للريح أسماء أخرى هو عنوان ديوان الشاعر المغربي عبد العالي دمياني ، وهو من منشورات بيت الشعر في المغرب ، بدعم من مؤسسة الرعاية لصندوق الإيداع والتدبير. الطبعة الأولى سنة 2013 . أنجز لوحة الغلاف الشاعر والتشكيلي عزيز أزغاي .عدد الصفحات 137 . حجم الكتاب متوسط . تمَّ تبويب المتن الشعري على شكل عناوين كبيرة تضمنت عدة قصائد . هذه العناوين هي : خيول دالي ، وعشاء أخير ، وخروج القراصنة ، وللريح أسماء أخرى ، وعدمية بيضاء ، ولا شيء يشبهني ، وبئر . أول شيء يمكن تسجيله ونحن نقرأ هذا المتن الشعري الشيق والنوعي هو الخيال الخصب لهذا الشاعر ، وذلك لجدة صوره ، وكثرتها ، بحيث لا تكاد تستلذ بصورة شعرية حتى يباغتك بما هو أجمل . ليس في القصيدة الواحدة فحسب ، بل في الجملة الشعرية ذاتها ، وهي صور تنحو المنحى الرمزي لأنها تكسر العلاقات المنطقية بين الأشياء، وتمزج في كيمياء اللغة ما لا يُمزج ، كقوله مثلا : « يأكل من لساني الصمت « . ص :16 و « الكأس سهرانة / خلف الشمعدان / والأصوات نيئة / في جمجمة الصباح «. ص : 12. والأمثلة كثيرة . نجد المنحى السوريالي أيضا إذ يتوجه الشاعر في بعض قصائده إلى أعماقه وإلى الحلم لينقل لنا كل تلك الفوضى المرتبة في دواخله بلغة تربك بإتقان العلاقات المألوفة بين الأشياء كما يريدها العقل المنظم والمرتب . وللتمثيل لا الحصر أسوق من القصيدة الأولى الموسومة ب «خيول دالي» هذه الصور . يقول : « الأرض عربة حوذيُّها العدم «، و» في ممراتنا / في الحذاء السري / في قلنسوة الريح / حيث خيول السيد دالي المجنحة ...» . وفي ذات القصيدة يقول : « في ما تبقى من جنائزنا / في القداس الأممي / في حدائق الموتى / حيث خيول السيد دالي المجنحة / تجرجر الكارثة من جلدها / وأفاعي القطار الليلي / تعبر ساعة الرمل / صوب شموسها الأخيرة / وتمائم الوردة الماكرة / تعمد مشاغل السماء .» ومن قصيدة « بئر» وهي الأخيرة في الديوان أسوق ما يلي : «على أجمة يتفرج / يجر جثة سره من لسانها « ، وينتهي الديوان ب « هناك / بين سندان / ومطرقة / يسحق ذكرى نفسه / كيرقة أرق قديم / ثم يهوي / في صحوة نسيان/ سحيق / هناك / وحده . هذه الصور كشفت لنا علاقة الشاعر بالعالم المحيط به ؛ وهي علاقة توتر وانفعال على الدوام ، كما لو أن الشاعر لا يرى العالم ، وأشياءه المبعثرة إلا من زاوية الدهشة والإدهاش . حتى الأشياء التي لا ينتبه إليها أحد ، ومن ثم فعالمه الشعري يحتفي بكل الموجودات . لا يقصي من قاموسه أية كلمة ، بل لا يجد غضاضة في دس كلمات وعبارات فرنسية ، أو إنجليزية ، أو عامية . و بإمكانه أن يترجمها إلى اللغة العربية الفصحى ، لكن من المؤكد أنها لن تكون بذات الوقع كما هي في لغتها الأصلية . له قدرة فائقة على ربط ما يكفي من اتصال و وصال مع كافة الأشياء . يكفي أن يعبر ذلك الوميض السري لتتقد الرؤيا ، ويصبح كل شيء جاهزا للولوج إلى عالمه الشعري . يقول في القصيدة « لِسَّه فاكر» :»الضوء يشح في البار/ والقواريرخلف المشرب / ينضين أثوابهن / وأسماؤهن / ويغمن/ عندالفالس الأخير.» ص : 62 . في الديوان عدة حقول معجمية ، إلا أن الحقل المهيمن هو الحقل الدال على الموت . لا تخلو قصيدة من الإشارة إليه تلميحا ، أو تصريحا . وهذه عينة فقط من هذا القاموس اللافت للنظر في تجربة هذا الشاعر: شجرة الموت / قيلولة الموت / الجثمان / خزانة الموتى / المقبرة / إنشاد الموتى / صالة الموت / نقالة موتى / الرأس المقطوع / جماجم / عدمية بيضاء / موت الأميرة ديانا / العدم / جثة مزهرة ... إلخ . يحضر حقل آخر له صلة ببعض مرجعيات الشاعر من خلال قاموس يحيل على المقروء ، والمسموع ، والمُشاهد : قداس بيتهوفن / البيانو / فيفالدي / الفصول الأربعة / لسَّه فاكر / فيلم المومياء / أفلام الوستيرن / غيرنيكا / دالي /اسم الوردة / هيرودوت / وردة المستحيل ...إلخ . حقل آخر يكشف عن المكان الأكثر إفصاحا عنه في الديوان ، وذلك من خلال الأيقونات الدالة عليه ، وهي : شارع الزرقطوني / مقهى إكسيلسيور/ الكاردينال / بار ليلي / بار الساعة الأخيرة / الكونتوار . من هذه الأمكنة نستخلص المكان العام المؤطر للذات المتكلمة ، وللبنيات المكانية الصغرى التي ترددت عليها هذه الذات التي تبدو قلقة حد الشعور بالاختناق في عالم ضاج بالمفارقات . وقد عبر عنه من خلال دالين هما الربو والسعال . من قصيدة الربو أسوق هذا المثال : « في حشرة الرطوبة تحت أجنحة رئتي . في عباءة الغبار: شجرة السعال التي تقصم العمود الفقري للعمر» ص :18 . ذات الشاعر في هذا الديوان قلقة بسبب إحساسها باغتراب جارف كما هو في قصيدة «عزلة لا تحصى « ، وقصيدة «خيبة « ، التي يقول في مختتمها : انكسر السلم / ماعت الكأس/ والموجة حملتك/ خارج قلعة نفسك المحطمة». أختم هذه الورقة بالإشارة إلى أن الشاعر استنجد بالسرد كي يتمكن من نقل جزئيات وتفاصيل المشهد ، والشاهد على ذلك قصيدة « بار ليلي في المقصورة السابعة « ، وقصيدة الراهب في سمائه « ، التي أورِد منها هذا المقطع وهو مثال أيضا على التكرار الذكي في هذا الديوان : «... بعد هذا جاؤوا. يحملون الفوانيس . يحملون الفوانيس . الجبل الصغير خلف الوادي ينعي ظهورهم . وعويل الريح . وعويل الريح . لن يجدوا المفتاح . لم يجدوا . تخطوا الشجرة بقليل من سوء التقدير. بقليل . لو نظروا تحت أقدامهم . لو نظروا . حطموا الباب . ولم يعثروا على الجثمان .لم يعثروا . فقط ألياف من الضوء . أبخرة . وابتسامة تلمع في المرآة .على إثر أقدامهم . ماع السقف . وفاض المكان «. ص : 22 . في الديوان أيضا كتابة شذرية تكتفي بالإبراق بالمعنى ؛ إذ بالنزر القليل من الكلمات تقال معان كبرى كما هو الحال في عدة قصائد . أسوق هذا النموذج : « دس ما تبقى من عمرك / كريشة صقر في كتاب/ وليكن :» نزهة في الجحيم « / ولا تلتفت لإنشاد الموتى «. ص : 44 . ......................... هامش : تحدثت مع صديق شاعر عن هذه التجربة التي أطربتني كثيرا ، فقال لي مع من تضعه من الشعراء . جازفت لأن مثل هذا الحكم يحتاج إلى قراءة متأنية للديوان وقلت له : أضعه إلى جانب شعراء أعزهم ، وهم سليم بركات من المشرق ، ومحمد بن طلحة ، ومبارك وساط وأحمد بركات ، وعبد زريقة من المغرب .