كانت تجربة المقاهي الأدبية أو الثقافية بالمغرب قد انطلقت، منذ سنوات خلت، بالمقهى الأدبي في حي المنال بالرباط، وهي التجربة التي أشرفت عليها حينها جمعية "الشعلة"، واستطاع المقهى استضافة عدد من الوجوه الثقافية التي أضحت فيما بعد شخصيات وزارية تسير قطاع الثقافة بالبلاد، ومنهم الشاعر محمد الأشعري، والفنانة ثريا جبران، والروائي بنسالم حميش. وتوالى فتح مقاه أدبية وثقافية في العاصمة الرباط وفي مدن أخرى، لعل أبرزها مقهى طلة بالرباط، و"القصر الذهبي" بمدينة الدارالبيضاء، و"لاكوميدي" بفاس، ومقهى "الياقوت" بالقنيطرة، و"المقهى الأدبي" بمدينة آسفي، ومقاهٍ أخرى في عدد من مدن البلاد. اليوم، بعد مرور كل هذه السنوات على انطلاق تجربة المقاهي الأدبية بالمغرب، يحق التساؤل: ما وضعية هذا الصنف من المقاهي؟، وما مدى إشعاعها الثقافي وتأثيراتها الراهنة على المشهد الثقافي للبلاد، في خضم تنوع وسائط المعرفة والتواصل الحديثة.. هي أسئلة حملتها هسبريس إلى الكاتبة المغربية وفاء الحمري، والروائي مصطفى لغتيري، مؤسس "الصالون الأدبي" بالدارالبيضاء. لغتيري: تجارب ناجحة للمقاهي الثقافية ويرى الروائي مصطفى لغتيري أن المقاهي الثقافية، والتي تتخذ غالبا في المغرب طابعا أدبيا بل وتسمى به، تعد من الظواهر الثقافية الجديدة، التي غزت المشهد الثقافي المغربي خلال الفترة الأخيرة في بعده الرسمي والشعبي، فالفكرة ابتدأت بمبادرات شخصية من طرف بعض المبدعين وبعض الجمعيات الثقافية". وأردف لغتيري، في تصريحات لهسبريس، أن الهدف منها كان "الخروج بالعمل الثقافي والأدبي خصوصا من القاعات الباردة التي لم يعد الجمهور متحمسا للإقبال عليها، فكان التفكير في استغلال المقاهي باعتبارها محجا للكثير من الناس، وخاصة الموظفين والأساتذة والطلبة، أي الجمهور المفترض للأدب وللكتاب عموما، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار شيوع المقاهي في المجتمع المغربي". واستطرد صاحب "أسلاك شائكة" أن بعض المقاهي نجحت في استقطاب الجمهور، بعد أن نوعت برامجها ما بين القراءات الشعرية والقصصية وتوقيعات الإصدارات الجديدة، ونتيجة لهذا النجاح حاولت الجهات الرسمية استثمار ذلك، فالتفتت إلى المقاهي الثقافي من أجل تأطيرها، لكنها لم تستمر في ذلك وقتا طويلا، نظرا ربما لافتقاد رؤيا طويلة الأمد للبعد الثقافي". وزاد لغتيري بالقول إن نجاح التجربة هو ما دفع بكثير من الجمعيات والمثقفين في مدن مغربية شتى إلى تأسيس مقاهيها الأدبية الخاصة بها، حتى أصبح لكل مدينة مقهاها الثقافي، بل قد تتوفر مدينة ما على أكثر من مقهى. "كانت لنا في مدينة الدارالبيضاء تجربة خاصة أطلقنا عليها اسم الصالون الأدبي، وكنت رفقة بعض الأدباء ننظم أنشطتنا بما يتفق مع فلسفة المقهى الثقافي، ابتداء من الفضاء الذي هو عبارة عن مقهى، فنظمنا ندوات واستضفنا كتابا مغاربة وعربا، وأصدرنا كتبا ومجلة" يورد لغتيري. وخلص المتحدث إلى أنه من خلال تجربته المتواضعة تشكل هذه المقاهي الثقافية بالفعل قيمة مضافة للعمل الثقافي، خاصة إذا تم تأطيرها بوعي ثقافي وتدبيري يؤمن بأن الفعل الثقافي ضرورة حياتية لا مناص منها، وأنه ليس مجرد ترف أو شغل من لا شغل له، وذلك إذا حظيت بدعم قوي من الجهات الرسمية، يتيح لها تنفيذ برامجها الثقافية في ظروف مرضية ومناسبة، وتليق بالثقافة والمثقفين". الحمري: بين الماضي والحاضر..مقاه بلا أدب ومن جهتها قالت الكاتبة وفاء الحمري لهسبريس إن المقاهي الأدبية كانت تشكل تجمعا هاما وضروريا للمبدعين، حيث كانت الوسيلة الأكثر شعبية للقاء بين المثقفين، وفاق إشعاعها النشاطات الحكومية، وكانت وقتها تجمعا فكريا وسياسيا وثقافيا، إذ لم تكن هناك فواصل بين المبدع والسياسي". وتشرح الحمري "سمعنا عن مقاه سميت بأسماء كبار المثقفين، وشكلت منبعا للإشعاع الفكري والنضالي والثقافي، فقد كانت المقاهي الأدبية منبرا إعلاميا يرصد الأخبار ويوزع المعلومة الثقافية والسياسية، بل كانت مدرسة قائمة بحد ذاتها يتتلمذ فيها المبتدئون على يد كبار المثقفين الذين لم يكونوا يبخلون بالنصيحة والنقد". وعادت صاحبة كتاب "العشق المشروع" إلى الحديث عن الوضع الراهن لهذه الفضاءات، "في يومنا هذا، مع ظهور المواقع الإلكترونية، أصبحت ظاهرة المقاهي الثقافية تجمعا للافتراضيين على أرض الواقع ليس إلا، فالعمل في مجمله يكون على الحامل الإلكتروني". وتابعت الشاعرة ذاتها أن استعادة المقاهي الأدبية كانت انتفاضة للمهمشين من الكتاب لاستعادة الدور الشعبي للمقاهي الأدبية، لمواجهة احتكار أنشطة وزارة الثقافة، واتحاد كتاب المغرب، وبعض المراكز اللغوية الدولية الموجودة بالمملكة". وأوردت الحمري أن البدايات كانت قوية وصادقة، وأعطت ثمارها، لكن استسهال العملية حول المقاهي الثقافية إلى مركز لتجمعات تكثر فيها النميمة، وتبادل الاتهامات، وتأجيج البعض على البعض، بل اتخذها بعضهم تجمعات أنس وسهرات، فيما بعضهم جعلها مقرا لحفلات توقيع الكتب وبيعها". وخلصت الكاتبة إلى أن "المقاهي الأدبية أصبحت اليوم مقاه بدون أدب ولا ثقافة، حيث أضحت مجرد تجمعات لالتقاط الصور، ونشرها على المواقع الإلكترونية، وخفت ذاك الإشعاع الذي انطلقت به، بل غاب"، تؤكد وفاء الحمري.