من يقبل خد الفراغ ؟ ديوان شعر للشاعر أسعد الباز ، وقد صدر عن منشورات بيت الشعر في المغرب سنة 2014. صمم الغلاف ، وأخرجه الشاعر عزيز أزغاي . لوحة الغلاف للفنان المغربي عبد الله الهيطوط . على ظهر الغلاف مقطع شعري ورد في الصفحة الأخيرة من الديوان تحت عنوان « ذروة «. عدد الصفحات 74 صفحة من القطع المتوسط ، أما القصائد وأكثرها مقاطع قصيرة فقد تجاوزت 50 قصيدة [ 52 تحديدا ] اختار الشاعر لديوانه كعنوان جملة إنشائية استفهامية استلزامية ، وقد أفادت التعيين ، والتَصَوُّر، والنفي ، لأن المستفهِم كما سيتبين من خلال السياق الذي وردت فيه هذه الجملة لا يجهل المعلومة المستَفهَم عنها ، بل ينفيها لاستحالتها ، لأن لا أحد بوسعه أن يقبل خد الفراغ . « من يقبل خد الفراغ ؟ / حين تبلعنا أحشاء المدى ،/ وترمينا للمتاه السحيق «. ص 67. في العنوان مستوى بلاغي آخر، ويتجلى في الاستعارة الواضحة : « خد الفراغ «. للفراغ كما هو معلوم حضور قوي في علم الفيزياء ، وعند المتصوفة، والفلاسفة، وغيرهم . لن أستعرض شيئا من ذلك وأنا أقدم للقارئ الكريم هذا الديوان لأنني لا أريد أن أسهب أكثر في الحديث عن عتبة العنوان . هل يمكن القول أن ما يؤطر نصوص هذه التجربة هو رؤيا الفراغ ؟ وإذا كان الأمر كذلك نتساءل ما الداعي إلى ذلك؟ إن قراءة المتن تجعلنا نلمس سمات هذه الرؤيا ، وقد كشفت عن نفسها من خلال تيمة مركزية هي الإحساس بالزوال ، والحروب ، والماضي بعبئه الثقيل . يبدأ الديوان بهذه الجملة : « أتصوُّرني مستلقيا على عمودي الفقري / علَّني أتعافى من كدمات الماضي « ، أما المستقبل فهو لا يبشر بخير، لأن برج الذات المتكلمة [العذراء] ينذر كل صباح بسماوات متقلبة ، وحروب ،» وبعضا من النجاح العاطفي « . ختم الشاعر قصيدته «عمودي الفقري « وهي الأولى في الديوان بهذه السطور: « كم أمضيت زمني منهكا / بين ممرات الوطن / وشظايا المحن / بفداحةٍ لا توصفُ / تتلاشى الأمنياتُ/ وأنا مستلق على عمودي الفقري» ص6. في القصيدة الثانية ، وعنوانها « الموعد الأخير» ، يحضر الماضي بمعاناته . « هكذا حكى لي القفص الذهبيُّ / المتآكل في دفتر الذكريات / لوى جيده بلا أسف وانصرفَ / غير آبهٍ بالعناق القديم «. ص7. في قصيدة نسيان ، وهي الثالثة نقرأ : « كلما فكرنا في بعضنا / تبادلنا الندمَ / وتذكرنا كل أثرٍ باذخٍ / تركناه ينفلت منَّا / عبر واجهة العذاب./ هكذا كنَّا نتبادل الحياة «. ص8. هذه عينة فقط من الأمثلة الدالة على توتر الذات المتكلمة مع ماضيها ، ليس على المستوى الشخصي فحسب ، بل أيضا على مستوى إلى وطن وأمة ، كما نقرأ في هذه السطور من قصيدة هامش : « تلو أخرى ...../ أقلب أوراق تاريخ سيئ للغاية / الماضي اغتيل بتوقيعٍ مزيف لجنودٍ خانوا رجولتهم / هربا من الوطيس ..». ص28. من تجليات توتر الذات مع محيطها حضور معجم الموت والحرب بشكل ملحوظ في العديد من النصوص ، وقد نتج عن ذلك ثقل المعاناة على الشاعر، وهو يتفاعل مع ما حدث في الشارع العربي من حراك سياسي واجتماعي ، كما نقرأ في المقطع الثالث من قصيدة « رمشه « : في رمشة عينٍ / يستفيق الشعب من سباته العميق / يخرج بغثة من كهفه السحيق/ وينحني كل شيءٍ / تمثال الحاكم وهو ينهار/ في وضح النهار / فالشعب لا يستكينُ ، ساعة الثورة الجارفة / وتبقى راية البلاد واقفة «. ص 64. الشاعر يدين الحرب ، ويعتبرها جريمة في حق الشعوب التي استباحتها تحالفات الأقوياء . « صناع القرار/ على طرف المقايضات / يقتسمون العالم برمية نردٍ / يتحكمون عن بعدٍ / في أزرارٍ حروبُها باردةٌ / بينما سلاح الدمار الشامل / قهر مؤقت / كذبة سخيفة على بغداد «. ص 22. وفي قصيدة « ملحمة « يؤكد « ... اعتدنا في وضح النهار/ أن نرى الجريمة بادية للعيان / القوي يعصر الهزيل من عنقه / ويقتات من صحنه إلى حد إجحاف الحقيقة « ص 12. عبر الشاعرعن تعاطفه مع ضحايا هذه الحروب ، وخاصة الأبرياء من المدنيين ، ويمكن اعتبار قصيدة « طلقات « النموذج المعبر عن هذا التعاطف ، بحيث أهدى قصيدته « إلى كل بريء في سوريا « . يقول : « عندما تبدأ الطلقاتُ / تبدأ الحروبُ / يتطايرُ شررُ الموتِ ...» إلى أن يقول : « كل المنازل تجمع أشلاءها وتغادرُ/ تهرب من الباب الخلفي للمدينةِ / سمعتهم يقولون وداعا / وهم يسقطون تباعا ...» ص25/26. المكان المؤطر لنصوص الديوان هو المدينة ، ويقدمها لنا الشاعر على هذا النحو « مدينتي دالية / يطال زهوها اليباس / تتعرى بين سكون واهتزاز..» ص 38. البنيات المكانية الصغرى داخل فضاء المدينة هي ، الدروب والأرصفة ، والسجن المركزي ، والمزبلة . تأتي الدروب كفضاء جسَّد التيه ، بعد الشعور بالوحدة والغربة كما نقرأ في العديد من القصائد ، كقصيدة « انزواء « ، التي يقول فيها :» مساء الخريف نابض بالأحزان / أنا وشارع الحب الطويل / سندخل بعد قليل / تفاصيل الليل والنسيان «. ص 55. وفي قصيدة « غربة « نقرأ « آتي إليك من مدينتي/ عبر هزات الحافلة / في عيوني/ كما في ذاكرتي/ أحمل غربتي القاتلة «. ص 54. ذات الإحساس بقتامة العالم تَمَّ التعبير عنه في السطرين التاليين : « أتعب في اقتناص ذريعة للفرح / وأعيد الكآبة إلى مكانها الآمن «. ص 12. أما السجن فقد تجاوز إطاره ، ليتجلى للشاعر في كل شيء « أرى مدخل السجن/ في قفص العصفور/ في حديقة الحيوان/ في خم الدجاج / في شباك التذاكر/ في سكة القطار..» إلى أن يختم بقوله : « ألمح باب السجن/ في جرسِ صدىً/ يرن دائما في الخامسة مساءً «.ص 23/24. إذا كان السجن هو الوجه الآخر لقبح للمدينة ، فإن المزبلة تأتي لتعاضد هذا القبح « بصمت ودون أن يرانا الجيران/ نرمي بأثقالنا كاملة / في مطرح النفايات «. ص20. في الختام لا بد من الإشارة إلى أن الشاعر ينتفض بين الحين والآخر ليشتعل جمرة ينقشع عنها الرماد ، ويغدو مشعا يضيء الدنيا من جديد ، كما عبر عن ذلك في قصيدة « اشتعال « .استطاع أن يقتنص بعضا من الفرح ، وذلك عندما يؤجل التفكير في ما يعكر صفو الحياة ليتمتع بلحظة جمال مختارا لحبره أن يكون « بالأخضر فقط « كما هو الحال في هذا الوصف البديع لأنثى فاتنة في الحديقة « بنفحة من عطرك المتوحش / وأنت تعبرين ممرالحديقة / تثيرين رغبة الزهور في الانتقام / ما زلت هناك في وهج الظهيرة / تتفيئين ظل شجرٍ/ بينما العصافير فوقك / مراوح تصفع الحرَّ/ وتطير». ص 29.