قطعت الحكومة الحالية مسافة طويلة منذ تعيينها قبل عامين، لكي تصل في النهاية إلى التصالح مع الواقعية السياسية. فالحكومة الأخيرة المعينة أظهرت أن الفاعلين السياسيين باتوا يغلبون مبدأ التقارب على مبدأ التصارع المفتوح الذي لا يقود سوى إلى العقم السياسي، وأن الأصل في التشكيلات الحكومية بالمغرب أنها ترتكز على الاستقطاب، لا على التقاطب. لنوضح. يقوم النظام السياسي في المغرب على عنصر"الخدمة"، فالحكومات هي خديم عند القصر كما هي خديم للمواطنين. وهذا يعني علاقة بالفكر السياسي الأوروبي أن الأحزاب التي تقود الحكومات بالمغرب هي أحزاب مفرغة من الإيديولوجيا أو المضمون السياسي المستقل. جميع الأحزاب لديها هوية إيديولوجية وهي في المعارضة، ولكن ما أن تصل إلى الحكم حتى تتخلى عن تلك الهوية الخاصة بها، لأنها تشتغل داخل إطار هوية أوسع هي هوية الدولة، فالدولة هي الكائن الأكبر الذي يبتلع الكائنات الصغرى ويذيبها بداخله. وفي ظل عنصر الخدمة هذا، فإن وظيفة الحكومة هي أن تنفذ سياسات الدولة لا سياسات الحزب الذي يقود التجربة الحكومية. الشيء الوحيد الذي يسمح للحزب بأن يمتلكه وهو في وسط التجربة التنفيذية هو "الأسلوب" الخاص به في تنزيل برنامج الدولة، وليس البرنامج في حد ذاته. وباعتبار أن الأحزاب السياسية تصبح بدون هوية إيديولوجية وهي في السلطة، فإن جميع الأحزاب تصبح سواء فيما بينها، أما مهمة رئيس الحكومة فهي أن يسهر على التنسيق فيما بين مكونات حكومته بحيث يعمل على توحيد"الأسلوب" داخل فريقه الحكومي. ومن هنا فإن الآلية المعمول بها في تشكيل الحكومات هي الاستقطاب، لإكمال الأغلبية أو إدخال عنصر الفعالية في العمل الحكومي أو الانفتاح على الكفاءات التي قد تغني العمل الحكومي، وليس التقاطب، بمعنى تشكيل حكومة على أساس التقارب الإيديولوجي أو السياسي بين مكوناتها. فالاستقطاب خاصية العمل الحكومي، بينما التقاطب خاصية العمل الحزبي. ويبدو من تشكيلة الحكومة الثانية والبعض يراها حكومة جديدة أن رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران بذل جهدا كبيرا لكي يصل إلى فهم آليات العمل الحكومي في المغرب، وأن يفهم الفرق بين منطق العمل الحزبي ومنطق العمل الحكومي. إن ما يثير الاستغراب حقيقة هو أن يتم التحالف بين حزب العدالة والتنمية وحزب التجمع الوطني للأحرار، وهما اللذان تبادلا الكثير من الاتهامات خلال الشهور الماضية، إلى درجة ساد الاعتقاد معها أن المصالحة بين الحزبين باتت في حكم المستحيل. بيد أن مثل هذا الاعتقاد لا أساس له، على ضوء التجارب السياسية السابقة التي أثبتت أن "المستحيلات" مستحيلة في الحياة السياسية المغربية. فقد تحالفت أحزاب الكتلة الديمقراطية داخل حكومة التناوب مع أحزاب ما كان يسمى بالوفاق الوطني، على الرغم من أن منطق الحياة الحزبية خلال بداية التسعينات وحتى تشكيل الحكومة كان يظهر استحالة مثل ذلك التحالف، ولكن آلية الاستقطاب قامت بهذا الدور، مقابل آلية التقاطب التي تقوم بدورها فقط على مستوى الصراعات الحزبية. لقد أصبح التحالف بين حزبي العدالة والتنمية والتجمع الوطني للأحرار ممكنا بناء على آلية الاستقطاب، وليس بناء على آلية التقاطب. ولو أن هذه الآلية الأخيرة هي المعول عليها في العمل الحكومي وهو ما ليس موجودا لكان التحالف قد استمر بين حزبي العدالة والتنمية والاستقلال، بسبب القرابة الإيديولوجية بين الإثنين. فالتحالف بين هذين الحزبين قد يصح وفق آلية التقاطب، بينما التحالف بين العدالة والتنمية والتجمع يصح وفق آلية الاستقطاب. وقد تغلبت آلية التقاطب بين حزبي العدالة والتنمية والاستقلال خلال معركة الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، التي وضعت في عهد حكومة التناوب برئاسة عبد الرحمان اليوسفي، فعلى الرغم من أن حزب الاستقلال كان واحدا من مكونات الكتلة الديمقراطية إلى جانب الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية الذي وضعت الخطة بإشراف الوزارة التي كان يسيرها آنذاك كما كان واحدا من مكونات الفريق الحكومي، إلا أن القرابة الإيديولوجية بين الحزبين غلبت مبدأ التقاطب على مبدأ الاستقطاب.