دروس وعِبر للمستقبل.. الكراوي يقارب 250 سنة من السلام بين المغرب والبرتغال‬    أخنوش: فقدنا 161 ألف منصب شغل في الفلاحة وإذا جاءت الأمطار سيعود الناس لشغلهم    طنجة.. توقيف شخص بحي بنكيران وبحوزته كمية من الأقراص المهلوسة والكوكايين والشيرا    عمره 15 ألف سنة :اكتشاف أقدم استعمال "طبي" للأعشاب في العالم بمغارة الحمام بتافوغالت(المغرب الشرقي)    "المعلم" تتخطى مليار مشاهدة.. وسعد لمجرد يحتفل        الإسبان يتألقون في سباق "أوروبا – إفريقيا ترايل" بكابونيغرو والمغاربة ينافسون بقوة    انعقاد مجلس الحكومة يوم الخميس المقبل    أخنوش: حجم الواردات مستقر نسبيا بقيمة 554 مليار درهم    الجديدة.. ضبط شاحنة محملة بالحشيش وزورق مطاطي وإيقاف 10 مشتبه بهم    استطلاع رأي: ترامب يقلص الفارق مع هاريس    هلال يدعو دي ميستورا لالتزام الحزم ويذكره بصلاحياته التي ليس من بينها تقييم دور الأمم المتحدة    النجم المغربي الشاب آدم أزنو يسطع في سماء البوندسليغا مع بايرن ميونيخ    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا الخميس والجمعة المقبلين    حصيلة القتلى في لبنان تتجاوز ثلاثة آلاف    سعر صرف الدرهم ينخفض مقابل الأورو    البحرية الملكية تحرر طاقم سفينة شحن من "حراكة"    استنفار أمني بعد اكتشاف أوراق مالية مزورة داخل بنك المغرب    الجفاف يواصل رفع معدلات البطالة ويجهز على 124 ألف منصب شغل بالمغرب    المعارضة تطالب ب "برنامج حكومي تعديلي" وتنتقد اتفاقيات التبادل الحر    «بابو» المبروك للكاتب فيصل عبد الحسن    تعليق حركة السكك الحديدية في برشلونة بسبب الأمطار    في ظل بوادر انفراج الأزمة.. آباء طلبة الطب يدعون أبناءهم لقبول عرض الوزارة الجديد    إعصار "دانا" يضرب برشلونة.. والسلطات الإسبانية تُفعِّل الرمز الأحمر    الجولة التاسعة من الدوري الاحترافي الأول : الجيش الملكي ينفرد بالوصافة والوداد يصحح أوضاعه    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    مريم كرودي تنشر تجربتها في تأطير الأطفال شعراً    في مديح الرحيل وذمه أسمهان عمور تكتب «نكاية في الألم»    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مصرع سيدة وإصابة آخرين في انفجار قنينة غاز بتطوان    عادل باقيلي يستقيل من منصبه كمسؤول عن الفريق الأول للرجاء    الذكرى 49 للمسيرة الخضراء.. تجسيد لأروع صور التلاحم بين العرش العلوي والشعب المغربي لاستكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية    أمرابط يمنح هدف الفوز لفنربخشة        متوسط آجال الأداء لدى المؤسسات والمقاولات العمومية بلغ 36,9 يوما    "العشرية السوداء" تتوج داود في فرنسا    إبراهيم دياز.. الحفاوة التي استقبلت بها في وجدة تركت في نفسي أثرا عميقا    بالصور.. مغاربة يتضامنون مع ضحايا فيضانات فالينسيا الإسبانية    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    مدرب غلطة سراي يسقط زياش من قائمة الفريق ويبعده عن جميع المباريات    عبد الله البقالي يكتب حديث اليوم    تقرير: سوق الشغل بالمغرب يسجل تراجعاً في معدل البطالة    "فينوم: الرقصة الأخيرة" يواصل تصدر شباك التذاكر        فوضى ‬عارمة ‬بسوق ‬المحروقات ‬في ‬المغرب..    ارتفاع أسعار النفط بعد تأجيل "أوبك بلس" زيادة الإنتاج    استعدادات أمنية غير مسبوقة للانتخابات الأمريكية.. بين الحماية والمخاوف    الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي: للفلسطينيين الحق في النضال على حقوقهم وحريتهم.. وأي نضال أعدل من نضالهم ضد الاحتلال؟    عبد الرحيم التوراني يكتب من بيروت: لا تعترف بالحريق الذي في داخلك.. ابتسم وقل إنها حفلة شواء    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التحالف الحكومي المرتقب ومسألة التقاطب الإيديولوجي
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 15 - 12 - 2011

يبدو، من خلال ملامح التحالف الحكومي المقبل، أن التقاطب الإيديولوجي يلعب دورا أساسيا في تشكله، خصوصا وأن ما يجمع بين مكوناته الأساسية يقوم على التقارب الفكري والمرجعي، بغض النظر عن وجود حزب التقدم والاشتراكية ضمن هذا التحالف أو عدمه، مما يسفه بعض التحاليل السطحية المفتقرة إلى النضج الفكري والسياسي، التي تقول بنهاية الإيديولوجية، وكأن الإيديولوجية مرحلة، وليست منظومة أفكار؛ وهو ما يجعلها خارج السياق الذي تتفاعل فيه التجاذبات بين الأطراف الأساسية في المشهد السياسي المغربي. فالواقع الحالي يثبت أن البعد الإيديولوجي حاضر، وبقوة، في التقاطبات السياسية المنتظرة، سواء تعلق الأمر بالأغلبية الحكومية أو بالمعارضة، المعارضة الديمقراطية نقصد. صحيح أن الدستور لا يشترط التناغم الإيديولوجي بين مكونات الأغلبية؛ لكن، من حق، بل من واجب، رئيس الحكومة المعين أن يبحث عمن هو قريب من تنظيمه السياسي فكريا وسياسيا لضمان توفر شروط نجاح برنامجه الحكومي الذي يمكن اعتباره شروعا في تحقيق مشروعه المجتمعي، ولو في جزء منه على الأقل.
لقد نص الدستور الجديد صراحة على تعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي يحتل الرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية. وهذا ما يسمى بالمنهجية الديمقراطية التي لم يعد احترامها مجرد عرف يمكن الخروج عنه، كلما عن لرئيس الدولة ذلك، كما حدث في 2002، تحت طائلة ذريعة من الذرائع، بل أصبح هذا التعيين واجبا وملزما بحكم أسمى قانون في البلاد. فهل يمكن اعتبار تعيين الأستاذ عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة تكريسا لعرف جديد يتمثل في تعيين المسؤول الأول في الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات في منصب رئيس الحكومة، علما أن الدستور يتحدث عن الحزب ولا يتحدث عن المسؤول الأول فيه؟
وحين يعين الملك، طبقا للدستور، رئيس الحكومة، يكون أمام هذا الأخير مهمة تشكيل حكومة تسندها أغلبية برلمانية تضمن لها الاستقرار والفعالية. ولبلوغ هذا الهدف، نرى أنه من المنطقي ومن الطبيعي أن يخاطب رئيس الحكومة المعين من الأحزاب من هو الأقرب إلى حزبه من الناحية الفكرية والسياسية والمرجعية، أي تلك التي يمكن اعتبارها- إيديولوجيا- عائلة سياسية واحدة. وفي حال عدم توفر هذه العائلة السياسية على المقاعد المطلوبة لتكوين الأغلبية، يمكن لرئيس الحكومة اللجوء إلى مكونات من عائلات سياسية أخرى، مخاطبا الأقرب فالأقرب. وهذا النوع من التحالف البعدي يبدو منطقيا، في مغرب ما زال يتلمس طريقه نحو الديمقراطية الحقة.
لقد أفرزت الانتخابات الأخيرة خارطة سياسية، فيها كثير من عناصر الجدة، رغم أنها لا زالت مبلقنة إلى حد كبير (وستستمر على هذا النحو ما لم يتغير نمط الاقتراع ويتم القطع مع المنطق المتحكم في التقطيع الانتخابي) . فلأول مرة في تاريخ الاستشارات الشعبية التي عرفها المغرب، بعد تبني نمط الاقتراع باللائحة، يحصل حزب سياسي على أكثر من ربع مقاعد الغرفة الأولى للبرلمان، الشيء الذي اعتبرته الصحافة اكتساحا؛ ثم إن أغلب ال ? المقاعد الباقية تقاسمتها سبعة أحزاب؛ مما يعني إمكانية قيام نحالف حكومي بأربعة أحزاب على الأكثر. وليس الحزب الذي حصل على الرتبة الأولى سوى حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الدينية. وهذا في حد ذاته عنوان عن تحول كبير في الذهنية وفي المواقف المعبر عنها، خلافا لما عرفته جارتنا الجزائر، في ظروف تاريخية أخرى، التي تم اغتيال المسلسل الديمقراطي بها فقط لأن إسلاميي جبهة الإنقاذ حازوا أغلب المقاعد. فالحزب الإسلامي المغربي، الحائز على 107 مقعد في الانتخابات الأخيرة، مدين، إذن، بهذا الفوز لحركة 20 فبراير ألتي كان زعيمه من أبرز معارضيها، مما تسبب في استقالة بعض القياديين بحزب المصباح.
ما يميز انتخابات 25 نونبر 2011 هي أنها سابقة لأوانها وتأتي في ظل دستور جديد صادق عليه المغاربة في فاتح يوليو 2011، كثمرة من ثمرات الحراك السياسي والاجتماعي الذي أجاب عنه خطاب تاسع مارس الاستباقي الذي استطاع، بذكاء، امتصاص الغضب وجعل الحجم الاحتجاجي لحركة 20 فبراير لا يتجاوز حدود المعقول.
ومن بين المستجدات الأساسية التي أتى بها هذا الدستور الاستباقي، منع الترحال السياسي الذي كان عنوانا كبيرا لمرحلة استشرى فيها الفساد السياسي الذي بلغ أقصى درجات الصفاقة مع حزب "البام" لمؤسسه "فؤاد عالي الهمة". وفي هذا، حماية للخارطة السياسية التي تفرزها الانتخابات؛ ذلك أن المنتخبين كانوا، في السابق، يغيرون جلودهم مع مطلع ومغيب كل شمس، مما كان يعقد مسألة تكوين الأغلبيات و يسهل عملية التحكم فيها من الخارج . كما أن من بين أبرز ما ميز الدستور الجديد التنصيص على تعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي يفوز بالرتبة الأولى في الانتخابات، أي احترام المنهجية الديمقراطية كلبنة أساسية في بناء الملكية البرلمانية المنظورة، التي طالبت بها حركة 20 فبراير، وطالب بها قبل ذلك الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ مؤتمره الثالث في سنة 1978، وجدد مطلبه بها بمناسبة مؤتمره الثامن سنة 2008، وأصبحت اليوم شعارا لمؤتمر حزب تقدمي: "الملكية البرلمانية الآن".
ونظرا لطبيعة نمط الاقتراع المعمول به حاليا في المغرب، فإنه لن يستطيع أي حزب، مهما كانت قوته، التوفر لوحده على النصاب القانوني لتكوين الحكومة. لكن احترام المنهجية الديمقراطية، الذي هو احترام لتوجهات الناخبين واختيارهم، يعطي للمشهد السياسي وللخارطة السياسية المنبثقة عنه، على الأقل، بعض المصداقية وبعض الوضوح، مما يجعل مسألة التحالفات تحظى بالاهتمام وبالمتابعة، عكس التشويه الذي تعرض المشهد السياسي المغربي، في عهد الحسن الثاني، على يد إدريس البصري؛ وهو التشويه الذي حاول ما أصبح يعرف ب G8 إحياءه قبل أول انتخابات تجري في ظل الدستور الجديد عن طريق خليط هجين يضم أربعة أحزاب ليبرالية وإدارية إلى جانب ثلاثة أحزاب تحسب على اليسار وحزب ذي مرجعية إسلامية، بدعوى أن المحدد الإيديولوجي لم يعد حاسما في تكوين التحالفات. وقد سبق أن قدت قراءة للمشهد السياسي المغربي (انظر جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، 12 أكتوبر 2011)، حاولت، من خلالها، فهم طبيعة هذا التحالف المشكل عشية الانتخابات، فاعتبرت أن تكوين الأغلبية الحكومية، من قبل الحزب المكلف بتشكيل الحكومة (أو رئيس الحكومة المعين)، قد لا يتأتى له تكوين الأغلبية البرلمانية من العائلة السياسية التي ينتمي إليها لوحدها؛ وعند ذلك، يتم البحث عن حليف أو حلفاء من خارج هذه العائلة للوصول إلى الأغلبية المريحة التي تضمن استقرار الحكومة.
وهذا هو الوضع الذي يوجد فيه السيد عبد الإله بنكيران الآن الذي عبر، غير ما مرة، عن رغبته في التحالف مع أحزاب الكتلة الديمقراطية، "لكونها الأكثر تمثيلا للطموحات الشعبية، ولما لها من تجربة في مجال تسيير الشأن العام، وفي دواليب الدولة والأجهزة الحكومية، فضلا عن كفاءات أطرها"(عبد الغني أبو العزم، الاتحاد الاشتراكي، يومي السبت والأحد 10/11 دجنبر 2011). لكن الوعي بإمكانية اصطدام هذه الرغبة بمعطيات تتعلق باختلاف التوجهات والمرجعيات بين مكونات الكتلة، من جهة، وبين بعض مكونات هذه الأخيرة وحزب العدالة والتنمية، من جهة أخرى، جعل رئيس الحكومة المعين، وكذا بعض قادة حزبه يعلنون، منذ الوهلة الأولى، عن إمكانية التحالف مع كل مكونات المشهد السياسي، باستثناء حزب الأصالة والمعاصرة الذي جعلوا منه خطا أحمر بسبب مواقف مؤسسه فؤاد عالي الهمة.
وبما أن ملامح التحالف الحكومي المقبل قد اتضحت، فيمكن القول بأن الغموض الإيديولوجي لا يزال سيد الموقف، خصوصا فيما يتعلق بمكونات الكتلة الديمقراطية. فإذا كان مفهوما أن يلتحق حزب الاستقلال بتحالف العدالة والتنمية، نظرا للتقارب بين الحزبين فيما يخص المرجعيات؛ وإذا كان مفهوما، أيضا، أن يقرر حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية العودة إلى المعارضة، حفاظا على هويته الإيديولوجية المتمثلة في الاشتراكية الديمقراطية، من جهة، ودفاعا عن نهج أسلوب الوضوح السياسي الذي يجب أن يميز الرؤية التقدمية عن الرؤية المحافظة للمجتمع المغربي، من جهة أخرى، فإن موقف حزب التقدم والاشتراكية لا يسعف في توضيح التموقعات الإيديولوجية لا في اليمين ولا في اليسار ولا في الوسط. وهو ما يمكن أن يؤسف له، خصوصا وأن الأمر يتعلق بأول تناوب ديمقراطي أفرزته صناديق الاقتراع التي جعلت نواته الصلبة تتشكل من اليمين المحافظ (وهو تصنيف ليس قدحيا ولا تنقيصيا، بقدر ما هو إجرائي للتداول السياسي ووضوح الخطاب، كما جاء في افتتاحية جريدة "الاتحاد الاشتراكي" ليوم الجمعة 9 دجنبر 2011).
إن رئيس الحكومة المقبل استطاع أن يجمع حوله تحالفا يتألف من مكونات تنتمي لتحالفين قائمين: الكتلة الديمقراطية، وما يسمى ب"التحالف من أجل الديمقراطية" المعروف بج8. وإذا نظرنا إلى التقارب الإيديولوجي بين المكونات الأساسية للأغلبية الحكومية المقبلة، يمكن التنبؤ بتشكل جديد للخارطة السياسية، يقوم على التموقع في اليمين أو اليسار أو الوسط. فالتصويت بكثافة على حزب العدالة والتنمية يبرز، بوضوح، المنحى المحافظ، كحقيقة سياسية ومجتمعية، الذي عبرت عنه صناديق الاقتراع، وبالتالي، يصبح من المنطقي ومن الضروري البحث عن تحالف ينسجم مع هذا التوجه ويكرس هذه الهوية. لذا، نعتقد أن التحالف الحكومي قيد التشكل، إذا ما كتب له النجاح، قد يدق مسمارا في نعش التحالفين السابق ذكرهما، خصوصا إذا عرف كيف يحافظ على الانسجام المطلوب بين مكوناته، لبناء ذاته، فيصبح حقيقة سياسية قائمة على الفرز السياسي الذي صنعه الناخب المغربي يوم 25 نونبر. فإذا ما توفرت لهذا التحالف الجديد شروط الاستمرار على أساس التصنيف الذي وضعناه آنفا، فإن ذلك يعني قيامه على أنقاض تحالفي الكتلة وج8. وإذا كان تفكك ج8 لا يطرح كثيرا من الأسئلة، لكونه اعتبر منذ البداية تحالفا هجينا يقوم على خليط غير متجانس لا فكريا ولا سياسيا، وبالتالي فإن مآله الفشل، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للكتلة الديمقراطية، لما اطلعت به من أدوار حاسمة في الإصلاحات السياسية والدستورية التي عرفها المغرب، منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي إلى اليوم، إذ كانت سببا حاسما في تغييرين دستوريين (دستور 2992 ودستور 1996)، وشكلت العمود الفقري لثلاث حكومات متعاقبة. لكن السؤال المطروح حاليا هو: هل ما زال لهذا التحالف دور ما في المشهد السياسي الحزبي أم أنه استنفذ كل مبررات وجوده؟
لقد كان بإمكان الخارطة السياسية أن تكون أكثر وضوحا، لو لم يتعرض المشهد السياسي المغربي، طيلة عقود، إلى تشويه مقصود، تدخلت فيه الدولة بشكل مباشر، فصنعت أحزابا إدارية وزورت الاستشارات الشعبية، الخ. لكننا، نعتقد أن الوضع الحالي قد يعطي، مستقبلا، إمكانية قيام تحالفات منطقية وطبيعية تقوم على أسس إيديولوجية واضحة تميز بين اليمين واليسار والوسط، وإن كنا لا نرى، بوضوح، من هي الأحزاب التي يمكن أن تصنف في الوسط. صحيح أن هناك بعض التحاليل تدعي نهاية الإيديولوجية، كما أسلفنا، لكنها، في واقع الأمر، هي تحاليل غارقة في الإيديولوجية إلى أخمص قدميها، لأنها، ببساطة، تحاليل تدخل ضمن النزعة المحافظة، لكنها لا تريد أن تكشف عن وجهها الحقيقي. فالإيديولوجية هي منظومة فكرية un système de pensée ، وبالتالي، فكل نظام قائم أو تنظيم سياسي، هو ذو طبيعة إيديولوجية.
ولو رجعنا إلى الأسس التكوينية للأحزاب الحقيقية، أي الأحزاب التي تحمل مشروعا مجتمعيا، وتأسست استجابة لحاجات مجتمعية، وليس الأحزاب التي صنعتها وزارة الداخلية لمواجهة الأحزاب الحقيقية والتشويش عليها، والمسماة أحزابا إدارية، لوجدنا أن الاصطفاف الحالي يكاد يون طبيعيا وعاديا. فالاتحاد الاشتراكي، الوريث الشرعي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، خرج من رحم حزب الاستقلال. والسبب هو الخلاف بين توجهين إيديولوجيين متباينين: توجه محافظ وتوجه تقدمي. ولما استحال التعايش بين التوجهين، تم الفراق بناء على هذا التباين. فحزب الاستقلال، من الناحية الإيديولوجية والمرجعية أقرب إلى حزب العدالة والتنمية (أو العدالة والتنمية هو الأقرب إليه) منه إلى حزب الاتحاد الاشتراكي الذي يتبنى مرجعية كونية، هي الاشتراكية الديمقراطية، ويرفع شعار الحداثة الذي هو نقيض المحافظة.
وبما أن الاتحاد الاشتراكي قد اختار الوضوح باختياره المعارضة، فقد اختار أيضا الحفاظ على هويته اليسارية، وهو ما سيعطي للأغلبية الحكومية المقبلة هويتها السياسية، باعتبارها أغلبية محافظة. وباعتبار الاتحاد الاشتراكي حزبا يساريا، ونظرا لنضاله الطويل على جبهة المعارضة، في واجهاتها المختلفة، فهو المؤهل لمعارضة بناءة منتجة، وليس المعارضة الشكلية التي تقف عند حدود التصويت مع أو ضد، ليس إلا. وبما أن الدستور الجديد قد أعطى للمعارضة حقوقا لم تكن لها في السابق، فإن المعارضة الاتحادية التي خدمت البلاد في سنوات الجمر والرصاص، لن تألو جهدا في الدفع بمسلسل الدمقرطة إلى الأمام، مستفيدة من أخطاء الماضي، من أجل تحديث الدولة والمجتمع. وسيكون علي الاتحاد، بعد قرار العودة إلى المعارضة، الذي اتخذه المجلس الوطني للحزب بإجماع أعضائه، العمل على توحيد عائلة اليسار حول برنامج عمل مرحلي واضح ومدقق، ينسجم مع تطلعات الفئات الشعبية التي لها مصلحة في التغيير الديمقراطي الكفيل بتحقيق المشروع المجتمعي التقدمي الحداثي الذي يجعل من المسألة الاجتماعية إحدى أولوياته. ومن كان هذا برنامجه، فسوف لن يخلد إلى الراحة ولن يجعل من المعارضة فرصة للاستجمام. فليطمئن، اسي عباس، بأن المعارضة الاتحادية هي، كسابق عهدها، "خدمة للديمقراطية وخدمة للبلاد بالعمل على تطبيق الدستور ومراقبة الحكومة وتصحيح الأخطاء والنقد والاقتراح البناء. فنحن نعرف مهمة المعارضة جيدا"، يقول عبد الواحد الراضي، الكاتب الأول للاتحاد الاشتركي. وسيكون على الاتحاد، من أجل تحقيق هذه الأهداف، العودة إلى منابعه وروافده، كما سيكون عليه العمل، مع حلفائه الطبيعيين، لبناء الحزب الاشتراكي الكبير القادر على صياغة برنامج سياسي واقعي، يدافع عنه من موقع المعارضة، ويعمل على تنفيذه من موقع المشاركة الحكومية، حين تكون مشاركته ضرورية وتفرضها صناديق الاقتراع. أما خرافة "التخلي عن الإسلاميين تآمر لإفشالهم"، فهي اختلاق لمبرر المشاركة، ضدا على صناديق الاقتراع وعلى الوضوح الضروري في العمل السياسي وعلى مبدأ التناوب ذاته؛ ولن ينطلي ذلك على كل لبيب. فالمعارضة، على كل حال، ضرورية للديمقراطية؛ وقد تكون أفيد للبلاد من المشاركة في الحكومة، خصوصا إذا كان من يمارسها يعرف جيدا أهميتها ومهمتها.
حتى لا ننسى:
لقد سبق للكتابة الإقليمية للاتحاد الاشتراكي بمكناس أن توصلت بدعوة كريمة من الإخوة في حزب التقدم والاشتراكية لحضور الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الفرع الإقليمي للحزب الذي ترأسه الأمين العام الرفيق نبيل بنعبد الله، والربيع العربي يومها في بداياته. وفي الوقت الذي انبرى فيه الرفيق محمد خوخشاني إلى طمأنة الحاضرين بأن المغرب بعيد، كل البعد، عما وقع في تونس وما يقع في مصر، وأن المشككين في وضعنا المريح هم مجموعة من المشوشين لا أقل ولا أكثر، سيتصدى لهم المجتمع، كان تدخل الكتابة الإقليمية للاتحاد الاشتراكي بالمناسبة، يؤكد على أن المغرب ليس بمنأى عما هب على محيطه المغاربي والعربي من رياح التغيير، سيما وأن الأسباب واحدة، عددتها الكتابة الإقليمية في ظروف الفقر والفساد والتهميش وتمييع الحياة السياسية من طرف حزب الدولة ممثلا في الوافد الجديد. وحين اختتم الأمين العام للحزب الجلسة الافتتاحية بكلمة سياسية، لم ينس أن يرد على تحليل الكتابة الإقليمية للاتحاد بقوله إن كل ربط بين ما يقع في المحيط المغاربي والعربي، هو ربط هش ويتصف بالضحالة والسطحية. وبما أن المغرب عرف ظهور حركة 20 فبراير، النسخة المغربية لما يسمى بالربيع العربي، وبعد خطاب تاسع مارس وما تلاه من إصلاحات دستورية وسياسية... يحق لنا أن نعيد "التحية" بأحسن منها. والفاهم يفهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.