ نشره يدور حول العدل في استقرار الأمم و الظلم يفسدها ، هذا المقال يتعلق بالإنسان كفرد ، عليه أن يقيم العدل ويمسك عن الظلم ، لأن العدل واجب لكل احد على كل احد و الظلم محرم عليه مطلقا لايباح قط ذلك ، إن الوجود كله مبني على العدل حتى في المطاعم، الملابس و الأبنية ، في العبادات ، المعاملات و غيرها في جميع الأمور بدون استثناء, حيث إن كل ما أمر به الله سبحانه راجع إلى العدل و ما نهى عنه راجع إلى الظلم مصداقا لقوله تعالى في سورة الحديد « لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط ...» و في الحديث الذي رواه أبو در عن النبي (ص) و تلاه بآية من سورة الأعراف ليضفي على صبغة الظلم.و أمر بقوله « قل أمر ربي بالقسط و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد مخلصين له الدين « وهو ما أمر به النبي (ص) في الحديث القدسي الذي رواه عنه أبو در بقوله (ص) « ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حراما فلا تظالموا « و يستفاد من الآيتين القرآنيتين و الحديث المشار إليهما أن الله أمر بإقامة العدل في جميع الأمور, سواء في العبادات أو المعاملات أو في الأنفس كما حرم الظلم على نفسه وعلى عباده بصفة مطلقة و لا يباح قط مطلقا و من هذا المنطلق كان الوجود مبني على العدل حتى في الملابس وفي المطاعم و الأبنية وغيرها.وهكذا فكل ما أمر به الخالق راجع إلى العدل و كل ما نهى عنه فهو راجع إلى الظلم و يبدو مما لجدال فيه أن المقصود مما ذكر,أن يقوم الناس بالقسط وصار واجبا عليهم وبذلك فكل من آمن وعمل بما جاء به الكتاب والسنة فقد قام بالعدل وكل من خالف الكتاب و السنة من خير أو أمر أو عمل فهو ظلم. لهذا اخبر سبحانه انه أرسل الرسل و انزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط و أمر مع القسط بالتوحيد الذي هو عبادته وحده لاشريك له وهذا أصل الدين الذي يعتبر أعظم العدل وضده الشرك فهو أعظم الظلم كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية من سورة الأنعام :( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولائك لهم الأمن وهم مهتدون) شق ذلك عن أصحاب النبي ( ص ) وقالوا:أينا لم يظلم نفسه فقال: الم تسمعوا إلى قول العبد الصالح( إن الشرك لظلم عظيم ) ويعني لقمان الحكيم الذي سميت السورة باسمه والتي وردت فيها الآية ، وعليه فإن أعظم القسط كما سلف هو عبادة الله ثم العدل على الناس في حقوقهم ثم العدل على النفس و يتعلق الأمر بالأحوال و الأعراض و الأنفس و الكرامة وحرية التعبير و العدالة الاجتماعية و في الشغل ، التعليم، العلاج ، الديمقراطية ، المحاكمة العادلة و في سائر الحقوق المنصوص عليها في القرآن ، الدستور والمواثيق الدولية وعلى رأسها البروتوكول الاختياري للحقوق المدنية والسياسية الصادرة سنة1966. وفي هذا الصدد روي من غير واحد من السلف: الظلم ثلاثة دواوين. فديوان لايغفر الله منه شيئا فهو الشرك، و إما الديوان لايشرك الله منه شيئا فهو ظلم العباد بعضهم بعضا فإن الله لابد إن ينصف المظلوم من الظالم و أما الديوان الذي ليعبا الله به شيئا فهو ظلم العبد نفسه و فيما بينه وبين ربه يخضع هذا الأخير لمشيئة الله إن شاء غفر له وان شاء عذبه. وتجدر الإشارة إلى أن العدل أصل صلاح الناس و الظلم فساد , وهو ما جاء عن بعض الحكماء أن هناك صنفان, إذا صلحا صلح الناس وهما الأمراء و العلماء, ذلك إن العدل لابد أن يتقدمه علم لا من لايعلم و لايدري ما العدل و الإنسان ظالم جاهل, أما بالنسبة للحكام و الأمراء مأمورين بالعدل والعلم وواجب عليهم ، فإن مخالفتهم لما أمروا به فهو ظلم عظيم ويدخل فيه الاستبداد و الطغي و الجور و القمع و نهب ثروات شعوبهم و كذلك لمن لايقوم بالعدل ويسعوا في البلاد فساد و هو عالم بذلك و لايكترت بشكاوي الناس من مظالمهم ، فقد خالفوا جميعا ما أمر به الله و نهى عنه و خانوا الأمانة الملقاة على عاتقهم فسيلقون مصيرا سيئا في الدنيا و الآخرة ( اليوم تجزى كل نفس ما كسبت و هم لايظلمون) المراد بالآية أي إن الله لايظلم احدا يوم الحساب بقوله : (ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يراه ومن يعمل مثقال ذرة شرا يراه ) و في هذا السياق يناسب الاستدلال ببعض الآيات المحكمة و الواضحة من القرآن و التي تشير إلى التمييز بين الذين يقومون بما أمر به الله من خير وعمل و بين الذين يخالفوه يقول سبحانه ( افنجعل المسلمين كالمجرمين ،مالكم كيف تحكمون...) سورة القلم. والآية ( أم تجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم تجعل المتقين كالفجار...)، و الآية ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات إن تجعلهم كالذين امنوا وعملوا الصالحات, سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) سورة الجاثية . و الواضح من جميع الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية و جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان في جميع المجالات في حياته لابد من تمييز بعضها البعض أم ايجابية أو سلبية وإما خيرا أو شرا وإما حسنات أو سيئات إلى غير ذلك من بقية الأعمال. إما عدل أو ظلم و يرى أبو بكر الانباري أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه وكذلك قال البغوي, ان من أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه كما يقول العرب من شابه أباه فما ظلم, أي ما أشبه في غير موضعه.والعكس صحيح فإذا وضع الشيء في موضعه الحقيقي فقد أصاب و هو العدل و هذا هو الأصل ،وهو عدل الرب يتعلق بجميع أنواع العلم و الدين, فإن جميع أفعال الرب ومخلوقاته داخلة في ذلك و كذلك أقواله و شرائعه و كتبه المنزلة وما يدخل في ذلك من مسائل المبدأ و المصار و قد اجتمع جميع أهل الملل كلهم واقروا بعدل الله لأن الكتب الإلهية نطقت بعدله وانه قائم بالقسط و انه لايظلم الناس مثقال ذرة ( وما كان ربك بظلام للعبيد ) . لأنه منزه عن الظلم وعن كل عيب أو نقص, بل انه عادل و أولى بجميع صفات العلو و الكمال وجعل العدل و الكتاب متلازما. ذلك إن الكتاب هو الذي يبين الشرع ، فالشرع هو العدل و العدل هو الشرع و الشرع هو ما انزل الله, فكل من حكم بما انزل الله فقد حكم بالعدل. لكن العدل يتنوع بتنوع الشرائع و المناهج فيكون العدل في كل شرعة يحسبها ولكن كثير من الناس و بعض التيارات العقائدية آو بعض الأحزاب ذات المرجعية الدينية ينسبون حاليا اتجاهاتهم العقائدية و الفقهية إلى الشرع وليس من الشرع, بل يقولون ذلك إما جهلا وإما غلطا وإما عمدا أو افتراء وهذا هو الشرع المبتذل وليس الشرع المنزل, بينما تأتي أقوالهم هاته مع أفعالهم كإباحة التكفير والاقتتال بين طائفتين مسلمتين تنتسبان إلى الدين الإسلامي و الإرهاب و إنتاج الفكر الظلامي الذي يزرع البغضاء و الأحقاد و التعصب لمن يخالفهم الرأي. وهدذا ما ساهم في عدم الاستقرار و الأمن في بعض بلداننا العربية الإسلامية في المشرق العربي وليبيا نسال الله السلامة والعافية ألا تمتد العدوى والفتنة ظاهرة وباطنة إلى بقية الدول التي لم تعرف نفس الوضع و إن كانت تكتشف فيها بين الفينة والأخرى خلايا من التنظيمات التابعة للجماعات المتشاجرة في البلدان المشار إليها .وهكذا و الملفت للانتباه إن الله سبحانه لما لازم العدل بالكتاب جعله والصدق قرينان دلك انه اوجب كما سبق ذكره من يتولى أمور الناس و شانهم إن يتحلى بالصدق أيضا كالمؤتمن في شانهم مطلوب منه العدل مثل الأمير والحاكم و المحتسب و الصدق في كل الأخبار و الثناء في الأقوال و الأعمال تصلح جميع الأحوال مصداقا لقوله تعالى : ( وتمت كلمات ربك صدقا و عدلا ...) سورة الأنعام ،و في حديث رواه الترمذي والنسائي و احمد عن النبي (ص) انه لما ذكر الظلمة قال : ( من صدقهم بكذبهم و أعانهم على ظلمهم فليس مني و لست منه ولا يرد علي الحوض و من لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني واغته وسيرد علي الحوض )ا. نظرا لما يحظى به العدل باعتباره واجبا لكل احد على كل احد و نبذ الظلم لقبحه ودمه, فقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من أعظم العدل ، العدل في الأمور الدينية بقوله: ( واذا كان الشارع قد سوى بين عملين أو عاملين كان تفضيل احدهما من الظلم العظيم و اذا فضل بينهما كانت التسوية كذلك و التفضيل أو التسوية بالظن و سوى النفوس من جنس دين الكفار, فإن جميع أهل الملل و النحل يفضل احد دينه إما ظنا و إما هوى إما اعتقادا و إما اقتصادا ، و هو سبب التمسك به و دون غيره و المراد بالاقتصاد هنا العمل و إما ما يستفاد من قول ابن تيمية انه بالفعل كان أعظم العدل هو في الأمور الدينية كالقضاء الشرعي و الإفتاء, ذلك إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و العدل و التسوية بين المتماثلين ، لهدا فإن العدل في أمر الدنيا من الدماء و الأموال كالقصاص و المواريث, قد كان واجبا و تركه ظلم فالعدل في أمور الدين أعظم منه وهو العدل بين شرائع الدين و بين أهله. أما بالنسبة لحكومتنا التي يترأسها الحزب الاغلبي فقد آلت إليها رئاسة السلطة التنفيذية بطابق من ذهب وفي ظل دستور جديد خول للرئيس صلاحيات واسعة و هي التي ناضل من اجلها الشعب المغربي بقواه الحية التي حاربت الاحتلال الأجنبي إبان عهد الحماية وواجهت الاستبداد و الظلم أزيد من أربعين سنة وضحت من اجل كرامة المواطن المغربي و الحرية و العدالة الاجتماعية والديمقراطية .وواجهت الاغتيالات و المنافي و التعذيب بمختلف أشكاله البشعة و السجون و الاعتقالات و المضايقات بصمود و إرادة, و لما اوشك المغرب على حافة السكتة القلبية التي كانت ستصيبه استعان الملك الراحل بالوطنيين المخلصين وعلى رأسهم المجاهد عبد الرحمان اليوسفي بوصفه الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي أنذاك لانقاذ البلاد الذي ساهموا في تحريره من قبضة المعمر ولبوا النداء. و بالفعل انقذوه من السكتة القلبية وجنبوه من أي منزلق سياسي الذي كاد أن يؤدي بالمغرب إلى ما لا تحمد عقباه.إلا أن القوة التالية كعادتها منذ الاستقلال تنسف كل ما تم الشروع فيه من أوراش تهدف إلى رقي البلاد وتقدمها حفاظا على مصالحها ، وهاهي الحكومة الحالية تواصل الإجهاز على كل المكتسبات في مختلف الميادين و تمادت في تعميق الأزمة.و أصبحت سجينة لسياستها التي تفتقد إلى أي تصور واضح لمواجهة كل التحديات المتعددة الجوانب كارتفاع المديونية الخارجية و ارتفاع الأسعار و البطالة, حيث لم يسبق للحكومات السابقة إن وقعت البلاد في منعطف خطير يهدد مصير البلاد و مستقبله إلى أن جاءت هذه الحكومة أخيرا بمشروع قانون مالي مثلا لينهك الأمن القضائي في المادة 8 منه و بذلك جاءت المذكرة المرفوعة لوزير العدل و الحريات من طرف مجموعة من رؤساء جمعية المحامين لإثارة الانتباه إلى خطورة المصادقة على المادة 8 المذكورة. أما الأحزاب الوطنية و المعارضة فما فتئت ترفع أصواتها داخل البرلمان بخطورة ما ستؤول إليه البلاد, لكن الحزب الاغلبي و حلفاءه يولون الأدبار على جميع الأصوات التي تخالفهم الرأي كأن في أذان أعضاء الحكومة وقرا وعلى قلوبهم اكنة و غطاء ، و الواقع أن الحزب الاغلبي الذي يرأس الحكومة لم يسبق له أن مارس السياسة كأخلاق من اجل المكتسبات المشار إليها ولم يواجه اي استبداد أو ظلم كما لم يقدم أي تضحية في شأنها و يريد اليوم أن يحمد بما لم يفعل و هذا من صفات المنافق, و يظهر الآن خلاف ما كان يظهره قبل تبوئه رئاسة الحكومة. و لذلك جاء المقال السابق و الحالي المتعلقين بالعدل والظلم ليبين الرشد من الغي و العدل من الظلم و يبرز العلاقة بين العدل و الظلم في استقرار الأمم و يجب أخذ العبرة فيما يجري في بعض دول المشرق العربي وليبيا من التناحر والاقتتال, حيث كان الدين حاضرا فيها بقوة. ( إن الله لايظلم الناس, لكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم ) الأمر الذي يفيد في نهاية الأمر إلى إن الظلم لن يأتي إلا من الإنسان ،إما انه ظالم لنفسه و إما مقتصد، وإما سابق بالخيرات. وخلاصة القول إن المجتمع السليم إنما يقوم على أساس من العدل في استلال وسائل الحياة و العيش و أن هو الذي يضمن سلامة هذه العدالة و تنفيذها على خير وجه والتآخي و المحبة, ثم تأتي بعد ذلك قوة السلطة و القانون .