تقديم: تشرفت بدعوة كريمة من جامعة الحسن الثاني بن امسيك بتمثيل مؤسسة عبد الخالق الطريس للتربية والثقافة والعلوم، في ندوة مشتركة مع كل من المندوبية السامية لرجال المقاومة وجيش التحرير وكلية الآداب بن مسيك تحت شعار "ذكرى عيد الاستقلال: دروس وطنية وملاحم تاريخية"، وقد تقدمت فيها بعرض موجز تحت عنوان "دور المقاومة والحركة الوطنية في الشمال في جلب الاستقلال للبلاد"، حيث كانت المناسبة هي تخليد الذكرى 65 للاستقلال. ولكي لا يبقى عرضنا حبيس الأوراق والرفوف ارتأينا مشاركته معكم تعميما للفائدة، فقراءة ممتعة. بسم الله الرحمان الرحيم، تحية صادقة محمومة بالمودة للسيدة رئيسة جامعة الحسن الثاني بالدار بيضاء وللسيد عميد كلية الآداب بن مسيك وللسيد المندوب السامي لقدماء المحاربين وجيش التحرير، ولكل الأساتذة الكرام المشاركين في هذا اللقاء مع الشكر الخاص لكل الإخوة الأساتذة الذين سهروا على تنظيم هذا اللقاء العلمي الهام والقيّم بموضوعه المرتبط ببناء الوطن المغربي المستقل، وهم مشكورون على ذلك خصوصا وأننا ما نزال في أيامنا هاته محتاجون للمزيد من البحث والتنقيب العقلاني في هذا الموضوع بما يحمله من دلالات وتأثيرات على بلادنا بماضيها وحاضرها ومستقبلها إن شاء الله. إذن فهذا شرف كبير بالنسبة لي شخصيا أن أمثل مؤسسة عبد الخالق الطريس للتربية والثقافة والعلوم في هذه الندوة المشتركة إلى جانب مؤسستين لهما كامل التقدير وأجلّ القيمة المعنوية والرمزية سواء في مجال البحث العلمي أو في مجال حفظ الذاكرة الجماعية للوطن وتثمينها، أقصد بالذكر هنا كل من جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء ومؤسسة المندوبية السامية لقدماء المحاربين وجيش التحرير، وستكون مناسبة محمودة وطيّبة لأتحدث فيها عن دور المقاومة والحركة الوطنية في شمال المغرب في جلب الاستقلال للبلاد. بطبيعة الحال، هذا اللقاء جاء متناسقا مع توجهات جمعيتنا الفتية التي تأسست في ماي 2018، تحت رئاسة نجلة الزعيم عبد الخالق الطريس السيدة كنزة الطريس والتي تشرف عليها ثلة من الإخوة الأساتذة والأطر النيّرة التي عملت على توجيه كل مجهوداتها الفكرية والتعبوية وإمكانياتها المادية على خدمة المجال الثقافي وإشعاعه وإشاعته في صفوف المجتمع المغربي وفي صفوف الشباب والفتية من الطلبة والتلاميذ، على وجه الخصوص، بما يحقق لهم التشبع بقيم الوطنية والمواطنة الحقّة مبدأ وسلوكا، دون أن ننسى ما دأبت عليه المؤسسة منذ تأسيسها في دعم المجال التربوي وتجهيز مجموعة من المؤسسات بمكتبات خاصة، مع تزويدها بعشرات الآلاف من الكتب مجانا لتشجيع الطلبة والتلاميذ على القراءة وغيرها من المبادرات النبيلة، فكانت المؤسسة بذلك وفية لما سطرته في برنامجها أو بالأحرى مشروعها العام المتمثل في التوعية والتثقيف وما أدراك ما التثقيف لصالح أبناء هذا البلد الغالي، مع البحث والتنقيب في تراث الرواد والمجاهدين المغاربة واستحضار أمجادهم وماضيهم لا للعيش فيه أو الرجوع إليه وإنما لأجل الاستنارة منه لبناء المستقبل بأسس متينة في انسجام تام مع ما كانت تصبو إليه بلادنا، من تحرر واستقلال وتنمية تحت قيادة الملكين محمد الخامس والحسن الثاني رحمهما الله ومازالت كذلك تحت القيادة الحكيمة لملك البلاد محمد السادس الموقّر حفظه الله وأعانه على ما فيه الخير لبلادنا. إذن، عودة إلى موضوع مشاركتي المتعلق بدور حركات المقاومة والحركة الوطنية في شمال المغرب في جلب الاستقلال للبلاد، أقول إنه موضوع واسع جدا وسيكون من المعقد الإحاطة به في بضع دقائق لأنه يرتبط بسياقات متعددة وظروف تاريخية اجتماعية وسياسية واقتصادية متشابكة بين هنا وهناك، لذلك فإنني لن أتناوله بشكل وصفي كلاسيكي وإنما سأكتفي بعرض مجموعة من الإضاءات والمعلومات حول أهم المحطات التي كانت فيها المقاومة المغربية حاضرة في شمال المغرب قبيل إبرام الحماية وبعدها، مع استعراض مناقب أهم الشخصيات التي ساهمت في تحقيق الاستقلال لدولة المغرب بدءا بكل من الشريفين احمد الريسوني في منطقة جبالة ومحمد أمزيان في الريف، وانتهاء برموز الحركة الوطنية في الشمال وعلى رأسهم الحاج عبد السلام بنونة والأستاذ عبد الخالق الطريس، دون أن ننسى الدور المحوري الذي قام به الملك محمد الخامس في جمع الأمة المغربية حول كلمته وربط شمال المغرب بجنوبه، ناهيك عن مساهمة الخليفة الحسن بن المهدي الجليلة في تحقيق ذلك المسعى. وسأتناول كل هذا بطبيعة الحال اعتمادا على مراجع مختلفة اطّلعت عليها في هذا الصدد من قبيل الإصدار الأخير لمؤسسة الطريس تحت عنوان "المقاومة والحركة الوطنية في شمال المغرب 1909-1956′′، وكتاب المغرب كما كان لوالتر هاريس وكتاب الحركات الاستقلالية في المغرب العربي لعلال الفاسي ومجموعة من الأبحاث الأخرى الاسبانية والمغربية على وجه الخصوص. وللحديث في هذا الموضوع لا بد من الرجوع بطبيعة الحال إلى السياق التاريخي الذي أدى إلى ظهور أول حركات المقاومة في الشمال ألا وهو أنها جاءت كرد فعل طبيعي وعفوي على توغلات المستعمر في المنطقة، ونحن نعرف أن استباحة الأراضي المغربية كانت قد بدأت مبكرا منذ معركة إيسلي سنة 1844، في عهد السلطان عبد الرحمان بن هشام على يد القوات الفرنسية ليأتي الدور على الإسبان بعد ذلك بقليل، حيث قاموا باحتلال مدينة تطوان سنتي 1859 و1860، بعد مواجهة محتدمة مع القوات المغربية التي تعززت بتوافد الأهالي بكل عفوية لمقاومة المستعمر النصراني العدو للإسلام حسب وعيهم ونطرتهم آنذاك، غير أن انهزام المغاربة في المعركتين سيكلف النظام المغربي خسائر مالية واقتصادية كبيرة، تم التنصيص عليها في كل من اتفاقية للا مغنية سنة 1844 بين المغرب وفرنسا واتفاقية وادراس سنة 1860 بين المغرب وإسبانيا. هكذا إذن بدأت الظروف تنضج وتتجه لصالح دخول المستعمر للأراضي المغربية فكان مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، هو المحطة الأساسية التي أعطت للمستعمر الضوء الأخضر من الشرعية الدولية لدخول المغرب وذلك بحضور واتفاق 13 دولة من بينها الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث تقرر تقسيم المغرب إلى 3 أجزاء واحد فرنسي وآخر إسباني بالإضافة إلى مدينة طنجة التي أصبحت دولية، بيد أن ممثل المغرب سيدي بن العربي الطريس جد الزعيم عبد الخالق كان قد رفض التوقيع على تلك الاتفاقية منسحبا من المؤتمر، وبالتالي فإن المغرب لم يعترف بوجود الحماية أو الاستعمار الضمني لأراضيه إلا سنة 1912، حين أبرمت معاهدة الحماية مع الفرنسيين وإن كانت القوات الفرنسية والإسبانية قد بدأت في حملاتهما العسكرية قبل ذلك التاريخ. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التوغلات الإسبانية في السواحل الغربية (العرائش وأصيلة) كانت قد بدأت مبكّرا وكذلك من مليلية والجزر الجعفرية في الشرق، فوجدت الأولى مقاومة شرسة من الشريف أحمد الريسوني الذي كانت له شخصية قوية وكان جامعا وموحدا للقبائل في تلك المنطقة وكبد إسبانيا خسائر كبيرة في هذا الصدد، كما أنه منح المغرب صدى عالميا في الصحافة العالمية عندما تجرأ على اختطاف الصحفي البريطاني والتر هاريس، ثم اختطف بعدها بسنة زوجة الملياردير الأمريكي بيردي كاريس وابنها من قلب قصره وكان يعاملهما أحسن معاملة حسب تصريح الرهينتين (من كتاب المغرب الذي كان لوالتر هاريس)، وهذا من مميزاته غير أنه بعد إبرام الإسبان للحماية مع فرنسا في أبريل من 1912 سوف تدخل منطقة جبالة في هدنة مع الإسبان اللهم إلا في محطات عابرة في ما بعد. بالنسبة لمنطقة الريف قاد الشريف أمزيان حملة شرسة للمقاومة ضد المستعمر منذ سنة 1909 (معركة واد كيرت) إلى سنة 1912، حين استشهد على يد قوات العسكر الإسباني علما أن الشريف أمزيان كان قد ساهم بدور كبير في القضاء على ثورة البشير الزرهوني الملقب ببوحمارة حيث كبد جيشه خسائر فادحة، الأمر الذي ساعد مولاي عبد الحفيظ على إلقاء القبض عليه وإعدامه في ما بعد (هذا الأمر أشار إليه الكاتب جميل حمداوي في إصدار المؤسسة الأخير) لكن استشهاد الشريف أمزيان كان ضربة قوية بالنسبة للمقاومين الريفيين رحمه الله بعد 1912، ظهر اسم جديد في الساحة آنذاك آلا وهو الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، وانطلاقا من نهاية عام 1918م وبداية عام 1919م، سوف تعرف الأحداث تسريعا خطيرا في المواجهات الحربية بين الطرفين لم يشهد له مثيل عبر التاريخ، إلى أن بلغت المواجهات أوجها وحدّتها القصوى في يوليو 1921م؛ والحديث هنا عن معركة أنوال الخالدة التي تكبد فيها الجيش الاسباني أكبر الخسائر في تاريخها الحديث والمعاصر حسب المؤرخ لويس طوغوريس (Luis Togores)، غير أن أنوال لم تكن هي المعركة الوحيدة التي انتصر فيها الجيش الخطابي على الإسباني بل إنها واحدة من مجموعة من المعارك المتعددة بين الطرفين والتي لم تتوقف إلا بعد استسلام الخطابي سنة 1926، على إثر إنزال الحسيمة الذي حشدت فيه إسبانيا كل قواتها بدعم جوي فرنسي بل يحكى أنها استعملت الغازات السامة وهذا ملف يجب أن يفتح لإماطة اللثام عنما وقع آنذاك. بعد الانهزام في الحرب ومرارته بالنسبة للشعب المغرب الذي كان يتطلع إلى الاستقلال سوف يعرف الرأي العام المغربي صدمة لا تقارن في ذهنيته وفي آماله التي بقيت معلقة لكن هذا سيساعد على تطوير المشروع الوطني الاستقلالي، وإنضاجه بشكل جديد يتماشى مع تطورات المرحلة من جهة وكذا مع ميزان القوة الذي كان من الواضح أنه يميل لصالح المستعمر هكذا ظهرت نخبة جديدة من الوطنيين وخصوصا في مدينة تطوان، وهي نخبة كانت على وعي بعد مرارة الهزيمة أن السلاح وحده لن يمكّن المغاربة من تحرير أرضهم وبأن العدو الأول للمغاربة ليس هو المستعمر وإنما هناك عدو أكثر شراسة وقهرا منه ألا وهو الأمية والفقر والجهل والإيمان بالخرافات، هكذا كان عبد السلام بنونة مؤسس الحركة الوطنية في المغرب وعبد الخالق الطريس زعيم الوحدة يفكران، وهنا سأعطي بعض الإشارات الموجزة لملامح هاتين الشخصيتين القياديتين اللتين رسمتا مسيرة الحركة الوطنية في شمال المغرب بمداد من ذهب. عبد السلام بنونة: كان الحاج عبد السلام بنونة من جيل المخضرمين الذين كانوا شهودا على مجد المقاومة، كما كانوا شهودا على حسرة انهزامها في الحرب وما أفرزه ذلك الانهزام من إحساس دفين بالرغبة في التغيير والإصلاح، فآمن من حينها باستعمال سلاح العلم والتربية والتعليم باعتباره أقوى سلاح يمكن الاستناد عليه موازاة مع تنظيم حركة سياسية متنامية في الأفق، فكان أول المبادرين لتأسيس جماعة سياسية في المغرب رفقة ثلة من رفاقه وذلك سنة 1916. تلك الجماعة كانت تسمى ب"المجمع العلمي المغربي" وقد ضمت بالإضافة إليه علماء وفقهاء كبار نذكر منهم كل من أحمد الرهوني، وأحمد غيلان، ومحمد أفيلال، ومحمد مرير. عبد السلام بنونة هو الذي نظم أول بعثة طلابية إلى الشرق ضمت مجموعة من التلاميذ من منطقة الشمال كان من ضمنها ثلاثة من أبنائه، وقد توجهت تلك البعثة سنة 1928 إلى مدرسة النجاح في نابلس بفلسطين، وهو ما يعني أن فلسطين كانت تعتبر قطبا تعليميا في المنطقة في فترة مبكرة من تاريخنا. عبد السلام بنونة كان متعدد المواهب والتحركات سواء على مستوى دعم التربية والتكوين أو على مستوى الإشعاع الإعلامي أو حتى على المستوى الاقتصادي حيث كانت له معامل للنسيج في كل من المغرب وإسبانيا، غير أن المنية وافته مبكرا فلم يشهد على تأسيس أول حزب مغربي مستقل بمفهومه الحديث، أي حزب الإصلاح الوطني الذي تأسس برئاسة الطريس سنة 1946، فيما بنونة كان قد توفي سنة 1945 بمدينة رندة الإسبانية. عبد الخالق الطريس: حياة الزعيم عبد الخالق الطريس كانت مليئة بالأنشطة السياسية والإعلامية والتدريسية، بحيث يستعصي على المرء اختصارها في لحظات ولكن سأحاول أن أستحضر أهمها: لقد درس الطريس في القرويين وفي السوربون وفي القاهرة وكان خطيبا لامعا وسياسيا دبلوماسيا محنكا ورجل المواقف الصعبة وزعيما كاريزماتيا بشهادة مجايليه، كما قام بتأسيس المعهد الحر بصفتها أول ثانوية عصرية مستقلة في المغرب وأسس مجموعة من الجرائد والمجلات نذكر من بينها جريدة "الحياة اليومية" التي بيعت منها عشرات الآلاف يوميا في المغرب الخليفي والسلطاني على حد سواء. وتجدر الإشارة كذلك إلى أنه ساهم مع المكي الناصري في تأسيس "الجبهة الوطنية لشمال المغرب" سنة 1942م التي ستقدم للسلطات الإسبانية والفرنسية أول وثيقة للمطالبة بالاستقلال والوحدة المغربية وذلك سنة 1943. وفي سنة 1944م حكم على الطريس بالإعدام غيابيا من طرف سلطات الحماية الفرنسية بسبب جهره بالدفاع عن استقلال المغرب، ورغم ذلك، فإنه لم يفتر في الإلحاح على طرح القضية الوطنية على أعلى المستويات، مستعملا فصاحته المبهرة في الخطابة، وقدرته على التأثير في الجماهير. وقد انضم باسم المنطقة الخليفية إلى جامعة الدول العربية سنة 1945م كما عرض ملف القضية الوطنية على أنظار الأممالمتحدة سنة 1946م، وأما في سنوات الخمسينات، فقد كانت شهرته وزعامته قد بلغت أوجها، فاستثمر ذلك لأجل القضية الوطنية، ونظّم الاحتجاجات في الشارع ضد القرارات المستبدة لسلطات الحماية، من قبيل نفي محمد الخامس سنة 1953م، حيث عرف الشارع التطواني آنذاك حيوية لا مثيل لها. وكانت له تنسيقات سرية مع المقاومة في شمال المغرب، كما كان غزير الكتابة متقنا لها باللغات العربية والإسبانية والفرنسية، ولا يتوقف على النشر في الجرائد والمجلات التي أنشأها. خلاصة القول: من خلال النموذجين اللذان ذكرتهما واللذان يمثلان نخبة الحركة الوطنية في الشمال يمكننا استنباط شيء أساسي وهو أن المقاومة ضد الحماية والاستعمار الضمني لم تفتر ما بين 1909 إلى غاية 1956، وإنما وقع فيها نوع من التطور من المقاومة المسلحة المباشرة إلى المقاومة بالعلم والتثقيف والترافع السياسي والديبلوماسي وغيرهم... كما عرفت دعوات الاستقلال في عهدهم ولوجا إلى العالمية من خلال العلاقات مع شكيب أرسلان في الشرق وكذا مكتب المغرب العربي في مصر ودار المغرب في مصر وغير ذلك، وهنا جاءتني فرصة للحديث عن رجل آخر قام بدور أساسي في المساهمة في تلك المقاومة الجديدة رغم منصبه الحساس ألا وهو الخليفة السلطاني حسن بن المهدي، الذي تولى ذلك المنصب سنة 1925 بعد والده المهدي بن إسماعيل ثم باشا تطوان لمدة سنتين. الحسن بن المهدي: من أهم الأدوار التي قام بها الخليفة حسن بن المهدي هو أنه قام بتمويل البعثات الطلابية إلى الشرق وإلى مصر، خصوصا كما قام بتأسيس وتمويل دار المغرب في مصر التي قامت بدور أساسي في إشهار القضية الوطنية، وقد أشار البشير الهسكوري، نجل مدير ديوان الخليفة ومستشاره الخاص احمد بن البشير الهسكوري، في شهاداته المنشورة في جريدة "المساء" إلى أن الحسن بن المهدي رفض رفضا قاطعا اقتراح إسبانيا تنصيبه ملكا للمغرب الخليفي سنة 1954، رغم ضغوط المراقب العام الإسباني عليه حيث استعان بفتوى العلماء وخصوصا العلامة محمد مرير الذي أصدر فتوى بطلب منه مفادها أنه: "لا يصح أن يكون في البلاد إمامان ما دام ملك المغرب محمد الخامس هو إمام البلد بشماله وجنوبه وهو حي وموجود". إذن فهذا يظهر مدى وطنية الخليفة الحسن بن المهدي ومدى إخلاصه للملك محمد الخامس في فترة كان فيها الأخير منفيا من قبل السلطات الفرنسية. الملك محمد الخامس: وأخيرا لا يمكن أن نغفل بطبيعة الحال الدور المحوري والأساسي الذي لعبه الملك محمد الخامس في جلب الاستقلال وخصوصا في مواقفه القوية التي بدأت تشعّ وتظهر منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وكانت له صلات واتصالات مع الوطنيين في شمال المغرب وجنوبه ومع الطريس على وجه الخصوص، الذي شحذ مظاهرات ضخمة في تطوان بسبب نفيه سنة 1953 ثم نظم احتفالية شعبية غفيرة أمام عشرات الآلاف من التطوانيين بعد رجوعه سنة 1957. وبطبيعة الحال كان لزيارة الملك محمد الخامس لمدينة طنجة سنة 1947 أكبر صدى وأضخم تأثير في نفوس المواطنين المغاربة في شمال المغرب وجنوبه. فقد كان رحمه الله يمثل وجهة الوطن السليمة وكان كذلك هو الموحد لكل الحركات الاستقلالية في مغرب واحد موحد. ولعل ذلك وما وازاه من مواقف رواد الحركة الوطنية هو ما حافظ على لحمة البلد ووحدته تحت رايته رغم المؤامرات الإسبانية خصوصا التي كانت تسعى لتقسيمها إلى جزأين، أضف إلى كل ذلك ما قام به رحمة الله عليه في الجانب الأساسي المتعلق بتحديث بنية النظام المغربي وانتقاله من المفهوم التقليدي المتجسد في لقب السلطان إلى المفهوم الحداثي المتمثل في لقب الملك المسؤول دستوريا. في ملخص الخاتمة أقول إن إحياء ذكرى الاستقلال بهذه الطريقة التي اختارتها جامعة الحسن الثاني عبر شعبة التاريخ بكلية الآداب بنمسيك هو واجب على كل الباحثين والدارسين، لأنه يميط اللثام عن كثير من المبهمات وينفعنا كذلك في استنباط العبر والدروس حول تاريخ بناء المغرب المستقل الذي لم يأت من فراغ، وإنما جاء نتيجة كفاح ومعاناة مشتركة من طرف رجال المقاومة ورجال السياسة الوطنية والمؤسسة الملكية في تلاحم وانسجام، فلعل هذا الجيل بكل فئاته يستفيد من هذا الدرس لأنه هو المسؤول اليوم عن بناء مستقبله دون أن يعني ذلك بطبيعة الحال إلغاء هويتنا الوطنية بأبعادها الحضارية، ولكم جزيل الشكر والامتنان.