جاء في ترجمة الإمام القاضي أبي يوسف من كتاب " الانتقاء " للحافظ ابن عبد البر الأندلسي الآتي: «كَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُوَثِّقُهُ، وَأَمَّا سَائِرُ أَهْلِ الحَدِيثِ فَهُمْ كَالأَعْدَاءِ لأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ». ويقصد ابن عبد البر المحدثين الذين كانوا معاصرين لأبي حنيفة وسائر من بعدهم إلى نهاية القرن الثالث الهجري، لأن المدرسة الحديثية بعد ذلك اكتشفت أن سلفها كانوا حاقدين على الحنفية متعصبين فتخلّت عن ذلك، ليصبح أبو حنيفة وأصحابه مقدّرين معظمين. والحافظ البخاري المتوفى عام 256 هجرية، نشأ في ظل حنَق المدرسة الحديثية على الحنفية، فتشرّب التحامل عليها من بعض شيوخه المفرطين في الموقف من الإمام الأعظم، لذلك وجدنا البخاري يطعن عقيدة أبي حنيفة ويحتقر فقهه وعلمه الديني، وهو الذي لم يدركه ولا قرأ كتبه، بل قضى وحكم استنادا إلى شهادات مذهبية متعصبة. وإذا كنا في المقال السابق قد شرحنا الموقف العدواني للبخاري من أبي حنيفة، فإننا نعرض في هذا الجزء تجنّيه الواضح المكشوف من كبار أصحاب أبي حنيفة ومشاهير تلامذته وحمَلة فكره وعلمه. تضعيف القاضي أبي يوسف كبير أصحاب أبي حنيفة بعد أبي حنيفة، انتقل البخاري للطعن في كبير تلامذته القاضي الكبير أبي يوسف رحمه الله زاعما أنه متروك، أي أن الرواة والمحدثين تركوا التلمذة عليه والرواية عنه. وفي الضعفاء، ألمح إلى اتهامه بالكذب استنادا إلى حكاية لا إسناد لها منسوبة إلى النعمان أبي حنيفة الذي سبق للبخاري تضعيفه، فهي عن ضعيف في حكم البخاري وبدون إسناد. وهذا التساهل لا تفسير له إلا التحامل والتعصب الشديد والمذهبية الضيقة. قال البخاري في التاريخ الكبير (8/397): يعقوب بْن إِبْرَاهِيم أَبُو يوسف القاضي سَمِعَ الشيباني وصاحبه أَبُو حنيفة تركوه. وفي الضعفاء الصغير (ص: 142): يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف القاضي: سمع الشيباني: تركه يحيى وعبد الرحمن ووكيع وغيرهم، حُكي لنا عن النعمان قال: ألا يعجبون من يعقوب يقول علي ما لا أقول. ه ولننظر الآن ترجمة القاضي أبي يوسف عند غير البخاري لنقف على حجم التعتيم الذي مارسه: في تذكرة الحفاظ للذهبي (1/214) ت 273: القاضي أبو يوسف الإمام العلامة فقيه العراقين يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهما: سمع هشام بن عروة وأبا إسحاق الشيباني وعطاء بن السائب وطبقتهم. وعنه محمد بن الحسن الفقيه وأحمد بن حنبل وبشر بن الوليد ويحيى بن معين وعلي بن الجعد وعلي بن مسلم الطوسي وعمرو بن أبي عمرو وخلق سواهم، نشأ في طلب العلم، وكان أبوه فقيرا، فكان أبو حنيفة يتعاهد يعقوب بمائة بعد مائة وقال المزني: أبو يوسف أتبع القوم للحديث. وقال يحيى بن يحيى التميمي: سمعت أبا يوسف يقول عند وفاته: كل ما أفتيت به فقد رجعت عنه إلا ما وافق الكتاب والسنة، وفي لفظ: إلا ما في القرآن واجتمع عليه المسلمون. وروى أبو إسحاق إبراهيم بن أبي داود البرلسي عن يحيى بن معين قال: ليس في أصحاب الرأي أكثر حديثا ولا أثبت من أبي يوسف. وقال علي بن الجعد: سمعت أبا يوسف يقول: من قال إيماني كإيمان جبريل فهو صاحب بدعة. قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: من طلب غرائب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء افتقر، ومن طلب الدين بالكلام تزندق. وروى عباس عن ابن معين قال: أبو يوسف صاحب حديث وصاحب سنة. وقال ابن سماعة: كان أبو يوسف يصلي بعد ما ولي القضاء في كل يوم مائتي ركعة. وقال أحمد: كان مصنفا في الحديث. وقال الفلاس صدوق كثير الغلط. مات في ربيع الآخر سنة ثنتين وثمانين ومائة عن سبعين سنة إلا سنة. وله أخبار. ثم ترجمه الذهبي في مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه (ص: 57)، ومما جاء فيه: ثَنَاءُ الأَئِمَّةِ عَلَى أَبِي يُوسُفَ: ذَكَرَ أَسَدُ بْنُ الْفُرَاتِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: " مَرِضَ أَبُو يُوسُفَ، فَعَادَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، فَلَمَّا خَرَجَ، قَالَ: إِنْ يَمُتْ هَذَا الْفَتَى فَهُوَ أَعْلَمُ مَنْ عَلَيْهَا، وَأَوْمَأَ إِلَى الأَرْضِ " عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ، سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، يَقُولُ: " أَوَّلُ مَا كَتَبْتُ الْحَدِيثَ اخْتَلَفْتُ إِلَى أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي، فَكَتَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ اخْتَلَفْتُ بَعْدُ إِلَى النَّاسِ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ أَمْيَل إِلَيْنَا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ " إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ الْبُرُلُّسِيُّ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ، يَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ فِي أَصْحَابِ الرَّأْيِ أَثْبَتَ فِي الْحَدِيثِ وَلا أَحْفَظَ، وَلا أَصَحَّ رِوَايَةً مِنْ أَبِي يُوسُفَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ صَدُوقٌ غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِهِ مَا فِي حَدِيثِ الْمَشَايِخِ يَعْنِي مِنَ الْغَلَطِ» عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ، سَمِعْتُ ابْنَ مَعِينٍ، يَقُولُ: «أَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ حَدِيثٍ، صَاحِبُ سُنَّةٍ» مُحَمَّدُ بْنُ سَمَاعَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: «قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو يُوسُفَ وَأَقَلُّ مَا فِيهِ الْفِقْهُ، وَقَدْ مَلأَ بِفِقْهِهِ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ» بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ، سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ، يَقُولُ: " سَأَلَنِي الأَعْمَشُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَبْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ لِي: مِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا؟ قُلْتُ: لِحَدِيثٍ حَدَّثْتَنَاهُ أَنْتَ، فَقَالَ: يَا يَعْقُوبُ، إِنِّي لأَحْفَظُ هَذَا الْحَدِيثَ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَ أَبَوَاكَ، فَمَا عَرِفْتُ تَأْوِيلَهُ إِلا الآنَ " ابْنُ الثَّلْجِيِّ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيَّ، يَقُولُ: «كَانَ أَبُو يُوسُفَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى الْفِقْهِ، أَوِ الْعِلْمِ اطِّلاعًا يَتَنَاوَلُهُ كَيْفَ يَشَاءُ» عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، قَالَ: «مَا أُحِبُّ أَنْ أَرْوِيَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، إِلا عَنْ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ كَانَ صَاحِبَ سُنَّةٍ» عَبَّاسٌ، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ، يَقُولُ: «كَانَ أَبُو يُوسُفَ يُحِبُّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ وَيَمِيلِ إِلَيْهِمْ» عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْمَدِينِيُّ، سَمِعْتُ أَبِي، يَقُولُ: " كُنَّا نَأْتِي أَبَا يُوسُفَ لَمَّا قَدِمَ الْبَصْرَةَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، فَكَانَ يُحَدِّثُ بِعَشْرَةِ أَحَادِيثَ وَعَشْرَةِ آرَاءٍ وَأَرَاهُ، قال: مَا أَجِدُ عَلَى أَبِي يُوسُفَ إِلا حَدِيثَهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي الْحَجْرِ، وَكَانَ صَدُوقًا " قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ وَذَكَرَ أَبَا يُوسُفَ، فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَقَالَ أَبُو عَبْدُ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ: تَرَكُوهُ، وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْفَلاسُ: صَدُوقٌ كَثِيرُ الْغَلَطِ، قُلْتُ: وَلِقَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ أَخْبَارٌ فِي السُّؤْدُدِ وَالْكَرَمِ، وَالْمُرُوءَةِ، وَالْجَاهِ الْعَرِيضِ، وَالْحُرْمَةِ التَّامَةِ فِي الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ، وَأَخْبَارٌ فِي الْحَطِّ عَلَيْهِ بَعْضُهَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَوْرَدَهَا الْعُقَيْلِيُّ، وَابْنُ ثَابِتٍ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ وَغَيْرُهُمَا. ه قلت: نخرج من هذه الترجمة بأن القاضي ليس متروكا كما ادعى البخاري، فقد أخذ عنه ابن حنبل وابن معين وابن المديني... فكفاه ذلك فخرا وشرفا. وأما أبو حنيفة، فإنه أثنى عليه ثناء شديدا. وقد وصل الرجل من العلم والفقه مبلغا عظيما. ومن حقنا أن نسأل مرة ثانية: لماذا يكتفي البخاري بإيراد الروايات التي تؤيد تحامله على الحنفية ويسكت عن شهادات المادحين والموثقين؟ وهل يكون مثله في هذه الصنعة موثوقا مأمونا؟ الله يعلم كم راويا ضعفه البخاري تحاملا وتعصبا، وكم راويا وثقه مذهبية وتحزبا. تحاشي الترجمة لأصحاب أبي حنيفة من السلوكات المستهجنة والتصرفات المستقبحة أن يتعمّد البخاري الترجمة لبعض كبار أصحاب أبي حنيفة المعروفين بالعلم والفقه والرواية، في الوقت الذي ترجم للمجاهيل والمفاريد والمعاتيه. إن هذا الفعلَ المتعمّد، يشرح مدى الحقد والحنق الدفينين في نفسية البخاري نحو الحنفية، فهو يترجم لأبي حنيفة وكبير أصحابه القاضي أبي يوسف، ويضعفهما استنادا إلى الرأي مرة، وإلى تجريح تاب منه أصحابه مرة، وإلى شهادات قادحة لم تصح أسانيدها مرة، ثم يتجاهل أصحابه الكبار الآخرين فلا ذكر لهم في كتبه التاريخية. نذكر منهم هؤلاء الأعلام المشاهير: أولا: محمد بن الحسن الشيباني: في تاريخ الإسلام ت بشار (4/954): محمد بن الحَسَن بن فرقد الشَّيْبانيّ مولاهم الكوفيُّ الفقيه العلامة، مفتي العراقين، أبو عبد الله، [الوفاة: 181 – 190 ه] أحد الأعلام. قيل: أصله من حَرَسْتا من غُوطة دمشق، ومولده بواسِط، ثمّ إنّه نشأ بالكوفة. سَمِعَ أبا حنيفة، وأخذ عنه بعضَ كُتُب الفقْه، وَسَمِعَ: مسْعرًا، ومالك بن مِغْوَلٍ، والأوزاعي، ومالك بن أنس، ولزِم القاضي أبا يوسف، وتفقه به، أَخَذَ عَنْهُ: الشافعي، وأبو عبيد، وهشام بن عبيد الله، وعلي بن مسلم الطوسي، وعمرو بن أبي عمرو الحراني، وأحمد بن حفص البخاري، وخلق سواهم. وقد أفردت له ترجمة حسنة في جزء. قال ابن سعد: أصله من الجزيرة، وسكن أبوه الشام، ثم قدم واسطا فولد له بها محمد في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وسمع الكثير، ونظر في الرأي، وغلب عليه، وسكن بغداد، واختلف النّاس إليه فسمعوا منه. وقال آخر: وُلّي محمد بن الحَسَن القضاء للرشيد بعد القاضي أبي يوسف، وكان إمامًا مجتهدًا من الأذكياء الفُصَحاء. قال أبو عُبَيْد: ما رأيت أعلم بكتاب الله منه. وقال الشافعي: لو أشاء أن أقول: نزل القرآن بلغة محمد بن الحَسَن لقلتُ لفصاحتِه، وقد حملتُ عنه وقْر بُخْتِيّ كُتُبًا. وعن الشّافعيّ قال: ما ناظرتُ سمينًا أذكى من محمد، وناظرتُه مرّةً فاشتدّت مناظرتي له، فجعلتْ أوداجُه تنتفخ، وأزراره تتقطّع زِرًّا زِرًّا. قال الشّافعيّ: قال محمد بن الحَسَن: أقمتُ عند مالك ثلاث سنين وكسْرًا، وسمعت من لفظه سبعمائة حديث. وقال يحيى بن مَعِين: كتبت الجامع الصغير عن محمد بن الحَسَن. وقال: إبراهيم الحربيّ: قلت لأحمد بن حنبل: من أين لك هذه المسائل الدّقاق؟ قال: من كُتُب محمد بن الحَسَن. وقال عَمرو بن أبي عَمْرو الحرّانيّ: قال محمد بن الحَسَن: خلّف أبي ثلاثين ألف دِرهم، فأنفقت على النَّحْو والشّعر خمسة عشرَ ألفًا، وأنفقت على الحديث والفِقه خمسة عشر ألفًا. وقال ابن عَدِيّ في كامله: سمع محمد الموطأ من مالك. وقال إسماعيل بن حمّاد: قال محمد بن الحَسَن: بلغني أن داود الطّائيّ كان يسأل عنّي وعن حالي، ويقول: إنْ عاش فسيكون له شأن. وعن الشّافعيّ قال: ما ناظرتُ أحدا إلا تمعر وجهه، ما خلا محمد بن الحَسَن. قال أحمد بن أبي سُرَيْج: سمعتُ الشّافعيّ يقول: أنفقتُ عَلَى كُتُب محمد بْن الحَسَن ستين دينارًا، ثمّ تدبرتُها فوضعت إلى جَنْب كلّ مسألة حديثًا. وقال محمد بن الحَسَن فيما سمعه منه محمد بن سَمَاعة: هذا الكتاب، يعني كتاب "الْحِيَلَ" ليس من كُتُبنا، إنما أُلقي فيها. قال أحمد بن أبي عِمران: إنّما وضعه إسماعيل بن حمّاد بن أبي حنيفة. الطحاوي: حدثنا يونس قال: قال الشّافعيّ: كان محمد بن الحسن إذا قعد للمناظرة والفقه أقعد معه حَكَمًا بينه وبين مَن يناظره، فيقول لهذا: زدت، ولهذا: نقصت. أبو حازم القاضي، عن بكر بن محمد العَمّيّ، عن محمد بن سَمَاعة قال: كان سبب مخالطة محمد بن الحَسَن السلطانَ أنّ أبا يوسف القاضي شوور في رجل يُولّي قضاء الرَّقَّةِ، فقال: يصلحُ محمد بن الحَسَن، فأشخصوه، فلمّا قدِم جاء إلى أبي يوسف، فدخل به على يحيى بن خالد، فولّوه قضاء الرَّقَّةِ. قلت: قد احتجّ بمحمدٍ أبو عبد الله الشّافعيّ. وقال الدَّارَقُطْنيّ: لا يستحق محمد عندي التَّرْكَ. وقال النَّسائيّ: حديثه ضعيف، يعني من قبل حِفْظه. وقال حنبل: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: كان أبو يوسف منصفًا في الحديث، وأما محمد فكان مخالفًا للأثر، يعني يخالف الأحاديث، ويأخذ بعموم القرآن. وقد كان رحمه الله تعالى آية في الذكاء، ذا عقل تام، وسؤدد، وكثرة تلاوة للقرآن، فحكى أحمد بن أبي عمران قاضي مصر، عن بعض أصحاب محمد بن الحَسَن: أنّ محمدًا كان حزبه في كل يوم وليلة ثلث القرآن. وقال أبو حازم القاضي: سمعتُ بكرًا العمّيّ يقول: إنما أخذ ابن سَمَاعة، وعيسى بن أبان حُسَن الصّلاة من محمد بن الحسن. وقال علي بن معبد: حدَّثني الرجل الرّازيّ الذي مات محمد بن الحَسَن في بيته قال: حضرتُهُ وهو يموت فبكى، فقلت له: أتبكي مع العِلم؟ فقال لي: أرأيت إنّ أوقفني الله تعالى، وقال: يا محمد ما أقدمك الري؟ ألجهادُ في سبيلي؟ أم لابتغاء مرضاتي؟ ماذا أقول؟ وقال أحمد بن محمد بن أبي رجاء: سمعتُ أبي يقول: رأيت محمد بن الحَسَن في النوم، فقلت: إلى ما صرْتَ؟ قال: غُفِر لي، قلتُ: بم؟ قال: قيل لي لم نجعل هذا العِلْم فيك وإلا نحن نغفر لك. قلت: تُوُفّي إلى رضوان الله في سنة تسعٍ وثمانين ومائة. ه هذا هو الإمام محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ مالك وشيخ الشافعي، الذي تجاهله البخاري تعصبا وتحقيرا بسبب الرأي قطعا، فإنه يعرفه ويتهمه في دينه حيث قال في خلق أفعال العباد (ص: 36): وَحَذَّرَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الْجَهْمِيَّةِ وَقَالَ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى عَلَى خِلَافِ مَا يَقِرُّ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جَهْمِيٌّ»، وَمُحَمَّدٌ الشَّيْبَانِيُّ جَهْمِيٌّ. ه هكذا هو البخاري المتحامل، يطعن عقيدة الشيباني ويتهمه بالضلال والابتداع بناء على جملة طائشة قالها يزيد بن هارون. وجملة: «وَمُحَمَّدٌ الشَّيْبَانِيُّ جَهْمِيٌّ» تعليق من البخاري على مقولة يزيد بن هارون ذلك أن عبد الله بن أحمد قال في السنة (1/123): حَدَّثَنِي عَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا شَاذُّ بْنُ يَحْيَى، سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَقِيلَ، لَهُ: مَنِ الْجَهْمِيَّةُ؟ فَقَالَ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى عَلَى خِلَافِ مَا يَقِرُّ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جَهْمِيُّ». ولست أدري لماذا جعل البخاري الشيباني جهميا، وهو الذي شهد له الموافقون والمخالفون بلزوم الحديث والسنة والأثر. ومن عجائب القدر أن البخاري نُسب للجهمية زورا كما فعل هو بمحمد الشيباني، وامتحن في ذلك لأنه حكيت عنه مقولة: لفظي هذا بالقرآن مخلوق. وفي سير أعلام النبلاء ط الرسالة للذهبي (11/290) عن أَحْمَد الدَّوْرَقِيّ: قُلْتُ لأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ: مَا تَقُوْلُ فِي هَؤُلاَءِ الَّذِيْنَ يَقُوْلُوْنَ: لَفْظي بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ؟ فَرَأَيْتُه اسْتَوَى، وَاجْتَمَعَ، وَقَالَ: هَذَا شرٌّ مِنْ قَوْلِ الجَهْمِيَّةِ. مَنْ زَعَمَ هَذَا، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ جِبْرِيْلَ تَكَلَّمَ بِمَخْلُوْقٍ، وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَخْلُوْقٍ. ه وبناء على مذهب أحمد وسائر المحدثين، فإن أبا حاتم وأبا زرعة الرازيين تركا حديث البخاري –وكانا سمعا منه- عندما كتب إليهما محمد بن يحيى النيسابوري الذهلي أنه أظهر عندهم أن لفظه بالقرآن مخلوق". وفي تاريخ بغداد ط العلمية (2/30) بالإسناد إلى محمد بن يحيى: من زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهذا مبتدع لا يجالس ولا يكلم، ومن ذهب بعد مجلسنا هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه. ه وقد حاول البخاري التنصل من التهمة التي لصقت به جزاء وفاقا لإرساله التهم بالإرجاء والجهمية في حق أبي حنيفة وتلامذته تقليدا واغترارا. ولم أجد للشيباني ذكرا في كتب البخاري إلا في هذا الموضع مقرونا بتهمة الجهمية دون دليل. نعم، هو من جملة الذين احتقرهم باستعمال عبارة (وقال بعض الناس) في صحيحه، حيث تحاشى اسمه تعصبا وضيق نفس. جاء في عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني (24/267) تعليقا على موضع (وَقَالَ بَعْضُ النّاسِ: لَا بُدَّ لِلْحاكِمِ مِنْ مُتَرْجِمَيْنِ): قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ مغلطاي الْمصْرِيّ: كَأَنَّهُ يُرِيد بِبَعْض النَّاس الشَّافِعِي، وَهُوَ رد لقَوْل من قَالَ: إِن البُخَارِيّ إِذا قَالَ: بعض النَّاس، أَرَادَ بِهِ أَبَا حنيفَة، ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: أَقُول غرضهم بذلك غَالب الْأَمر أَو فِي مَوضِع تشنيع عَلَيْهِ وقبح الْحَال، أَو أَرَادَ بِهِ هَاهُنَا أَيْضا بعض الْحَنَفِيَّة، لِأَن مُحَمَّد بن الْحسن قَالَ بِأَنَّهُ لَا بُد من اثْنَيْنِ، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَن الشَّافِعِيَّة أَيْضا قَائِل بِهِ، لَكِن لم يكن مَقْصُودا بِالذَّاتِ انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بِبَعْض النَّاس مُحَمَّد بن الْحسن فَإِنَّمَا الَّذِي اشْترط أَنه لَا بُد فِي التَّرْجَمَة من اثْنَيْنِ، ونزلها منزلَة الشَّهَادَة. وَوَافَقَهُ الشَّافِعِي فَتعلق بذلك مغلطاي، فَقَالَ: فِيهِ رد لقَوْل من قَالَ: إِن البُخَارِيّ ... الخ. قلت: سُبْحَانَ الله مَا هَذَا التعصب الْبَاطِل حَتَّى يوقعوا بِهِ أنفسهم فِي الْمَحْذُور فمآله لكرماني الَّذِي طرح جِلْبَاب الْحيَاء وَبقول أَو فِي مَوضِع تشنيع عَلَيْهِ وقبح الْحَال وَمَا التشنيع وقبح الْحَال، إِلَّا على من يتَكَلَّم فِي الْأَئِمَّة الْكِبَار الَّذين سَبَقُوهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَقُوَّة الدّين وَكَثْرَة الْعلم وَشدَّة الْوَرع والقرب من زمن النَّبِي وَمَعَ هَذَا فالكرماني مَا جزم بِأَن مُرَاد البُخَارِيّ بِبَعْض النَّاس أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن لِأَنَّهُ ردد فِي كَلَامه، وَالْعجب من بَعضهم الَّذِي جزم بِأَن المُرَاد بِهِ مُحَمَّد بن الْحسن، فهروبهم عَن المُرَاد بِهِ الشَّافِعِي مثل مَا ذكره الشَّيْخ عَلَاء الدّين مغلطاي، لماذا وَالْحَال أَن المُرَاد لَو كَانَ الشَّافِعِي لما يلْزم بِهِ النَّقْص للشَّافِعِيّ وَلَا ينقص من جلالة قدره شَيْء، على أَن البُخَارِيّ لَا يراع الشَّافِعِي قطّ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه مَا روى عَنهُ قطّ فِي جَامعه الصَّحِيح وَلَو كَانَ يعْتَرف بِهِ لروى عَنهُ كَمَا روى عَن الإِمَام مَالك جملَة مستكثرة، وَكَذَلِكَ روى عَن أَحْمد بن حَنْبَل فِي آخر الْمَغَازِي فِي مُسْند بُرَيْدَة أَنه: غزا مَعَ النَّبِي سِتّ عشرَة غَزْوَة، وَقَالَ فِي كتاب الصَّدقَات: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ حَدثنَا أبي حَدثنَا ثُمَامَة ... الحَدِيث، ثمَّ قَالَ عَقِيبه: وَزَادَنِي أَحْمد بن حَنْبَل عَن مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، وَقَالَ فِي كتاب النِّكَاح: قَالَ لنا أَحْمد بن حَنْبَل. ه قلت: بل البخاري ذكر الشافعي باسم ابن إدريس كما تقدم، وترجمه في تاريخه الكبير ولم يتنقصه أبدا، وهو معدود في طبقات الشافعية، فالمقصود في هذا الموضع هو محمد بن الحسن الشيباني جريا على عادة البخاري في تحقير الحنفية وتجهيلهم لأنهم ضالون مبتدعة مرجئة وجهمية في نظره. ثانيا: زفر بن الهذيل العنبري أبو الهذيل (ت158): في الطبقات الكبرى ط العلمية (6/361) لابن سعد: زفر بن الهذيل العنبري من أنفسهم. ويكنى أبا الهذيل. وكان قد سمع الحديث ونظر في الرأي فغلب عليه ونسب إليه. ومات بالبصرة وأوصى إلى خالد بن الحارث وعبد الواحد بن زياد. وكان أبوه الهذيل على أصبهان. وكان أخوه صباح بن الهذيل على صدقة بني تميم. ولم يكن زفر في الحديث بشيء. وفي الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/608): زفر بن الهذيل بصري عنبري صاحب الرأي، روى عن حجاج بن أرطأة، روى عنه أبو نعيم وحسان بن إبراهيم وأكثم بن محمد سمعت أبى يقول ذلك. حدثنا عبد الرحمن قال: قرئ على العباس بن محمد الدوري قال سمعت أبا نعيم الفضل بن دكين وذكر زفر فقال: كان ثقة مأمونا وقع إلى البصرة في ميراث أخته فتشبث به أهل البصرة فلم يدعوه يخرج من عندهم. حدثنا عبد الرحمن قال قرئ على العباس بن محمد قال سمعت يحيى بن معين يقول: زفر صاحب الرأي ثقة مأمون. وفي الثقات لابن حبان (6/339): روى عَنهُ شَدَّاد بن حَكِيم الْبَلْخِي وَأهل الْكُوفَة، وَكَانَ زفر متقنا حَافِظًا قَلِيل الْخَطَأ، لم يسْلك مَسْلَك صَاحبه فِي قلَّة التيقظ فِي الرِّوَايَات، وَكَانَ أَقيس أَصْحَابه وَأَكْثَرهم رُجُوعا إِلَى الْحق إِذا لَاحَ لَهُ، وَمَات بِالْبَصْرَةِ وَكَانَ أَبوهُ من أَصْبَهَان، وَكَانَ مَوته فِي ولَايَة أبي جَعْفَر وفي ديوان الإسلام (2/369) للذهبي: زفر بن الهذيل بن قيس الإمام الفقيه المجتهد صاحب أبي حنيفة أبو الهذيل العنبري، الكوفي. وفي التاريخ الكبير للبخاري (3/430): (باب زفر)، لكنه خال من ترجمة هذا الإمام المجتهد لأنه من أصحاب أبي حنيفة. ثالثا: حماد بن أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي (ت176): في التاريخ الكبير للبخاري (3/18) والضعفاء الصغير (ص: 50): "باب حماد"، لكن لا وجود فيهما للإمام الفقيه الراوية ولد أبي حنيفة النعمان. في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/149): روى عن عثمان ابن راشد عن عائشة بنت عجرد وروى عن أبيه وعن داود الطائي، روى عنه سويد بن سعيد الأنباري وعبد الله بن عبد الكريم بن حسار شيخ لأبي سعيد الأشج. وفي الكامل لابن عدي (3/ 35): حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن حفص، قَال: حَدَّثَنا أَبُو الدَّرْدَاءِ الْمَرْوَزِيُّ سَأَلْتُ أَبَا رَجَاءٍ قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيد عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: تَسْأَلُ عَنْ حَمَّادٍ؟ قُلْتُ: عَبد الله بن المُبَارك روى عَنْهُ. فَقَالَ: لَيْتَنِي لَمْ أَسمَعْ هَذَا مِنْكَ. وفي وفيات الأعيان (2/205): أبو إسماعيل حماد ابن الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت؛ كان على مذهب أبيه، رضي الله تعالى عنه، وكان من الصلاح والخير على قدم عظيم، ولما توفي أبوه كانت عنده ودائع كثيرة من ذهب وفضة وغير ذلك وأربابها غائبون وفيهم أيتام، فحملها ابنه حماد المذكور إلى القاضي ليتسلمها منه. قال عنه الذهبي: "ضعفه ابن عدي وغيره من قبل حفظه". وقال عنه ابن خلكان: "كان على مذهب أبيه رضي الله عنه، وكان من الصلاح والخير على قدر عظيم". "تفقه على أبيه وأفتى في زمانه، وتفقه عليه ابنه إسماعيل، وهو من طبقة أبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد، وكان الغالب عليه الورع والزهد، استقضى على الكوفة بعد القاسم بن معين الكوفي تلميذ أبي حنيفة" رابعا: الحسن بن زياد اللؤلؤي مولى الأنصار (ت204): في تاريخ الإسلام ط التوفيقية للذهبي (14/50): الحَسَن بن زياد اللؤلؤي الفقيه أبو عليّ مولى الأَنْصَار، صاحب أَبِي حنيفة. أخذ عَنْهُ: محمد بْن شجاع الثَّلْجيّ، وشعيب بن أيوب الصريفيني. وهو كوفي نزل بغداد. ... قَالَ محمد بْن شجاع الثَّلْجيّ: سَمِعْتُ الحَسَن بْن أَبِي مالك يَقُولُ: كَانَ الحَسَن بْن زياد إذا جاء إلى أَبِي يوسف أهمّتْ أبا يوسف نفسُه من كثرة سؤالاته. قَالَ ابن كاس النَّخَعيّ: ثنا أحمد بْن عَبْد الحميد الحارثيّ قَالَ: ما رأيت أحسن خُلُقًا من الحسن بْن زياد، ولا أقرب مأخذًا منه، ولا أسهل جانبًا، مَعَ توفر فقهه وعلمه وزُهده ووَرَعه. وكان يكسو مماليكه ككسْوهِ نفسَه. وقال جعفر بْن محمد بْن عُبَيْد الهَمْدانيّ: سَمِعْتُ يحيى بْن آدم يَقُولُ: ما رأيت أفْقه من الحَسَن بْن زياد. وقال ابن كاس: نا محمد بْن أحمد بْن الحَسَن بْن زياد، عَنْ أَبِيهِ أنّ الحَسَن بْن زياد سُئل عَنْ مسألة فأخطأ فيها. فلمّا ذهب السائل ظهر لَهُ الحقّ، فاكترى مناديًا فنادى: إنّ الحَسَن بْن زياد استُفتي فأخطأ في كذا، فمن كَانَ أفتاه الحَسَن في شيء فلْيرجع إِلَيْهِ. فما زال حتّى وجد صاحب الفتوى وأعلمه بالصواب. قَالَ زكريّا الساجي: يقال: إنّ اللُّؤلُؤيّ كَانَ عَلَى القضاء، وكان حافظًا لقولهم، يعني أصحاب الرأي. فكان إذا جلس ليحكم ذهب عنه التوفيق حتى يسأل أصحابه عَنِ الحُكْم. فإذا قام عاد إِلَيْهِ حِفْظُه. قَالَ نِفْطَوَيْه: تُوُفّي حفص بْن غِياث سنة أربعٍ وتسعين ومائة، فولي مكانه الحَسَن بْن زياد اللُّؤلُؤيّ. قَالَ أحمد بْن يونس: لمّا ولي الحَسَن بْن زياد لم يُوفَّق، وكان حافظًا لقول أصحابه، فبعث إِلَيْهِ البكّائي: إنّك لم تُوَفَّق للقضاء، وأرجو أنّ يكون هذا لخيرةٍ أرادها اللَّه بك، فاستعف. فاستعفى واستراح. قالَ مُحَمَّد بْن سماعة، سمعتُ الْحَسَن بْن زياد يقول: كتبت عن ابن جريج اثني عشر ألف حديث كلّها يحتاج إليها الفُقَهاء. وقال أحمد بْن عَبْد الحميد الحارثيّ: ما رأيت أحسن خلقا من الحسن بن زياد، ولا أسهل جانبًا. وكان يكسو مماليكه كما يكسو نفسه. ضعفه ابن المَدِينيّ. وكان لَهُ كُتُبٌ في المذهب. ه وفي سير أعلام النبلاء ط الحديث (8/211): العَلاَّمَةُ فَقِيْهُ العِرَاقِ أَبُو عَلِيٍّ الأَنْصَارِيُّ مَوْلاَهُمْ الكُوْفِيُّ اللُّؤْلُؤِيُّ صَاحِبُ أَبِي حَنِيْفَةَ. نَزَلَ بَغْدَادَ وصنف وتصدر للفقه. أَخَذَ عَنْهُ: مُحَمَّدُ بنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ، وَشُعَيْبُ بنُ أَيُّوْبَ الصَّرِيْفِيْنِيُّ. وَكَانَ أَحَدَ الأَذْكِيَاءِ البَارعِيْنَ فِي الرَّأْيِ وَلِيَ القَضَاءَ بَعْد حَفْصِ بنِ غِيَاثٍ ثُمَّ عَزَلَ نَفْسَهُ. ه قلت: اللؤلؤي ضعيف في الحديث، لكنه فقيه وقاض وراوية، والبخاري يترجم في كتبه الثقات والضعفاء والمتروكين والمجاهيل... فلماذا تجاهل هذا الرجل؟ إن إصرار البخاري على تضعيف الرجل الثاني للمدرسة الحنفية بعد تجريح إمامها الأول ومؤسسها الأعظم، ثم تعمُّدُه تجاهلَ الرجل الثالث وهو الإمام محمد الشيباني فالرابع والخامس والسادس... لا تفسير له إلا الحقد المذهبي العنيف الذي يسلب من صاحبه صفة الموضوعية ويجعلنا نفقد الطمأنينة لأحكامه، خاصة وأنها تنبني عليها تصورات دينية واجتهادات فقهية. إن الحافظ الناقد الذي لا يتعامل بالعدل والحياد مع مدرسة فقهية عريقة ممتدة في الأمة اسمها المدرسة الحنفية، فيمعن في تجريح رموزها أو تجهيلهم وتحقيرهم، لا يمكن الوثوق به وباجتهاداته وتصحيحه وتضعيفه. ولما كان هذا حالَ الإمام البخاري رحمه الله، وكانت تصحيحاته لأحاديث الجامع الصحيح مستندة إلى التحامل حينا والتعصب المذهبي مرة والتجني والعدوان في بعض الأوقات، فإنه يحق لنا الشك والتوقف وإعادة النظر في عمله العظيم لا شك، لكنه عمل إنسان يحقد ويقلد ويتعصب ويتجنى على الماضين من حملة الفقه ورواة الأحاديث، فلا جرَم يخطئ وينحرف أحيانا.