الأطر الصحية بالرباط تجدد العهد على دعم فلسطين وتنظم وقفة تضامنية بمستشفى مولاي يوسف    مؤشر الحرية الاقتصادية 2025.. غياب النزاهة الحكومية وتصلب سوق الشغل يُفرملان نمو الاقتصاد المغربي    المغرب يطلق مبادرة إنسانية جديدة لدعم الأطفال الفلسطينيين في غزة والقدس    آلاف المغاربة يهتفون بإسقاط التطبيع ويستنكرون إبادة غزة في مسيرة وطنية بالرباط    مصدر ينفي تعرض موقع وزارة للاختراق    واشنطن بوست الأميركية: مقاتلو البوليساريو تلقوا تدريبات إيرانية ويقعون اليوم في قبضة السلطات السورية    القرعة تضع "الأشبال" بمجموعة قوية    مقابل 3 آلاف أورو للشخص.. تفكيك شبكة نقلت مئات المغاربة جوا لرومانيا ثم برا لإسبانيا    وفاة أستاذة أرفود متأثرة بإصابتها بعد الاعتداء الشنيع من طرف أحد طلابها    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال24 ساعة الماضية    سلطنة عمان تدعم الوحدة الترابية للمملكة وسيادتها على كافة ترابها    أخبار الساحة    الوداد والرجاء يقتسمان نقط الديربي، والمقاطعة تفقده الحماس والإثارة    رشيد المرابطي يحطم الرقم القياسي لماراطون الرمال وعزيزة العمراني تفقد لقبها    في ورقة لمركز الاستشراف الاقتصادي والاجتماعي .. مرسوم دعم المقاولات الصغيرة خطوة تعيقها معضلات التوزيع والبيروقراطية وهذه توصياته    لمحاولتهم اختطاف معارض لنظام تبون وشنقريحة .. فضيحة: فرنسا توجه الاتهام إلى ثلاثة جزائريين من بينهم موظف في قنصلية جزائرية    قطاع مكافحة سوء التغذية يحذر من «كارثة»    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين.. نزول أمطار بمنطقة طنجة    في قبضة القصيدة الأولى: ذاكرة النص الأول بعيون متجددة    بينبين مستاء من تغييب وزارة الثقافة له خلال معرض الكتاب بباريس    الصين تدعو الولايات المتحدة الى "إلغاء كامل" للرسوم الجمركية المتبادلة    الدرك الملكي يشن حملة أمنية واسعة عبر التمشيط بالتنقيط الإلكتروني    عبد الوهاب الدكالى يعود بجمهور الرباط إلى الزمن الجميل    مكتب الصرف يحقق في تهريب العملة من طرف منعشين عقاريين    غارة اسرائيلية دمرت بشكل شبه كلي المستشفى الأهلى "المعمداني" في غزة    طبيب: السل يقتل 9 أشخاص يوميا بالمغرب والحسيمة من المناطق الأكثر تضررا    اندلاع النيران في سيارة على الطريق الساحلية رقم 16 نواحي سيدي فتوح    عمر حجيرة يترأس دورة المجلس الإقليمي لحزب الاستقلال بوجدة    درهم واحد قد يغير السوق : المغرب يشدد القيود على واردات الألواح الخشبية    الجزائر تستعين ب"ميليشيات رقمية" دولية لاستهداف مواقع حكومية مغربية    ريمونتادا للدفاع الجديدي في 7 مباريات وعمل جيد للطاقم التقني واللاعبين    محاميد الغزلان ترقص على إيقاعات الصحراء في اليوم الثالث من مهرجان الرحل    من خيوط الذاكرة إلى دفاتر اليونسكو .. القفطان المغربي يعيد نسج هويته العالمية    'واشنطن بوست': إيران دربت مسلحين من البوليساريو وسوريا تعتقل المئات منهم    المغرب وسلطنة عمان يؤكدان عزمهما على تطوير تعاونهما في شتى المجالات    الدورة السابعة للجنة المشتركة المغربية–العمانية تُتوّج بتوقيع مذكرات تفاهم في مجالات متعددة    الرباط تنتفض من جديد.. آلاف المغاربة في مسيرة حاشدة نصرة لغزة ورفضاً للتطبيع    دراسة: الجينات تلعب دورا مهما في استمتاع الإنسان بالموسيقى    تيفلت.. توقيف شخصين انتهكا حرمة مسجد في حالة تخدير    كرة القدم.. أكاديمية محمد السادس تفوز بمونديال سان بيير لأقل من 15 سنة بنانت    كأس إفريقيا للأمم لكرة القدم داخل القاعة – سيدات (المغرب 2025)..الناخب الوطني يوجه الدعوة ل 14 لاعبة للمنتخب الوطني المغربي    تحسن ملحوظ في نسب امتلاء سدود المغرب مقارنة بالعام الماضي        المغرب يستقبل 4 ملايين سائح في الربع الأول من 2025    مسرحية ديموغرافية بإخراج جزائري: البوليساريو يخدع الأمم المتحدة    مستقبل الصحافة في ظل التحول الرقمي ضمن فعاليات معرض GITEX Africa Morocco 2025    اجتماع هام بالرباط لدعم وتطوير البنية التحتية الرياضية بوزان    الدوزي يمنع من دخول أمريكا بسبب زيارة سابقة له للعراق    أمسية فنية استثنائية للفنان عبد الوهاب الدكالي بمسرح محمد الخامس    التكنولوجيا تفيد في تجنب اختبار الأدوية على الحيوانات    غموض يكتنف انتشار شائعات حول مرض السل بسبب الحليب غير المبستر    عبد الصمد المنصوري يحصل على شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا    الذئب الرهيب يعود من عالم الانقراض: العلم يوقظ أشباح الماضي    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    تعرف على كيفية أداء صلاة العيد ووقتها الشرعي حسب الهدي النبوي    الكسوف الجزئي يحجب أشعة الشمس بنسبة تقل عن 18% في المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المارياتشي .. صوت المكسيك فى أفراحه وأتراحه
نشر في هسبريس يوم 15 - 11 - 2013

سلّمت منظمة اليونسكو العالمية مؤخّرا للسّلطات المكسيكية فى ولاية "خاليسكو" (واحدة من 32 ولاية مكسيكية، و مهد الكاتب المكسيكي الكبير خوان رولفو) وثيقة المصادقة الرّسميّة التي تعترف فيها لموسيقى وغناء فرق " المارياتشي" المكسيكية الشهيرة كتراث غير مادّي للإنسانية جمعاء، وذلك خلال إحتفال خاص جرى فى إطارفعاليات اللقاء التاسع عشر الدّولي للمارياتشي الذي أقيم فى مدينة ( وادي الحجارة) المكسيكية . وقد إستلم هذه الوثيقة خمسة أطفال مكسيكيّين، تتراوح أعمارهم بين 5 و10 سنوات، وهم يرتدون أزياء المارياتشي البديعة المزركشة، وذلك كرمز لتلقّف الأجيال الجديدة لهذا التراث المويسقي العريق والحفاظ عليه، والذي يفتخر به جميع المكسيكييّن .
كانت موسيقى المارياتشي قد أضيفت إلى قائمة اليونسكو للتراث الثقافي للإنسانية، وذلك بناء على قرار جماعي للجنة خبراء اليونسكو فى هذا المجال المجتمعة فى جزيرة " بالي" لهذه الغاية بتاريخ 27 نوفمبر 2011.وقد كوّنت الحكومة المكسيكية بهذه المناسبة لجنة خبراء موازية لدراسة إستراتيجية الحفاظ على هذا النوع من الموسيقى والغناء والتعريف به فى العالم .وقد شاركت فى هذه الإحتفالات فرق للمارياتشي من بلدان أمريكية لاتينية أخرى مثل كوستا ريكا، وفنزويلا، وكولومبيا ، وأزيح الستار عن لوحة رخامية تذكارية تخلّد هذا الحدث الثقافي والفنّي الكبير .كما تمّ تدشين قاعة كبرى للسّماع تضمّ 140 آلة موسيقية تاريخية لهذا الصنف من الغناء. وخمسين ألف تسجيلا لموسيقى للمارياتشي منذ 1910 ، كما أحدثت أكاديمية خاصة لتلقين دروس أداء وعزف وغناء هذا الفن الشعبي الأصيل .
ما سرّ تعلّق المكسيكيين بهذا النّوع من الغناء..؟ ما سرّ إفتخارهم به حتى الهوس..؟ ما هي أصوله وجذوره وتأثيراته .. ؟ ما هي وقصصه وطرائفه وأخباره..؟ ما سرّ إنتشاره ، ونجاحه، وشهرته، داخل المكسيك وخارجه....؟
بين المارياتشي والفلامنكو
عرفت المكسيك هجرات متوالية فى فترات متواليىة من تاريخها الطويل، وقد حملت هذه الهجرات على إختلافها معها العديد من العادات والتقاليد والمظاهر الثقافية والحضارية والفنية واللغوية والموسيقية وسواها، ومن أبرز التأثيرات الحضارية التي كان لها وقع بليغ فى حياة الشعب المكسيكي هي الحضارة العربية الاسلامية حتى لو جاءها هذا التأثير عن طريق الغزاة الاسبان الذين إستقدموه معهم عند دخولهم هذا البلد . فقد تصادف لحكمة أرادها الله ان يتم إكتشاف العالم الجديد، ومن بينه المكسيك مع سقوط آخرمعاقل الاسلام فى الاندلس وهي حاضرة غرناطة عام 1492 حيث كان التأثير الإسلامي فى الاسبان ما زال حديث العهد وقد تجلى فى العديد من مظاهر الحياة ومرافقها . يضاف إلى ذلك التأثيرات التي أحدثتها موجات الهجرات العربية المتعاقبة التي بدأت منذ أكثر من قرنين ونيّف من الزمان . وقد ظهر هذا التأثير بالخصوص فى ميدان اللغة ،حيث إستقرت فى اللغة الاسبانية المنتشرة فى المكسيك بالذات كثير من الكلمات العربية التي ما زالت مستعملة فى فنون العمارة والبناء والموسيقى والغناء منها "الفلامنكو" حيث لا وجود لأثل هذه الكلمة فى اللغة القشتالية القديمة، ممّا يؤكد .كما يذهب غير قليل من الباحثين والدارسين أنها كلمة ربما تستقي من أصل عربي، فقد تكون تحريفا لكلمة "فلاح منكم "، أو" فلاح منكوب " حسب الكاتب والمفكر الإسباني الأندلسي " بلاس إنفانتي" وسواه ،حيث حذفت الحاء لعدم وجودها فى الاسبانية ورخّمت الميم أو الباء للتخفيف والتلطيف على طريقة نطق أهل مصر فغدت الكلمة " فلامنكو". كما أنّ طريقة أداء هذا اللون من الغناء يتم على نغمات شبيهة بالخرجات أو الموشّحات والمواويل العربية المعروفة بأدائها المميّز بالآهات ، وتمطيط الكلم ممّا يزيدنا تأكيدا من أصلها العربي أو على الأقل تأثير الموسيقى العربية فى هذا اللون من الغناء و فى الأجواق او الفرق الموسيقية العديدة التي لا يخلو منها حفل او زفاف او مهرجان فى المكسيك والتي تسمّى ب"المارياتشي"تؤدّى ضربا من الأغاني والألحان تضاهي إلى حدّ كبير أغاني "الفلامنكو" وبالتالي المواويل التي إنتشرت عند مسلمي الأندلس.
ساحة غاريبالدي
تعتبرساحة غاريبالدي من أشهر الساحات الكبرى التي تتوسّط مدينة مكسيكو العاصمة،التي تحمل إسم الزعيم الإيطالي جيوسيبّي غاريبالدي(1807-1882) ، فقد إقترن إسم هذه الساحة بهذه الفرق والأجواق الموسيقية التقليدية المكسيكية التي تسمّى بالمارياتشي ، ففي هذه الساحة تجتمع هذه الفرق ومنها تنطلق للعمل فى أحياء وضواحي وأرباض مدينة عملاقة . ولقد أصبحت ساحة غاريبالدي من الساحات المشهورة التي يؤمّها الناس والمارّة والسامرون للإستماع والإستمتاع بهذه الأجواق ااميّزة بإرتداء أزياء بديعة مزركشة وأنيقة ، وبقبّعاتها العريضة التي هي تجسيم للتقاليد المكسيكية المتوارثة ، حيث أصبحت هذه القبّعات من علامات المكسيك المميّزة فى العالم أجمع .
وعندما يجنّ الليل تنتشر فرق المارياتشي فى هذه الساحة ريثما يأتي محبّان والهان يخفق قلباهما بلواعج الحبّ والهوى والصبابة يستقدمان فرق المارياتشي لترصيع زفافهما بأنغامها التقليدية العاطفية المرحة ، ونجد عشرات من هذه الفرق وهي واقفة أو جالسة إلى جانب النافورة الجميلة التي تتوسّط الساحة، أو تتّكئ على أحد المجسّمات التي رفعت فى الساحة لأقطاب هذا النوع من الغناء الشعبي المتوارث، ومن أشهرهم وأوسعهم صيتا "خوسيه ألفريدو خيمينيث" و"بيدرو إنفانتي"، وسواهما حيث تنطلق أصواتهم الرخيمة، وتتسابق حناجرهم الذهبية لتشدو أعذب الألحان وأرقّها .وسرعان ما تتحوّل ساحة غاريبالدي إلى عرس شعبي أو مهرجان حيّ قائم لهؤلاء الذين يتغنّون بكل جميل ويطلقون زفرات حرّى ، وآهات حزينة عن الحبّ وتنهّداته وأفراحه وأتراحه ، وحبوره وصدوده ،ولياليه القمرية التي لا ترى فيها سوى أطياف العشّاق والمحبّين والمتيّمين ،بل وكثيرا ما يدرك الليل الصباح وفرق المارياتشي ما زالت تنتظر وتنتظر ، وعزاؤهم انّ الناس قد شاركوهم فى السّهر والسهاد والسمر، وقاسموهم المأكل والمشرب .وفي هذه الأثناء لا تسمع سوى صوت الموسيقى يصدح فى الفضاء على رقصات وإهتزازات أضواء النيّون المشعّة ، والسيارات المسرعة التي تخرج من أنفاق وجوف المدينة الأزتيكية الكبرى المترامية الأطراف.
شيء من التاريخ
يستشيط المكسيكيون غضبا إن قال قائل أنّ أصل كلمة "المارياتشي"ربما تنحدر من كلمة "مارياج" الفرنسية التي تعني حفل الزفاف أوالعرس.ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أنّ هذه الفرق كانت تغنّي بعد التدخل الفرنسي فى منطقة خاليسكو بالمكسيك حيث كانت تشارك فى حفلات الزفاف وفى الأفراح على العموم ، ويرفض المكسيكيون بشكل قطعي وبزهو وخيلاء هذا القول الذي يعتبرونه تجنّيا وإدّعاء باطلين، وتشويها لسمعة بلادهم وتاريخهم وتراثهم الموسيقي .
ويشير بعض العلماء الختصّين فى تاريخ الموسيقى المكسيكية دحضا للرأي السابق أنه عثر على الأقل على وثيقتين سابقتين لتاريخ 1860 وهو تاريخ دخول الفرنسيين إلى المكسيك مستغلّين إنشغال أمريكا الشمالية بحربها الأهلية ،وترد فى هاتين الوثيقتين كلمة "مارياتشي" ممّا يؤكّد حسب رأيهم انّ هذا المصطلح كان له وجود قبل دخول الفرنسيين للمكسيك ، ويذهبون أيضا أنّ لهذه الكلمة عدّة معان عندهم فهي تعني مجموعة من الموسيقيين الشعبيين ، كما أنها تعني المكان الذي يرقص فيه فى الهواء الطلق ، ويزعم هؤلاء كذلك انّ كلمة مارياتشي تعني إسم شجرة ، ثم أصبحت تعني هؤلاء الذين يتجوّلون أو يهيمون على أنفسهم فى القرى،والضيع، والمداشر، والبوادي وهم يشيعون الفرح والحبور فى قلوب " المنكوبين" أو المهمومين ، ويرى آخرون أنّ الكلمة تجد معناها فى أصل المصطلح لغويا، فيشيرون انّ هذه الكلمة ربما تنحدر من لغة هندية قديمة تسمّى "كورا" وهي منتشرة فى منطقة "ناجاريت "المكسيكية ، فى حين يذهب باحثون آخرون انّ الكلمة هي من لغة "نواتل" الأزتيكية السابقة للوجود الإسباني فى المكسيك حيث تستعمل هذه اللغة بكثرة اللاحقة أو الكاسعة " تشي". كما يذهب بعض المؤرخين أن ّ أصل ظهور هذه الجماعات أو الفرق الموسيقية يرجع لتاريخ وصول الإسبان إلى المكسيك الذين إستقدموا معهم الآلات الوتريّة التي إستعملها وطوّرها سكّان الأندلس من عرب وبربر، والتي يضرب عليها بريشة أو نحوها .وعلى الرّغم من إنتشار هذه الفرق الغنائية فى مختلف ربوع الأراضي المكسيكية ، فإنها لم تصبح على ما هي عليه اليوم إلا فى القرن الثامن عشر ، ويرجّح هذا الرأي ما تمّت إليه الإشارة من قبل وهو أنه بعيدا عن أصل الكلمة لغويا فإنّ النغمات التي تؤدّيها والألحان التي تطربها بل حتى المضمون الأدبي والشعري الذي تستعمله فى غنائها هو قريب جدّا من مضامين الخرجات الأندلسية وأغاني مواويل " الفلامنكو"، فقد إشتهرت فى أوربا قبلها فرق أخرى تشبهها كانت تهيم على نفسها هي الأخرى وهي تؤدّي نغمات ربما تكون قريبة من نغمات المارياتشي وهي فرق الطروبادور التي يرجع أصلها إلى اللغة العربية كذلك وهي فرق "دور الطرب" التي كانت تجول فى إسبانيا وفرنسا فى القرن العاشر . ويؤكّد المستشرق "كليمان هوارث" أنّ سكّان الاندلس كانوا أساتذة الطروبادور وفى فنون القوافي والأوزان الشعرية ،كما يؤكّد " فيليب حتى" انّ الزجل العربي كان له تأثير واضح فى الأغاني التي كانت تغنّى فى بعض الأعياد المسيحية .
وقد إنتقل هذا التأثير من شمال شبه الجزيرة الإيبرية إلى جنوب فرنسا ، ولا شك ان الإسبان قد حملوا معهم هذا التاثير عند غزوهم للعالم الجديد .
الغزل العذري
من عادة أهل المكسيك الجميلة أن يصطحب العاشق المغرم إلى منزل محبوبته فرقة من المارياتشي وتسمّى هذه العادة عندهم "سيريناتا" وهي لحن يعزف ليلا لإستعطاف المحبوب والتغنّي بجماله ومحاسنه ، وخصاله ومحامده، وتقف فرقة المارياتشي وإلى جانبها المحبّ قبالة منزل محبوبته فى ساعة متأخّرة من الليل ، وتبدأ فرقة المارياتشي فى الغناء والطرب معبّرة عن مشاعر الحبّ التي يشعر بها العاشق الولهان نحو حبيبته فى أنغام حلوة ومؤثّرة تحطّم سكون الليل وخلوته، فإذا قامت الفتاة وأوقدت نور الغرفة وأطلّت من شرفة منزلها فمعنى ذلك أنها قبلته وتبادله نفس مشاعر الحبّ ،وبالتالي يمكن لهذا الشاب أن يأتي إلى منزلها متى يشاء ليطلب يدها من ذويها بصفة رسمية ،وإذا لم يضاء النور، ولم تطل المحبوبة من غرفتها فمعنى ذلك أنها غير راضية بحبّه والزواج منه ، عندئذ يطلب الشاب من المارياتشي الإنسحاب بعد أن يدفع لهم أجر عملهم ،ثم يعود هو منكسر الخاطر،شارد البال، حزينا متحسّرا يجرّ أذيال الخيبة والفشل ،وما زالت هذه العادة قائمة ومنتشرة فى مختلف المدن والقرى المكسيكيةحتى اليوم.
أنواع المارياتشي
هناك أنواع عديدة من فرق المارياتشي، وهم يتباينون فى أازيائهم حيث تكون غاية فى الإ تقان والتنسيق ،أو ربما كانت أزياء بسيطة ولكنها مع ذلك تكون مثيرة تسير فى نفس الخط العام المميّز لهذه الفرق ،كما يختلفون فى أنواع وأحجام قبّعاتهم المزركشة ،وتضاهي أحذيتهم أحذية رعاة البقر الأمريكيين ، وهم يستعملون أحزمة جلدية سميكة مرصّعة بالنقود المعدنية الفضية والمذهّبة .وإذا كانوا يختلفون فى أزيائهم وأشكالهم فهم يختلفون كذلك فى أعدادهم حيث نجد فرقة الثلاثين، وهي أغلى وأثمن فرق المارياتشي وأجودها وأكثرها تأثيرا فى مستمعيها،وعادة ما تستدعى هذه الفرقة للحفلات الراقية والمناسبات الكبيرة ، كما أنّ هناك فرقا تتألّف من عشرين ، وخمسة عشر،وعشرة ، وسبعة عازفين،وتتفق هذه الفرق برمّتها فى إنتمائها من حيث الملبس إلى منطقة خاليسكو، وناجاريت حيث عادة ما يرتدى الرجال هناك قميصا وبنطلونا مخمليّا من صوف وقبّعات عريضة من قطن أو سعف.
ويعتزّ أفراد فرق المارياتشي إعتزازا كبيرا بنوعية الغناء الذي يؤدّونه وهم يعتبرونه إرثا فنيا رفيعا ورثوه عن أجدادهم ،ولهم فيه نوابغهم وأفذاذهم الذين أجادوا هذا الفن وبرعوا فيه واخلصوا له على إمتداد الاجيال ،وقد تربّع على عرش هذا الغناء لسنوات عديدة فيسينتي فيرنانديث الذي كان يلقب بعريس أمريكا ،واشتهرت فيه كذلك المطربة عايدة كويباس( من أصل عربي) وسواهما من الاسماء. وأغلبية المطربين والمطربات فى المكسيك لابد ان يؤدوا هذا النوع من الغناء الشعبي المتوارث ليشقوا طريقهم إلى عالم الأضواء والشهرة . وإشتهرت فى إسبانيا بأداء هذا الصّنف من الغناء بإتقان كبير المطربة الإسبانية الراحلة المعروفة " روثيو دوركال" ،كما إشتهرت بأدائه كذلك فى موطنه الأصلي المكسيك.
هناك نوع من الماريلتشي الذي يغنّي فقط فى القرى والبوادي وهم يتّسمون بالبساطة ، وغالبا ما يتغنّون بالطبيعة وحياة البادية على العموم.
ويتغنّى المارياتشي المحترف بمقطوعات شعرية جميلة من الفولكلور الشعبي المكسيكي ، كما انّ هناك نوعا آخر ليس له طابع خاص مميّز على أنه يلجأ إلى التقليد حسب المناسبات والظروف فيتغنّون بمقطوعات مارياتشي الأرياف والمدن على حد سواء وغايتهم من ذلك هو كسب قوت العيش وإرضاء جميع الاذواق. وهناك أسماء فرق يربو عمرها على ازيد من قرن من الزمان حيث يحل الأبناء محل الآباء ثم الأحفاد وهكذا ، فيغدو بالتالي هذا الفن متوارثا بين الاسرة الواحدة .وأقدم فرقة من هذا القبيل أسّسها " غاسبار برقاش"عام 1898( ويلاحظ أصل هذا الإسم الأندلسي الأمازيغي الذي ما زال موجودا ومنتشرا فى المغرب والأندلس حتى اليوم) وما زالت هذه الفرقة التي تحمل إسم مؤسّسها وهي من أشهر واكبر وأغلى فرق المارياتشي فى المكسيك . وفى عام 1921تولّى رئاسة هذه الفرقة النجل الأكبر للسيّد برقاش أو بركاش سيلفيستري -الذي مثلما قام " زرياب" عند وصوله إلى الأندلس بزيادة وتر خامس إلى العود – عمل برقاش على زيادة آلات موسيقية جديدة مستحدثة إلى هذه الفرقة وهي البوق أو النفير حيث غلبت هذه الآلة الموسيقية على الآلة التقليدية فى هذه الفرق وهي آلة "الفيولين" التي كانت تعتبر الأداة الرئيسية عند المارياتشي إلى جانب أدوات أخرى وتريّة وآلات النقر والنفخ.
ولا يخلو حفل فى المكسيك مهما كانت نوعه من هذه الفرق الموسيقية التي غالبا ما تستقبل بالصيّاح والهتاف والتصفيق وبمختلف مظاهر الحبور والفرح كرمي الورود،أو التلويح بالمناديل البيض على طريقة جمهور حفلات مصارعة الثيران فى إسبانيا عندما يعبّرون عن إعجابهم بالمصارعين (أو معذّبي الثيران وأسفاه...) . وما زال الناس يهيمون فى الشوارع وأزقّة مدينة مكسيكو العملاقة ،فمثلما تؤدّي كلّ الطرق إلى روما ، فإنّ كلّ الطرق فى مدينة مكسيكو سيتي تؤدّي إلى ساحة غاريبالدي، هناك يحطّ الغادي والرائح ترحاله، حيث يأخذ مكانه فى الساحة الكبرى، ويتّكئ على جدع دوحة ضخمة ، أو يستلقي داخل كرسيّ وثير من كراسي المقاهي الوفيرة والوثيرة المنتشرة فى الساحة ، أو يجلس تحت أقدام مجسّم خوسيه ألفريدو خيمينيث، أو مجسّم بيدرو إنفانتي، وهما من أقطاب غناء المارياتشي فى المكسيك، ويرخي لأذانه العنان ليصغي، ويسمع أو يستمتع بنغمات هذه الفرق الموسيقية التي تبعث فى النفوس شعورا سحريا غامضا وبشكل خاص فى المواطنين المكسيكيين فتدمع أعين بعضهم ، ويصيح آخرون وتقشعرّأبدان سواهم، فهي نغمات تذكّرهم بأجمل مباهج الحياة، بالحبّ الأوّل،والمنزل الأوّل، والوصال،والخصال ، وأحيانا بالصدود،والرّدود، والهجران،والعتاب والكبرياء، والخيلاء، والتعالى والغرور ،كما تذكّرهم بأيامهم الغرّاء ، وذكرياتهم الوطنية، وأبطالهم الصناديد.
إنّها تذكّرهم كذلك بسحر، وجمال، وروعة بلادهم التي تمتزج فيها الطبيعة الخلاّبة التي حباها الله إيّاهم بأحلى الأنغام ، وأعذب الألحان، وأجمل الوجوه الحسان ، تماشيا مع مثلهم القائل: فى بقية بلدان العالم خلق الله الإنسان ثم خلق له الطبيعة ، وفى المكسيك خلق الله الطبيعة أوّلا ثم خلق لها الإنسان .
*عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.