عادت من جديد حمى الخلافات بين حزب العدالة والتنمية، الذي يقود الحكومة الحالية، وحزب الأصالة والمعاصرة، الموجود في المعارضة، لتطفو على السطح، بعد المعارك السياسية والاتهامات المتبادلة التي شهدها مجلسا النواب والمستشارين في الأسابيع الماضية، ووصلت حدة الخلافات حدا قرر فيه حزب الأصالة اللجوء إلى المحاكم لرفع دعوى قضائية على رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، بسبب مواقفه التي قال الحزب في بلاغ له إنها تميزت بالعدائية والعدوانية والقذف والسب والإمعان في توجيه اتهامات خطيرة إلى قيادة الحزب. الخلافات التي اندلعت في الآونة الأخيرة ليست جديدة، ولكنها استعادة لخلافات قديمة بدأت منذ تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة عام 2008، وما لحق ذلك التأسيس من ملابسات وملاسنات بين الطرفين تم خلالها تبادل الاتهامات والاتهامات المضادة. خرج حزب الأصالة في ذلك الوقت وهو يحمل برنامجا يعلن الانتصار للخيار الحداثي على المحافظة، وأعلن ذلك على لسان قياداته أكثر من مرة. وفي الوقت الذي سجل تراجع في صف الأحزاب التي كانت ترفع ذلك الشعار وتغلب الجوانب الإيديولوجية في الصراع السياسي، مثل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي تحول من حزب إيديولوجية ذي اختيارات معينة إلى حزب انتخابي، أراد حزب الأصالة والمعاصرة أن يحتل نفس الموقع الذي بقي فارغا. ونظرا لأن المستشار الملكي فؤاد عالي الهمة هو الذي قاد مبادرة التأسيس في تلك المرحلة فقد نُظر إلى الحزب الجديد من طرف حزب العدالة والتنمية باعتباره محاربا له. وجاءت المفاجأة في الانتخابات الجماعية عام 2009 التي حقق فيها الحزب الجديد فوزا كبيرا، مما جعل الفرقاء السياسيين الآخرين وبينهم حزب العدالة والتنمية يعتقدون أن حزب الأصالة والمعاصرة يلقى رعاية خاصة من لدن الدولة، قصد دفعه لاحتلال مواقع متقدمة في المشهد السياسي الوطني. ومع التحضير للانتخابات التشريعية الأخيرة جاء إنشاء مجموعة الأحزاب الثمانية، التي ضمت حزب الأصالة والمعاصرة إلى جانب مكونات سياسية أخرى، وأعلنت المجموعة أنها تسعى إلى تكوين تقاطب سياسي بين تيار محافظ يمثله كل من حزبي العدالة والتنمية والاستقلال، وتيار حداثي ممثلا في الأحزاب المكونة للمجموعة، لكن الاضطرابات التي عاشتها مجموعة الثمانية لم تترك لأي مراقب مبررا للثقة فيها، إذ ظهر منها أن تأسيس ذلك التكتل كان بهاجس انتخابي ضيق أكثر مما كان طموحا نحو إحداث فرز في المشهد السياسي، لذلك كان التساقط سريعا وانتهى التكتل مثلما ولد. لكن ما حصل لا يمكن النظر إليه باعتباره حالة شاذة في الحياة السياسية المغربية، فمجموعة الثمانية لم تكن سوى تكرار لنماذج تحالفية سابقة لم يحالفها النجاح، مثل الكتلة الديمقراطية ومجموعة الوفاق وأحزاب الوسط مثلا، وهي كلها تحالفات تمت بهاجس انتخابي بالدرجة الأولى، ما عدا الكتلة الديمقراطية التي تشكلت بغرض تقديم ملتمس مشترك حول الإصلاح الدستوري لكنها انكسرت على صخرة الهواجس الانتخابية، ذلك أن التقاطب الحزبي في المغرب لا يتم على قاعدة إيديولوجية بل على قاعدة برنامجية، وتشكيل الحكومة الحالية التي يقودها حزب العدالة والتنمية، مثلا، دليل على أن المبادئ المسطرة في أدبيات الأحزاب السياسية هي آخر ما يتم التفكير فيه، ولا يتم اللجوء إليها إلا أثناء الصراعات السياسية لتأكيد التمايز، أما أثناء الانتخابات أو خلال تكوين الحكومات فإن الجانب البراغماتي هو ما تعطى له الأهمية. وقد شكلت محطة الدستور الجديد والانتخابات الأخيرة مناسبة للتفكير في أن المغرب سيدخل مرحلة سياسية جديدة على أسس أكثر وضوحا، خصوصا بعد ابتعاد فؤاد عالي الهمة عن حزب الأصالة والمعاصرة وفك ارتباطه به، مما شكل رسالة سياسية على أن البلاد دخلت منطقا جديدا في العمل السياسي. بيد أن تلك المحطة لم تستغل بطريقة تمهد لهذا الانتقال، إذ أن حزب العدالة والتنمية حاول استثمار الاحتجاجات التي شهدها الشارع من أجل تصفية الحساب مع غريمه القديم. وفهم حزب الأصالة والمعاصرة أن حزب العدالة يريد استهدافه في هذه المرحلة، بعدما كان الحزب الثاني يرى أن حزب الأصالة أراد استهدافه في المرحلة السابقة، فبدا أن المعركة بين الطرفين ولدت لكي لا تموت. غير أن الخلافات الأخيرة شهدت انزلاقات كبرى بين الحزبين، فقد اتهم رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران حزب الأصالة بالتهجم على الجيش والمخابرات ووزارة الأوقاف لكونها قطاعا تابعا لإمارة المؤمنين، وهي اتهامات وصفها حزب الأصالة بالخطيرة بسبب أنها تسعى إلى توريط الحزب مع جهات عليا في الدولة، وردا على تلك الاتهامات الثقيلة هاجمت النائبة عن حزب الأصالة والمعاصرة، خديجة الرويسي، حزب العدالة والتنمية في إحدى اللجان البرلمانية متهمة مؤسس الحزب عبد الكريم الخطيب وبنكيران ب«القتلة». ويبدو اليوم أن هذا الصراع بين الحزبين أصبح يشكل مظهرا من مظاهر الانحدار في العمل السياسي بالمغرب، فقد وصل ذلك الصراع حدا بات واضحا معه أن القضية هي قضية وجود بالنسبة إلى أحد الحزبين، وهو ما ينبئ بتحولات خطيرة في الساحة السياسية ما لم يحصل تصالح يتدخل فيه وسطاء حزبيون ويتم فيه الاتفاق على قواعد صريحة ومشتركة في العمل السياسي، لأن استمرار هذا الصراع الثنائي قد يؤدي إلى شق الحياة السياسية بالمغرب.