في دول علمانية تفصل الدين عن الدولة، كما هو الحال في أوروبا، تتمتع المساجد بقدر كبير من الإستقلالية والحرية. فأهل المسجد هم من يختارون مذهبهم الفقهي والعقدي، وهم وحدهم من يحددون توجه المسجد الفكري والسياسي، وهم كذلك من يعينون الإمام أو يعزلونه. وضعية وميزة يفتقدها أهل المساجد داخل الدول الإسلامية، حيث يفرض عليهم كل شيء فرضا إلى درجة تجعلهم يحسون أنهم ضيوف في المساجد التي يزورونها لا أكثر. فهناك جهات تقرر وتختار، ومن رضي من زوار المسجد فله الرضى، ومن سخط فليبحث له عن مسجد آخر إن وجده. ولكلتي الوضعيتين سلبياتها وإيجابياتها، فحالة المساجد في المغرب مثلا رغم ما تعانيه من تحكم مطلق من قبل وزارة الأوقاف، إلا أن هذا التحكم يقلل من فرص الخلافات ويوفر الإستقرار والإستمرارية داخل المساجد، ويقطع الطريق أمام من يحاولون التأثير على توجهات المسجد لتكون في خدمة رؤاهم ومناهجهم. أما الحرية والإستقلالية التي تتوفر لدى مساجد أوروبا، فمع ما فيها من إيجابيات إلا أنها تفتح شهية الطامعين، وتغري المتنافسين أيهم يكسب ود المساجد ويوجه بوصلتها لصالحه. تتنافس في هذا الصراع المحموم حول بسط النفوذ على المساجد دول وحركات إسلامية وقبائل وعائلات وجهات مختلفة، يتداخل فيها الديني والسياسي وحتى العرقي والقبلي. وتختلف الوسائل المتبعة في هذا الصراع من جهة لأخرى، فالدول وخاصة الغنية منها كدول الخليج تستخدم المال لاستمالة توجه المسجد والتأثير فيه. ورغم أن الداعمين والمدعومين يحاولون إنكار ربط الدعم بالتبعية، إلا أن الواقع يشهد لذلك ويؤكده. فهل من الصدفة مثلا أن كل المساجد والمراكز التي تتلقى الدعم من المملكة العربية السعودية تتبنى نفس الفكر والرؤى والمناهج المعتمدة في المملكة؟ بل حتى المواقف السياسية لأئمة هذه المساجد ومسؤوليها غالبا ما تكون منسجمة مع مواقف الدول أو الجهات الداعمة. والمفارقة الغريبة العجيبة أن هؤلاء المدعومين من المملكة العربية السعودية يرون أن اتباعهم هذا هو اتباع للسنة، ولعمري كيف يعتبر أتباع السعودية سنة وأتباع المغرب مثلا سبة (بالباء)؟ هل مذهب الإمام أحمد أقرب إلى الحق من مذهب مالك؟ وهل مواقف السعودية السياسية أشرف من مواقف المغرب؟ أم أن المسألة تكريس للمثل المغربي القائل (اللي ما عندو فلوس كلام مسوس)، أي الدولة اللي ما عندها فلوس الولاء لها مسوس. طبعا حتى المغرب دخل حلبة الصراع حول المساجد، ولكنه دخل في الوقت الضائع كما أرى، لذلك تراه يستعمل السرعة النهائية ليفوز بنتيجة سباق بدأه متأخرا كعادته. ففي الوقت الذي كانت السعودية والكويت والإمارات وقطر وليبيا وربما غيرها من الدول تغزو مساجد المغاربة في أوروبا بالمال وجيوش من الدعاة المشارقة، وكأنه ليس لدينا في المغرب دعاة، كان المغرب منشغلا بالوداديات. فلما تبين له أن تلك الوداديات لا وزن لها ولرؤسائها بين المغاربة تبرأ منها وتركها وراء ظهره، وولى وجهه شطر المساجد، حاله حال أم تخلت عن أولادها أثناء طفولتهم، وتركتهم يرتمون في أحضان غيرها، فلما بلغوا أشدهم جاءت الأم تذكرهم بحقها عليهم، وأنها أولى بهم من غيرهم محاولة تعويض ما ضاع. لكن من سوء حظ أمنا البيولوجية التي هي المغرب أن لها أبناء عاقين كثيرين في أوروبا، جعلوا عداوتها وتشويه سمعتها دينا يدينون الله به، فاستبدلوا اسمها بالمخزن واستغنوا عن ملكها بالمرشد وعوضوا الوطن بالجماعة، وكل من رأى غير ما يرون فهو "متمخزن" خانع لا يؤتمن له جانب ولا يصح له دين. فهل سينجح المغرب في ضبط بوصلة المساجد لصالحه في أوروبا مع كل هذه التحديات؟ كما قلت في البداية، ليست الدول وحدها من يحاول بسط النفوذ على المساجد، فالحركات الإسلامية تحاول ذلك أيضا مستخدمة وسائل شتى من بينها: - الانخراط في لجان المسجد والقيام بأنشطة دينية أو ثقافية ظاهرها خدمة المسجد وأهله وباطنها خدمة الجماعة أو التنظيم والتعريف به، بغية اكتساب أعضاء جدد. - التقليل من أهمية أي نشاط داخل المسجد لا يشارك فيه أعضاء الحركة ولا يتماشى مع توجههم، وكأن التوفيق والسداد رهين بحضورهم وحكر على جماعتهم. (أهم يقسمون رحمة ربك؟) - محاولة التأثير على الإمام، كي يتبنى مواقفهم في دروسه وخطبه، فإن لان لهم ونطق بلسانهم رفعوه فوق رؤوسهم وأعلوا مكانته بينهم، متغاضين عن كل نقائصه وعيوبه، لأن انتماءه للتنظيم في نظرهم أو حتى تعاطفه معهم يوجب غض الطرف عن كل عيوبه، شعارهم في ذلك: الإنتماء يجب ما قبله ويغفر ما دونه. أما إن خالفهم في أمر أو خطأهم في تصرف، فهذا كفيل بوضعه ضمن القائمة السوداء، فلا علمه ولا ورعه ولا صدقه يشفع له بعد ذلك، وحتى الصلاة خلفه لا يؤدونها إلا على مضض، ولو كان الأمر بأيديهم لطردوه إلى غير رجعة. وقد حصل هذا في الكثير من المساجد فعلا. وهذا السلوك البعيد كل البعد عن قيم الإسلام يطرح تساؤلين عميقين: هل نشاط الحركات والجماعات الإسلامية داخل المساجد عامل هدم أم عامل بناء؟ - هذه الجماعات الإسلامية التي فشلت في التعايش مع المخالف المتدين مثلهم الذي يصلي إلى جنبهم خمس مرات في اليوم في المسجد، كيف سيتصرفون حينما يتعلق الأمر بالخلاف داخل المجتمع أوفي دهاليز السلطة والحكم؟ من لا يرضى بإمامة المخالف في الصلاة أو اعتلائه كرسي الخطابة يوم الجمعة، أتراه يرضى به إذا جلس على كرسي الحكم؟ حكى لي إمام صديق أمرا غريبا عجيبا حول مسجد سبق أن مارس الإمامة به، هذا المسجد رغم وجود اللجنة المسيرة على الورق وفي الصورة، إلا أن الذي يسيره فعلا شخص آخر، ظننت أن الشخص المعني بالأمر مثقف مخلص لا يحب الظهور ولذلك فهو يوجه اللجنة من وراء ستار، فاجأني صاحبي أن المعني بالأمر شيخ أمي جاوز السبعين من العمر. قلت وبأي حق أصبحت له الكلمة العليا و اليد الطولى داخل المسجد وأصبحت اللجنة لا تصدر إلا عن رأيه؟ قال: إن له أبناء وأحفادا بالعشرات، وبمجرد رنة هاتف من الشيخ المذكور إذا بجيش منهم إلى جانبه بأجسامهم القوية وعضلاتهم المفتولة وربما بأسلحتهم البيضاء والنارية أيضا، ويا ويل من أغضب الشيخ أو أقلق راحته. لذلك فالكل يخافونه. إنني لست ضد الحركات الإسلامية ولا ضد السعودية ولا مع ( المخزن) حسب مصطلح القوم. أنا ابن المساجد درست فيها وأعمل فيها، وأرجو الله أن أكون من أهلها. ما في الأمر أنني أشفق على المساجد في أوروبا حيث كثر المتحرشون بها كما يتحرش ذئاب البشر بامرأة جميلة ليس لها من يحميها. مرحبا بكل دعم مادي أو معنوي لمساجد أوربا شريطة أن لا يكون على حساب استقلالية المساجد وحريتها. ومرحبا بأبناء الحركات الإسلامية داخل المساجد ما دام نشاطهم خالصا لوجه الله يخدم مصالح أهل المسجد أولا وأخيرا، أما أصحاب الأجندات المزدوجة فضررهم على المساجد أكبر من نفعهم. جميل وعظيم جدا أن نبني المساجد وننفق عليها الغالي والنفيس، ولكن الأعظم منه لو استطعنا أن نحمي هذه المساجد من طمع الطامعين وعبث العابثين؟ غريب أمركم يا من تتصارعون حول بسط النفوذ على المساجد. فبينما يحاول الغرب السيطرة على مصادر الطاقة في العالم والتحكم في مصادر المياه، وفي الوقت الذي يضحي فيه الكثير من شباب الأمة بحياتهم من أجل الحرية والكرامة والعدالة، إذا بكم تجعلون السيطرة على المساجد وتغيير أئمتها أكبر همكم ومبلغ علمكم وغاية رغبتكم، خاب سعيكم. دعوا المساجد لله، واقتحموا ميادين الصراع الحقيقية. اثبتوا وجودكم في المجتمع وتنميته إن كنتم فاعلين. طبعا لم تفعلوا ولن تفعلوا، لأن الذي يستأسد في المسجد غالبا ما تجده نعامة في مجتمعه وبيته. * إمام مغربي في هولندا