كان الشعر دائما في تفاعل مع الحياة ووقائعها. وهو تفاعل فردي يعبر فيه الشاعر عن رؤيته أو رؤياه الشخصية. فالشعر صوت الأنا. إنه مرآة للروح بكل ما ينتابها من مرح وتمرد وكآبة... إلخ. والعاطفة ملهم أساس للمبدعين عبر التاريخ. خلال الحجر الصحي، في سنة 2020، تفاعل عدد من الشعراء مع جائحة كورونا التي ضربت العالم. وكان لإجراء "الحجر الصحي" تأثير عليهم. في هذا السياق، قرأنا عددا من القصائد التي كتبت بالمناسبة؛ منها: "هذا المساء..." للبنى الفاسي، و"أشتاق إلى شرفتي" لمحمد بنقدور الوهراني، و"عزلة" لعبد السلام الصروخ. يشتاق الوهراني إلى شرفته الأطلسية التي تجمعه بها ذكريات / حكايات. تتجاوز علاقة الشاعر بهذا المكان الظاهرَ إلى الباطن، والحضورَ الجسدي إلى الحضور الروحي العميق. واللون الوحيد المذكور في قصيدته "الأزرق" يرمز إلى الصفاء، ويبعث على الراحة. يقول: أيتها الشرفة، كلما آتيك أرى الممرّات إليك، صعودا أو نزولا، حكاية. أرى الخطوات إليك، ذهابا أو رواحا، حكاية. أرى الزرقة فيك، برا أو بحرا، حكاية. أرى الجرح فيك، حالا ومآلا، حكاية. أرى الدمعة فيك تطيل المقام في القلب تهفو قليلا ولكنها تظل في الروح لها ألف حكاية وحكاية. (قصيدة "أشتاق إلى شرفتي" من الصفحة الفايسبوكية للشاعر محمد بنقدور الوهراني. يوم:27 / 3 / 2020) لقد حرك الحجر الصحي في الشاعر عاطفة الشوق إلى مكانه المفضل الشرفة الأطلسية. وقد كشف لنا عن عمق العلاقة الوجدانية التي تربطه بها، والتي تسمو إلى مرتبة العشق. أما عبد السلام الصروخ، فيعبر عن الشعور بالعزلة والوحدة في قصيدته. لقد هزم الوباء التجمعات، وفرض الاحترازُ الابتعاد والمسافات؛ وهو ما أدى إلى كساد الشارع وليل العشاق. وأمام هذا الوضع، أصبح التجمع في عداد الذكريات؛ وهو ما جعل الشاعر يستعيد شريطها من خلال الصور التذكارية الجماعية. إن تأمل هذه الصور جعلت الشاعر يواجه أسئلة ظلت مندسة في الماضي. وعلى الرغم من هذه الانشغالات فإن الشعور المهيمن في النص هو الإحساس بالعزلة والفراغ. وهذا الأخير يتلف وظيفة الأشياء: وهذي الشوارع لا تستطيع المشي ولا تستطيع حمل من يمشي. بوحي من اللحظة العصيبة، حيث الفراغ والعزلة، يفتح الصروخ رؤيته على العالم في أوسع مداه، ليخلق صورا جميلة مثيرة للانتباه. يقول: أستظل بظلي وأسير في مساء أسير ونحو سماء معلقة في الفراغ ... كلب شريد ... وغابة تغسل أغصان أسرارها بالماء والصابون. (من قصيدة "غربة" من الصفحة الفايسبوكية للشاعر عبد السلام الصروخ. يوم:27 / 3 / 2020) أما الشاعرة لبنى الفاسي في قصيدتها "هذا المساء ..."، فتستخدم الرمزية والتداعي. المساء رمز يوحي بالوحشة. فهو مؤْذن باختفاء النور، وحلول ليل لا يشبه الليالي: نجومه متباعدات خشية الوباء. فيه يعم الصمت وتنهض الذكريات من مراقدها. ذكريات الطفولة بأحلامها البريئة وترقباتها. مساء يرخي بسدوله على الأفئدة؛ فاقدا رشدَه، مسببا الحزنَ. ولا تجد الشاعرة في الأخير من ملجإ سوى دعاء الله تعالى لرفع الوباء. صامت هذا المساء... ومساءات أخرى ستأتي... تلثم جبين الليل... في خشية. تباعد بين النجوم... كي لا تصاب بالعدوى. شمس ربيعنا... باهتة...باهتة والنوم... فارقته الوسائد وتنتهي القصيدة بالمقطع التالي: هذا المساء ... لا يزال قاصرا ومساءات أخرى ستأتي... متى تعود يا مساء لرشدك؟ ومتى يرفع الحزن حقائبه عن المدينة؟ رحماك يا الله قلوبنا ...لا تقوى فأنت من أودعت فيها سرك الدفين. (من قصيدة "هذا المساء..." من الصفحة الفايسبوكية للشاعرة لبنى الفاسي. يوم: 25 / 3 / 2020) تعبر هذه القصائد عما يخالج أنفس أصحابها من حزن وشوق وشعور بالعزلة. وهي لم تكتف بالتعبير عن الإحساس بطريقة عادية، بل قدمت للقارئ صورا شعرية جميلة، وانطوت على مواقف تعكس الجوهر الإنساني للمشاك التي نبعت منها. على الرغم من خطورة هذا الوباء الفتاك الذي أودى بحياة لآلاف من البشر، ولا يزال يقض مضجعهم؛ فإن هذه القصائد قد ابتعدت عن التهويل وإثارة الذعر في المتلقي. وهذا دليل على انفلات هذه النصوص المختارة من أسار اللحظوية لتعانق أفقا أوسع منفتحا على الإنساني واللامحدود.