المؤبد والسجن النافذ لمرتكبي جريمة قتل شاب في حي المطار بالجديدة    حيازة حيوانات مهددة بالانقراض والاتجار فيها يجر شخصين للاعتقال بالناظور    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف إطلاق النار في الساعة 4 صباحا من يوم الأربعاء بتوقيت البلدين    وفد عسكري مغربي يزور حاملة الطائرات الأمريكية 'هاري ترومان' في عرض ساحل الحسيمة    تراجع مفرغات الصيد بميناء طنجة بنسبة 29% وانخفاض القيمة التجارية إلى 134 مليون درهم    الملك محمد السادس يدعو إلى حلول عملية لوقف النار ودعم الفلسطينيين إنسانياً وسياسياً    نقص حاد في دواء السل بمدينة طنجة يثير قلق المرضى والأطر الصحية    اتحاد طنجة لكرة القدم الشاطئية يتأهل إلى مرحلة البلاي أوف من البطولة الوطنية    فتح تحقيق في محاولة تصفية مدير مستشفى سانية الرمل تطوان    سبتة ترفض مقترحا لحزب "فوكس" يستهدف المهاجرين والقاصرين    الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل سيدخل حيز التنفيذ فجر الأربعاء    العلمانية والإسلام.. هل ضرب وزير الأوقاف التوازن الذي لطالما كان ميزة استثنائية للمغرب    عصبة الأبطال.. الجيش الملكي يهزم الرجاء بعقر داره في افتتاح مباريات دور المجموعات    لجنة الحماية الاجتماعية تجتمع بالرباط    المغرب يستعد لإطلاق عملة رقمية وطنية لتعزيز الابتكار المالي وضمان الاستقرار الاقتصادي        بنسعيد: "تيك توك" توافق على فتح حوار بخصوص المحتوى مع المغرب        "نعطيو الكلمة للطفل" شعار احتفالية بوزان باليوم العالمي للطفل    وفاة أكبر رجل معمر في العالم عن 112 عاما    لحظة ملكية دافئة في شوارع باريس    سعد لمجرد يصدر أغنيته الهندية الجديدة «هوما دول»    الجنائية الدولية :نعم ثم نعم … ولكن! 1 القرار تتويج تاريخي ل15 سنة من الترافع القانوني الفلسطيني        دين الخزينة يبلغ 1.071,5 مليار درهم بارتفاع 7,2 في المائة    معاملات "الفوسفاط" 69 مليار درهم    المغرب جزء منها.. زعيم المعارضة بإسرائيل يعرض خطته لإنهاء الحرب في غزة ولبنان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    في حلقة اليوم من برنامج "مدارات" : عبد المجيد بن جلون : رائد الأدب القصصي والسيرة الروائية في الثقافة المغربية الحديثة    الجزائر و "الريف المغربي" خطوة استفزازية أم تكتيك دفاعي؟    نزاع بالمحطة الطرقية بابن جرير ينتهي باعتقال 6 أشخاص بينهم قاصر    الجديدة مهرجان دكالة في دورته 16 يحتفي بالثقافة الفرنسية    التوفيق: قلت لوزير الداخلية الفرنسي إننا "علمانيون" والمغرب دائما مع الاعتدال والحرية    اللحوم المستوردة تُحدث تراجعا طفيفا على الأسعار    مسرح البدوي يواصل جولته بمسرحية "في انتظار القطار"    شيرين اللجمي تطلق أولى أغانيها باللهجة المغربية    توهج مغربي في منافسة كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي بأكادير    الأمم المتحدة.. انتخاب هلال رئيسا للمؤتمر السادس لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط    برقية شكر من الملك محمد السادس إلى رئيس بنما على إثر قرار بلاده بخصوص القضية الوطنية الأولى للمملكة    القنيطرة.. تعزيز الخدمات الشرطية بإحداث قاعة للقيادة والتنسيق من الجيل الجديد (صور)    توقيف فرنسي من أصول جزائرية بمراكش لهذا السبب    اتحاد طنجة يكشف عن مداخيل مباراة "ديربي الشمال"        مواجهة مغربية بين الرجاء والجيش الملكي في دور مجموعات دوري أبطال أفريقيا    حوار مع جني : لقاء !    غوارديولا قبل مواجهة فينورد: "أنا لا أستسلم ولدي شعور أننا سنحقق نتيجة إيجابية"    الدولار يرتفع بعد تعهد ترامب بفرض رسوم جمركية على المكسيك وكندا والصين    المناظرة الوطنية الثانية للفنون التشكيلية والبصرية تبلور أهدافها    تزايد معدلات اكتئاب ما بعد الولادة بالولايات المتحدة خلال العقد الماضي    إطلاق شراكة استراتيجية بين البريد بنك وGuichet.com    الرباط.. انطلاق الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء        لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إصلاح مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة..
نشر في هسبريس يوم 08 - 12 - 2021

ليس خافيا ما للورش التشريعي من أهمية معتبرة بالنظر إلى ارتباطه بضمان حقوق الأفراد وحماية مصالحهم وصون حرياتهم، خاصة بعد تدشين المغرب لمرحلة جديدة توجت بإطلاق مسار المراجعة الدستورية التي ارتقت بالدستور الجديد من دستور لتنظيم السلط إلى دستور لإقرار الحقوق. وقد اقتضت هذه الفلسفة التشريعية الجديدة فتح مسارات إصلاحية أخرى لا تقل أهمية، بدءا من إصلاح منظومة العدالة ومراجعة السياسة الجنائية، وإصلاح سياسة التجريم والعقاب انطلاقا من ملاءمة القانون الوطني مع مبادئ الدستور والاتفاقيات الدولية الخاصة بمنع الجريمة وحقوق الإنسان، وانتهاء باتخاذ ما يلزم من تدابير تشريعية لتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة والارتقاء بأداء العدالة الجنائية.
وفي خضم كل هذه الدينامية التشريعية، بقيت مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة خارج هذا الحراك الإصلاحي، تعاكس ببعض مقتضياتها توجه البلاد الذي رسمه دستور 2011. فما عاد مقبولا التذرع بخصوصية المادة الجمركية لتبرير الخروج عن القواعد العامة ومبادئ العدالة، تحقيقا لمصالح الدولة المالية. كما لم يعد مقبولا تغليبها (المصالح) على حساب تضييق مصالح الأفراد ومحاصرتهم بترسانة قانونية مرنة يسهل تمطيطها لاستيعاب كل الأفعال دون مراعاة لمبادئ التجريم والعقاب كما هي متعارف عليها دوليا.
وتأتي مساهمتي المتواضعة بهذا الموضوع في إطار إغناء النقاش وإضافة ما يمكن إضافته من أجل الدفع قدما بعجلة الإصلاح التشريعي حتى تصل إلى مقتضيات النص الجمركي، لترخي عليه بظلالها إسوة بباقي القوانين الأخرى، خاصة بالنظر إلى الأهمية التي يحظى بها التشريع الجمركي سواء في الجانب المالي أو الحمائي أو الوقائي والأمني.
وفي نظري أن أولوية الإصلاح كانت يجب أن تنصب على النصوص الجمركية نظرا لاعتبارات أجملها في كونها نصوص تعكس مرآة المغرب التشريعية للخارج بحكم مجالات تطبيق القاعدة الجمركية المتسمة بالانفتاح على المحيط الخارجي للدولة، باعتبارها مقتضيات تنظم عمليات الاستيراد والتصدير، وبالتالي من شأن خروجها عن القواعد العامة أن يسوق صورة سلبية عن عدالة التشريع المغربي، بل وأن يضر بصورة البلاد بشكل عام.
الشرعية الحقوقية على محك الغايات النفعية والطابع السيادي للقانون الجنائي الجمركي
تطرح مسألة إسناد بعض مهام الشرطة القضائية إلى أعوان الجمارك بعض الإشكالات الحقوقية؛ ذلك أنه من شأن هذا الإسناد أن تترتب عنه بعض المخاطر التي قد تمس الفرد في حقوقه كإجراءات التفتيش الشخصي ومعاينة المساكن ومراقبة الإرساليات البريدية، أو قد تطال حريته كحق إلقاء القبض وحق إخضاع الأظناء للحراسة النظرية. ومن هنا تنبع حساسية المهام الضبطية لبعض أعوان الجمارك وما يستتبع ذلك من إمكانية وقوع بعض التجاوزات الخطيرة في حق الأشخاص الموقوفين أو المشتبه فيهم، خاصة أن هؤلاء الأعوان يمارسون مهامهم في إطار سلطة الإدارة الجمركية الخاضعين لها وليس تحت الرقابة القضائية.
فالتوسيع من هامش السلطات الممنوحة لأعوان الجمارك وتمتيعهم بحصانة استثنائية، وتخويلهم القيام ببعض مهام الضابطة القضائية من شأنه أن يعرض حقوق الأفراد للخطر؛ وذلك نظرا لأنهم يمارسون بعضا من اختصاصهم خارج مراقبة السلطة القضائية، على عكس مصالح الشرطة القضائية التي تمارس اختصاصها وسلطاتها تحت الرقابة القضائية، بحكم التراتبية الإدارية التي تقضي بتبعية جهاز الشرطة القضائية إلى سلطة النيابة العامة باعتبارها سلطة قضائية كفل لها الدستور الجديد حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي وتطبيق القانون طبقا للفصل 117 من الدستور.
على عكس أعوان الإدارة الجمركية الذين ينتمون إلى إدارة تضطلع – في الغالب – بتنفيذ السياسة الاقتصادية والتجارية والمالية للدولة، وبالتالي فهم خاضعون للرقابة الإدارية أكثر من خضوعهم للرقابة القضائية رغم ما نصت عليه المادة 35 من المسطرة الجنائية بضرورة تطبيق المقتضيات الخاصة بمراقبة أعمال الشرطة القضائية من طرف الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف على جميع الموظفين وأعوان الإدارات والمرافق العمومية الذين تخولهم نصوص خاصة ببعض مهام الشرطة القضائية (..) إذ يلاحظ مثلا في الفصل 41-1 من مدونة الجمارك أنه يمكن لأعوان الإدارة المؤهلين لتحرير المحاضر القيام بتفتيش ومعاينة المساكن والمحلات المعدة للاستعمال المهني، بمجرد أن يأذن مدير الإدارة أو ممثله بذلك، في حين اشترطت حضور ضابط الشرطة القضائية في حال لم تتم الموافقة الصريحة لصاحب المسكن بالسماح بالتفتيش ( ب -2/41 )، في حين أن المادة 57 من المسطرة الجنائية تفرض على ضابط الشرطة القضائية التزاما واحدا قبل البدء في هذه العمليات وهو وجوب الإخبار الفوري للنيابة العامة، إنها شكلية مهمة ترمي منذ البداية إلى تأسيس رقابة قاضي النيابة العامة على أطوار البحث.
وهنا يطرح السؤال حول الشرعية الحقوقية لمهام الضبط والتفتيش والمعاينة والحجز وإلقاء القبض وغيرها من الأعمال التي تدخل في إطار البحث التمهيدي أو البحث في إطار التلبس، والتي يقوم بها أعوان الجمارك بحكم قيامهم ببعض مهام الشرطة القضائية، على الرغم من أن تكوينهم القانوني والحقوقي وممارستهم المهنية تختلف غالبا عن تلك المتوفرة عند ضباط الشرطة القضائية هذا من جهة، ومن جهة أخرى يبدو سؤال المشروعية قائما بقوة بناء على اختلاف الغايات المؤطرة لعمل الإدارتين؛ فهاجس الردع والوقاية وتحقيق العدالة يظل ذا أولوية في عمل الشرطة القضائية، بينما هاجس الربح الاقتصادي وتحقيق الغايات النفعية للإدارة يظل حاضرا في عمل الإدارة الجمركية.
وقد أحسن المشرع الجمركي صنعا بعدم منح أعوان الجمارك صفة ضباط الشرطة القضائية، ولعله بذلك يعكس رغبته في عدم جعل إدارة الجمارك خصما وحكما في الوقت نفسه، إلا أنه رجع ليأخذ بيده اليسرى ما منحه بيده اليمنى حينما أعطى للمحاضر الجمركية حجية ليس لها مثيل في المحاضر المحررة من قبل ضباط الشرطة القضائية.
لكل هذه الاعتبارات تطرح العديد من التساؤلات التي يمكن مقاربتها من منطلق الإجابة عن سؤال الإصلاح الذي نريده أن يكون مراعيا لمعادلة التوفيق بين مصلحتين متعارضتين هما: مصلحة إدارة الجمارك في حماية الأمن الاقتصادي للبلاد، ومصلحة الأفراد في عدم انتهاك حقوقهم الطبيعية والمكتسبة بقوة القانون.
تلك المعادلة التي يمكن القول بأن المشرع لم يكن موفقا إلى حد كبير في تحقيقها في كل محاولات التعديل التي قام بإدخالها على مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة والتي كان أهمها على الإطلاق تعديل 05 يونيو 2000 والذي لم يستطع "تحرير" مقتضيات المدونة من ثقل مركزية البضاعة، على حساب هامشية الإنسان، إذ بقي القانون الجمركي مكرسا لبعض المفاهيم الشاذة التي ظلت محط انتقاد من طرف الفقه القانوني والحقوقي. وبهذا أمكن القول بأن أي إصلاح تشريعي يجب ألا ينصب هدفه على حماية مصالح الدولة الاقتصادية وفقط، بل يجب أن يشمل أيضا المحافظة على حقوق الأفراد وحرياتهم؛ فالمقاربة الإصلاحية يجب أن تكون شمولية تضع في اعتبارها روح وفلسفة القواعد العامة والإطار التاريخي والحقوقي الذي جاءت فيه، ليكون هناك توازن بين مصالح الدولة ومصالح الأفراد.
وإذا كان لا أحد منا يبخس من أهمية تلك التعديلات التي طرأت على مدونة الجمارك من زاوية تأثيرها الإيجابي على حقوق الإنسان، فإنها رغم ذلك تبقى قاصرة وغير كافية؛ لأنها لم تذهب بعيدا في اتجاه تحقيق التناغم والالتفاف حول القواعد العامة للقانون الجنائي، بشكل يظهر تحيزا واضحا للدولة في حماية مواردها المالية، على حساب حقوق وحريات أشخاص مفترضة مسؤوليتهم، مما يجعل الحديث عن أهم مبدأ حقوقي تتأسس عليه كل ضمانات المحاكمة العادلة، وهو مبدأ قرينة البراءة مجرد سراب خادع.
واعتبارا لما سبق، يمكن القول، في تقييم موضوعي لما لحق مدونة الجمارك من تعديلات، إنها مجرد تعديلات ذات دلالة رمزية، أكثر مما هي تؤشر على مسار إصلاحي فعلي.
ولكن مهما كان وقع هذا الإصلاح متواضعا إلى الآن، فإنه يفتح الأفق لإصلاحات قادمة. ومن ثم، يمكن اعتباره خطوة محتشمة تمهد الطريق لخطوات أخرى أكثر جرأة، خاصة بعد انخراط المغرب في مسلسل إصلاح تشريعي شامل، وإطلاقه لمجموعة من الأوراش الهادفة إلى تحيين الترسانة القانونية الوطنية، توجت بصدور دستور جديد أرسى مجموعة من المكتسبات الحقوقية، خاصة تلك المتعلقة بالمجال الجنائي على كل مستوياته.
المداخل الممكنة نحو إصلاح المدونة الجمركية وأنسنة مقتضياتها
في خضم السياق التشريعي الوطني الموسوم بدينامية الإصلاح، يبدو القانون الجمركي ليس فقط غير مواكب له بل ومتعارض مع توجهاته الحقوقية الكبرى. صحيح أن القوانين الجمركية هي قوانين خاصة، ومن المعلوم أن كل خاص هو استثناء؛ لكن لا يمكن أن يتعارض هذا الاستثناء مع مبادئ الدستور الراعية لحقوق الإنسان، وإلا صار هذا الاستثناء مغالاة وتعديا على حقوق الأفراد وحرياتهم، إذ لا يمكن قبول هذا الشذوذ الذي يفقد القانون الجمركي مشروعيته وبالتالي شرعيته، حتى أضحى بمثابة "قانون خارج عن القانون" – إن جازت العبارة.
وبناء على ما سبق، تبدو الحاجة اليوم أكثر إلحاحا إلى لإعادة النظر من جديد في كل النصوص الاستثنائية التي لا تنسجم مع القواعد العامة المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية، ولا تنضبط لفلسفة الدستور التي تروم حماية حقوق الإنسان وتكريسها في كل القوانين الوطنية، ما دامت عجلة الإصلاح التشريعي سائرة في اتجاه المواءمة بين التشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية التي ارتقى بها المشرع الدستوري إلى منزلة تسمو على كل القوانين الداخلية.
وفي هذا الإطار وإسهاما في النقاش الدائر حول ورش الملاءمة الذي يعتبر المدخل القويم لأي إصلاح تشريعي، وفي خضم السياق الوطني الراهن الموسوم بحركية حقوقية منقطعة النظير، ارتأيت اقتراح بعض التوصيات العامة التي من شأنها أن تقوَم – إلى حد ما – شذوذ القواعد القانونية الجمركية وتعدل اختلالاتها الماسة بمبادئ العدالة، كي تجد حقوق الإنسان موقعها ضمن منظومة الزجر الجمركي. ولهذا، أقترح تعديل مقتضيات الفصل 223 بإلغاء قرينة المسؤولية المبينة على الافتراض أو على الأقل الحد من صرامتها؛ وذلك بإعطاء حائز البضاعة إمكانية الدفاع عن نفسه تكريسا لمبدأ قرينة البراءة، مع التحديد الدقيق لمفهوم الإثبات الدقيق لحالة القوة القاهرة الواردة في الفصل 224 رفعا للبس والإبهام ودفعا لكل تأويل. كما أقترح رد الاعتبار لعنصر حسن النية في دفع المسؤولية الجنائية بشكل كامل، وما يترتب عنه من الاعتداد الصريح بالركن المعنوي، حتى تستقيم عناصر التجريم في الزجر الجمركي مع قواعد الزجر العام. وأطالب أيضا المشرع الجمركي بإعادة النظر في قواعد مساءلة القاصرين والمجانين وجعلها أكثر انسجاما مع مبدأ الأهلية الجنائية، أو على الأقل منح النيابة العامة وحدها صلاحية متابعة الحدث المخالف للقوانين الجنائية الجمركية، حتى وإن كانت هذه المتابعة لا تتعدى اقتضاء الجزاء المالي فقط. وأقترح كذلك تقليص نطاق المشاركة حتى تنضبط لأصولها المنصوص عليها في القانون الجنائي، دون المغالاة في ابتداع صور أخرى لها لا يمكن تكييفها كمشاركة الفعل الأصلي.
وبخصوص مبدأ الشرعية، أرى أنه من المتعين أن يتم التخلي عن استعمال تقنيات التجريم اللائحي عن طريق السلطة التنظيمية، وحصر هذا الاختصاص على السلطة البرلمانية، انسجاما مع قاعدة ضرورة التجريم بواسطة قانون؛ بينما يعهد إلى الإدارة باختصاص التشريع في المسائل ذات الصبغة الفنية والتقنية المعقدة، في إطار التعاون بين السلط.
من جانب آخر، أرى بضرورة القطع مع الصياغة الفضفاضة والمبهمة والموغلة في التعقيد، التي ما فتئت تتكرر في العديد من مقتضيات مدونة الجمارك، لما يلحقه من غموض على الركن القانوني للجريمة الجمركية، وبالتالي تعطيل فاعلية المبدأ الراسخ القاضي بأن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص واضح المعالم دقيق الصياغة محدود التفسير.
كما أقترح، أيضا، الحد من سلطة الإدارة في الأخذ بنية المخالف عند مساءلة وتقدير الجزاء المخولتين أساسا لسلطة القضاء، لما في ذلك من خروج صارخ على قواعد الاختصاص ومساس بصلاحيات القضاء وتناف مع مبدأ شخصية العقوبة. وفي هذا الإطار، آمل أن يتم التخفيض من قيمة الغرامات الجمركية، التي تثقل كاهل المخالفين للأنظمة والقوانين الجمركية، إسوة بالمعمول به في التشريع الجمركي المصري، أو على الأقل منح القضاة صلاحية التخفيض من مبالغها دون النزول عما يعادل قيمة البضاعة محل الغش، تحقيقا لمبدأ التناسب بين الجرم والعقوبة، ومن جهة أخرى ضمان الفورية والنجاعة في التحصيل دون اللجوء إلى الإكراه البدني، هذا الإجراء الذي تثور حوله الكثير من الانتقادات نظرا لطول مدده، ففي الوقت الذي يميل فيه قانون المسطرة الجنائية إلى التقليص من تلك المدد كخطوة تدريجية في أفق إلغائه، تماشيا مع الاتجاه العام في الاتفاقيات الدولية، تأتي مدونة الجمارك بمدد خيالية تتراوح بين شهر كحد أدنى وسنتين كحد أقصى.
وعلى مستوى الإثبات، أرى أنه من الصائب الاحتفاظ بقوة المحاضر الإثباتية لما يشوب ظروف تحريرها من صعوبات؛ لكن دون أن تتعدى حجيتها مستوى الدليل القابل لإثبات العكس، وليس إلى غاية الطعن بالتزوير. وبذلك يسترجع القاضي قسطا من سلطته التقديرية، وبالتالي تمكين المتهم من الدفاع عن نفسه عن طريق إثبات العكس، مع ضرورة التخفيف من صرامة وحدة مسطرة الطعن في الزور.
كما أرى ضرورة خلق أعوان جمركيين مكلفين بإثبات المخالفات والجنح الجمركية المرتبكة من طرف الأحداث على غرار ما هو معمول به في قانون المسطرة الجنائية، وهذا يدفعني إلى اقتراح إحداث قضاء جمركي متخصص ومؤهل في المنازعات الجمركية، تلافيا لضغط الدعاوى الجمركية على القضاء العادي، ووضع حد لمزاحمة الإدارة للقضاء في الدعوى الجمركية وما يتخللها من امتيازات تحظى بها إدارة الجمارك بعلة الطابع الخاص والمعقد للجريمة الجمركية.
وفي هذا السياق، أقترح أن يتم تدريس المادة الجمركية في المعهد العالي للقضاء، لتمكين القضاة من ممارسة مهامهم في حماية الأمن القضائي للأفراد، إذ يمكن في مقبل الأيام أن تتسع صلاحياتهم أكثر في المنازعة الجمركية، فيجبرون على التكيف مع معطيات المادة الجمركية وخصوصياتها القانونية والتقنية، مما يتطلب منهم إلماما قانونيا وتقنيا في أن واحد.
كما أرى بضرورة إخضاع كل إجراءات الضبط والتثبت التي يقوم بها أعوان الجمارك للرقابة القضائية إسوة بالتشريعات المقارنة التي أتيت على ذكرها في هذه الدراسة؛ وذلك حماية لحقوق الأفراد وصون كرامتهم وحرياتهم، ولا يتأتى ذلك إلا عبر تقوية دور القضاء في كل مراحل المتابعة التي يباشرها أعوان الجمارك في حق الأظناء. ونظرا لمركزية العون الجمركي في عملية الضبط والإثبات الجمركي، فإنه لا بد من إخضاعه لدورات تكوينية وتأطيرية في مجال حقوق الإنسان، خاصة ما يتعلق بالحقوق الواجب احترامها أثناء إجراءات البحث التمهيدي.
من جهة أخرى، أرى أنه يتعين على القضاء أن يضطلع بدوره الطبيعي في المادة الجمركية، وألا يتستر من وراء مقولة الطابع التقني لهذه المادة التي تجعل من الإدارة صاحبة الاختصاص الفريد في هذا المجال بالنظر إلى قدرتها –حصرا- على التحكم وضبط آلياته؛ فالأمر هو أكثر تعقيدا من ذلك، لأن إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة وفي معرض حمايتها لمصالح الخزينة قد تنسى أو تغفل المبادئ الأساسية للقانون وخصوصا العدالة الجنائية الموكول أمر تطبيقها للجهاز القضائي. وهنا يجد تدخل القضاء مبرراته، إذ يقوم بتنبيه الإدارة إلى ضرورة الالتزام بتلك المبادئ. وهذا يجرنا للحديث عن دور الاجتهاد القضائي في تفسير المقتضيات الجمركية. وهنا أقترح أن يضطلع القضاء بأدواره الدستورية والفقهية، وأن يتحلى بالجرأة في تفسير المقتضيات الزجرية الخاصة بالمادة الجمركية، فيجب عليه ألا يعتبر منذ البداية بأن التفسير المعتمد من طرف الإدارة هو التفسير الصحيح، وأنه كاف لإدانة الظنين تلقائيا.
وتماشيا مع تعزيز دور القضاء في الدعوى الجمركية، أقترح أن يعيد المشرع النظر في المقتضيات القانونية المنظمة للمصالحة الجمركية، ويضع لها ضوابط واضحة وفق نصوص صريحة، تضمن لنا رقابة قانونية على كافة مراحل إجراء المصالحة الجمركية، مع رد الاعتبار إلى القضاء من أجل ضمان حقوق الأفراد في مواجهة الإدارة قبل وبعد التصالح.
وأرى أنه من الملائم أن ينص المشرع على اشتراط موافقة القضاء من أجل إبرام المصالحة، في الحالة التي تكون فيها القضية موضوع المصالحة مثارة أمام القضاء، أو حتى بعد صيرورة الحكم نهائيا، فيجب ألا يترك هذا الحق مطلقا لإدارة الجمارك، كي لا يطغى الهاجس الربحي على مبادئ العدالة، وبالتالي أقترح أن يتدخل القضاء في مراقبة وضبط سلطة الملاءمة المخولة للإدارة في إجراء التصالح من عدمه، بالإضافة إلى انفراده بتقدير مبلغ التصالح بشكل يتوافق مع ظروف المتصالح ويتناسب مع استطاعته.
فلا معنى للمصالحة إذا لم توضع ضوابط تحتكم إليها الإدارة في تعاملها مع من يتصالح معها، وإلا تحولت عن مقصدها الأول وهو التخفيف عن القضاء، لتصبح قضاء موازيا مع ما قد يترتب عن هذا الانحراف من آثار خطيرة تنعكس سلبا على كل الأطراف بدرجة متفاوتة.
مسألة أخرى في غاية الأهمية وتتعلق بمسؤولية الإدارة الجمركية عن أعمال الحجز والحفظ وفقا لمقتضيات الفصلين 235 و236 من مدونة الجمارك، فإن كان الفصل 232 قد أقر بمسؤولية الإدارة عن وقوع النصر الضرر الناتج بشكل مباشر عن خطأ فادح للإدارة أو احد أعوانها، وفي هذا انسجام مع القواعد العامة المقررة للمسؤولية الإدارية عن الخطأ الجسيم، وكذا مع المبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة وكذا قياسا على الإقرار الدستوري بحق المتضرر في التعويض عن الخطأ القضائي، فالأولى أن يقع التعويض عن الضرر الناتج عن أخطاء الإدارة، فإن خضوع تقدير مبلغ التعويض لسلطة الإدارة فيه حيف في حق المتضرر، واعتداء على اختصاص القضاء في تقدير الضرر واحتساب مبلغ التعويض؛ فالقاعدة تقتضي أن يخضع التعويض للسلطة التقديرية للمحكمة تبعا لمقدار الضرر لحاصل. وهنا أقترح إطلاق يد القضاء في تقدير الضرر واحتساب جزاء التعويض الملائم بناء على حجم الضرر، عوض المقدار الذي احتسبته الإدارة على أساس فائدة قدرها (1%) عن الشهر من قيمة الأشياء المحجوزة أو المحفوظة من تاريخ الحجز أو الحفظ إلى تاريخ السماح بالاستلام.
وإجمالا يمكن القول، بأنه على الرغم من توفر المشرع المغربي على سياسة جنائية في المجال الجمركي، تظهر من خلال الترسانة القانونية والتنظيمية القوية الموضوعة رهن إشارة إدارة الجمارك وباقي المتدخلين، قصد مواجهة الجرائم الجمركية وحماية السياسة الاقتصادية للدولة، فإنه لم يتم التغلب على مظاهر الجريمة الجمركية، التي أصبحت أكثر استفحالا في الآونة الأخيرة؛ ما يثير السؤال حول الجدوى من وراء تشدد مقتضيات الزجر الجمركي وشذوذها عن القواعد العامة ومبادئ حقوق الإنسان، إن كانت هذه المنظومة عاجزة عن تحقيق النجاعة والردع؟ قد تكون ضريبة هذا الشذوذ الذي يضع مبادئ العدالة على محك التجاوز في القانون الجمركي محل تفهم وتبرير إن حقق هذا الأخير الفعالية والنجاعة المرجوة منه في مواجهة الجريمة الجمركية وحصر امتداداتها. أما أن تتم التضحية بحقوق الأفراد وحرياتهم المكفولة دستوريا، في مقابل إخفاق منظومة الزجر الجمركي في تحقيق أهداف السياسة الجنائية الجمركية، فهذا ما لا يمكن قبوله.
وما يعزز هذا الطرح هو ما أوردته النشرة الاقتصادية للغرفة التجارية لسبتة المحتلة حول حجم صادرات التهريب الموجهة من هذه المدينة نحو المغرب سنة 2001 والتي بلغت ما يناهز المليار أورو، وهو الرقم نفسه المسجل سنة 2002.
علاوة على ذلك، هناك مؤشرات رقمية أوردها التقرير السنوي الصادر عن إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة برسم سنة 2014 والذي تحدث عن ارتفاع عدد قضايا المنازعات المسجلة خلال سنة 2014، حيث بلغت 32329 قضية مقابل 30366 مسجلة في سنة 2013، أي بارتفاع بنسبة 6.5% وتمثل قضايا التفتيش 51.3% من مجموع هذه القضايا وذلك بارتفاع نسبته 8.2% مقارنة بسنة 2013. وقد سجلت المديريات الجهوية الثلاث الخاصة بجهة الشمال مجتمعة (الشمال الغربي وطنجة المتوسط والشمال الشرقي) نسبة 38.6% من عدد القضايا المثبتة على الصعيد الوطني، ودلالة هذا الجمع بين مديريات القطاع الشمالي هي ما تحظى به هذه المنطقة من خصوصية تميزها عن باقي المناطق باعتبارها تسجل ارتفاعا مطردا لأنشطة الغش والتهريب بالمقارنة مع باقي مناطق المملكة الأخرى.
ولئن كانت هذه الأرقام تعكس في جانب منها حجم المجهودات الكبيرة التي تبذلها إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة في التصدي ومحاربة كل أشكال التهريب والغش الجمركيين والأنشطة المخالفة للقوانين الجمركية، فإنها أيضا تعكس في جانبها الآخر مدى محدودية منظومة الزجر الجمركي وعدم قدرة ترسانتها القانونية على زجر وردع المخالفين. وهذا ما يرصده التقرير السنوي- السابق ذكره- الذي يشير إلى ارتفاع كبير في عدد البضائع المزيفة التي تم حجزها في سنة 2014 مقارنة بسنة 2013، إذ بلغت أكثر من 7.3 ملايين وحدة مقابل 3.3 مليون وحدة سنة 2013. كما بلغ الحجم الإجمالي للسجائر المحجوزة خلال سنة 2014 ما يناهز 25.4 ملايين وحدة مقابل 19.9 ملايين وحدة سنة 2013، كما بلغت قيمة البضائع المهربة المصادرة ما مجموعه 552.6 ملايين درهم مقابل 454.6 ملايين درهم في سنة 2013.
صحيح أن هذه الأرقام قد تظهر مدى يقظة الأعوان الجمركيين وقدرة الإدارة الجمركية على ضبط ومواجهة الجريمة الجمركية؛ لكنها بالمقابل تظهر عجزا ملموسا للمنظومة الزجرية الجمركية على الوقاية من الجريمة الجمركية وردع مرتكبيها، بالرغم مما أضفاه المشرع الجمركي على هذه المنظومة من طابع سيادي يتجاوز مبادئ الشرعية إلى تحقيق مبدأ الربحية.
على صعيد آخر، فإني أرى أن المسار الحقوقي للمغرب على مستوى الإصلاح التشريعي يسير – للأسف – بسرعتين؛ فالمنظومة القانونية الجمركية لا توافق التوجهات التشريعية الجديدة التي انتهجها المغرب مؤخرا، بحيث بقيت نصوصها حصنا منيعا على الاختراق الإصلاحي بأي تعديل قد يطال جوهر الزجر فيها، بل فقط جل التعديلات الملحقة بالمدونة تقتصر على الجوانب الفنية والتقنية لحركة البضائع والأنظمة الاقتصادية الجمركية وعمليات الاستيراد والتصدير، دون أن تلامس بواطن الزجر داخلها والتي ظلت تنافي مبادئ العدالة وحقوق الإنسان.
وأطرح هنا تساؤلات حول ما إذا كان لدى المغرب الساعي إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الاستعداد الكافي والقدرة اللازمة على استيعاب التشريعات الجمركية الأوروبية؟ ولا أتحدث هنا عن الشق الاقتصادي والفني والتجاري لتلك التشريعات، بل أتحدث عن استعداد المنظومة الزجرية الجمركية المغربية لاستيعاب نظيراتها الأوروبية التي تقترب أكثر من تكريس مبادئ حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها كونيا. بعبارة أخرى، هل المغرب مستعد لضبط ترسانته الجمركية حتى تكون لها قابلية الخضوع لأحكام المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان – باعتبارها أعلى هيئة قضائية فوق وطنية تسهر على احترام الدول الأوروبية لحقوق الإنسان – إن هي أقرت أحكاما تخالف توجهات السياسة الجمركية للدولة؟
(*) إطار بوزارة العدل وباحث في القانون الجمركي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.