غدت احتجاجاتهم من المعالم التي تتمتع بها مدينة الرباط، حتى أنه قد يحق للسائح الأجنبي التقاط صورة بقربهم للدلالة على تواجده بالعاصمة المغربية.. شارع البرلمان يأوي الآلاف منهم منذ سنوات، فما إن يتم توظيف البعض حتى تأتي أعداد أخرى يطالبون بالحق في الشغل والعيش الكريم.. إنهم "المعطلون"، من لا يرضون عن التوظيف المباشر بديلا، ومن لا يثقون في كل مبادرات الحكومة الرامية إلى تخفيض أعدادهم عبر إجراء امتحانات، ومن يخلقون الحدث يوميا أو أسبوعيا بأشكال احتجاجية، حتى لو وصل الأمر إلى محاصرة رئيس الحكومة، أو التظاهر أمام بيته الخاص. وبقدر ما جرّ ملفهم تعاطفا واضحا من هيئات حزبية ونقابية وشعبية، بقدر ما انتقدهم الكثيرون لإصرارهم على حل التوظيف المباشر، فبين مبررات كل طرف، يظهر الخريج العاطل واجهة للسياسات المغربية، يتم التعاطف معه لإصراره على الاستفادة من مناصب الدولة وإنهاء مواسم البطالة، ويتم انتقاده لعدم بحثه أو ضعف قدرته على إثبات ذاته بالقطاع الخاص. وبين مسارات التعاطف والانتقاد، تحاول هسبريس الإجابة عن كثير من الأسئلة المؤرقة حول واقع لم يعد يعجب أحدا، بعدما تحوّلت واجهة مؤسسة تشريعية كالبرلمان إلى فضاء للمطاردات بين مجموعات المطالبين بالشغل والقوات العمومية، فلم يعد غريبا أن تسيل الدماء التي بات المارون في شارع محمد الخامس يتعايشون معها كطقس يومي. هل هم عاطلون أم معطلون؟ منذ الاستقلال، وجدت الدولة نفسها في حاجة إلى أطر تشتغل بإداراتها وقطاعاتها، فكان الاتجاه بشكل واضح نحو توظيف المواطنين حتى لو لم يكونوا يتوفرون سوى على شهادات لا تتجاوز السادسة ابتدائي، غير أنه وبمرور السنوات، بدأ عدد المناصب يقل بالنظر إلى التخمة التي وصلت لها في بعض القطاعات، وإلى عدم قدرتها على توسيع طاقة قطاعات أخرى تعاني من خصاص واضح كقطاع التعليم والصحة، فبدأت ظاهرة العطالة في صفوف الخريجين من الجامعات، لتكون اليوم واحدة من أكبر الإشكاليات تعقيدا في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالمغرب. محمد علا، كاتب عام سابق للتنسيقية الوطنية للأطر المجازة المعطلة بالمغرب، يرى أنهم معطلون وليسوا عاطلين، السبب في ذلك سياسات عمومية فاشلة على مختلف المستويات خاصة التعليمية والاقتصادية، معتبرا أنهم على مدار ثلاث سنوات من الاحتجاج المستمر، قدموا مجموعة من المبادرات 'التي لم يفصح عنها'، غير أن الدولة لم تسمح لهم بأية فرصة للحوار، وواجهتهم بمسلسل من القمع والتضييق، وهو تقريبا ما يتفق معه مصدر من معطلي المحضر، رفض ذكر اسمه، مشيرا إلى أن الدولة مسؤولة عن ضعف النسيج الاقتصادي وعدم قدرته على استيعاب الشباب في وظائف قارة ومناسبة لتكوينهم ومهاراتهم، وفي المقابل، تُحمّل عن طريق الحزب الحاكم، المسؤولية للضحية بعدم البحث عن الذات، رغم أنها هي التي أوصلت الاقتصاد المغربي، يضيف عضو المحضر، إلى حالة من الريع جعلته عاجزا عن التطور، وغير قادر على استيعاب الكفاءات. إلا أن الكاتبة الصحافية، سناء العاجي، ترى عكس ذلك، ففي مقال نشرته أخيرا قالت إن هؤلاء المحتجين يتحوّلون إلى مناضلين فقط من أجل التوظيف المباشر، أي أن القضايا الحقيقية بدأت تختفي لتحل محلها القضايا الصغيرة، مضيفة بأن بنكيران كانت لديه جرأة وقف قرار التعيين المباشر الذي بدأه الوزير الأول السابق عباس الفاسي، معترفة للزعيم الإسلامي بشجاعة تجاوز الحسابات الشعبوية التي تقتضي وقف هذا النوع من التوظيف لإسكات جماعات "العاطلين" وليس "المعطلين". المساس بمبدأ المساواة وتشجع اقتصاديات أكبر البلدان القوية عالميا، على دخول القطاع الخاص وتخفيف الضغط على الدولة فيما يتعلق بالتشغيل، فحتى الحق في الشغل الذي تضمنه مجموعة من المواثيق الدولية، لا يجبر الدول على تقديم وظائف قارة، بقدر ما يؤكد على ضرورة فتح أجواء شفافة للعمل واحترام كرامة العامل، وهو ما يؤكده الخبير التعليمي المهدي أوميح، عندما يشير أن الدولة الحديثة ليس من وظائفها توفير الشغل للمطالبين به، بقدر ما هي مطالبة بتوفير الخدمات الأساسية. ومن جهتها اعتبرت سناء العاجي المطالبة بالتوظيف المباشر دون مباراة، لمجرد أن الشخص حاصل على شهادة عليا من طرف جامعة عمومية، بأنه مطالبة صريحة بمنح امتياز عن باقي المواطنين، وهو "كريمة" من نوع آخر، أي أن "العاطلين" وفق تعبيرها، يساهمون في استمرارية اقتصاد الريع الذي تحاول جهات كبيرة في الدولة التقليل منه أو حتى القضاء عليه. غير أن علاّ يلفت النظر إلى أن الحكومة لا تحترم مبدأ المساواة بين الأفراد، كما هو منصوص عليه في الدستور، مادام بعض وزراء بنكيران قد قاموا بتوظيفات "مشبوهة" تستوجب محاكمتهم وعزلهم من مناصبهم، وبالتالي فهم الأولى، حسب قوله، بالتشغيل في القطاع العام لظروفهم الاجتماعية. أما المتحدث باسم "أطر المحضر" فهو يجد نفسه موظفا مَنَعه بنكيران من الالتحاق بعمله، وليس مُطالبا بالشغل خاصة على ضوء إثبات القضاء لقانونية المحضر الذي وقعه عباس الفاسي سنة 2011، مستطردا بأن التوظيف المباشر أتى كحل لمشاكل اجتماعية مزمنة، ولا يمكن القطع مع هذه السياسة دون تقديم بدائل مقبولة اقتصاديا واجتماعيا، خاصة أن عدد المناصب المتبارى بشأنها غير كاف بالمرة، وهناك اختلالات كبيرة في القطاع الخاص الذي غالبا لا تتوفر فيه ضمانات التغطية الصحية، ولا يوفر مصدر رزق قار. هل المطالبون بالوظيفة العمومية أهلٌ لها؟ قد لا نختلف كثيرا على كون الخدمات الأساسية بالمغرب مترديّة بشكل كبير، موظفو إدارات عمومية يُضربون خلال أوقات احتياج المواطنين لهم، تأخر كبير في المساطر، تعليم عمومي يتراجع سنة بعد أخرى، قطاع صحي يعاني من إهمال واسع... مما قد يجعل الإشكالية تتعلق هنا بكفاءة الأطر المنتقاة، زيادة على سياسات الدولة. يشير المهدي أوميح إلى أن الدولة الحديثة عندما تريد فتح أبواب التشغيل، فإنها تختار الأكثر كفاءة بالنظر إلى حجم الانتظارات التي تسم عمل الإدارة العمومية في علاقتها مع المواطن البسيط الذي ينتظر منها جودة عالية في خدماتها الأساسية، وبالتالي لا يمكن للدولة أن تختار موظفين بشكل مباشر، دون أن تتأكد من قدرتهم على العطاء في الميادين التي يريدون الإشتغال بها. العاجي أوردت في مقالها أنه من غير المنطقي مطالبة الدولة بتوظيف جميع الخريجين، ولا يوجد منطق تدبيري في العالم ككل يقبل بهذا، معتبرة أن حتى القطاع الخاص يقوم بإجراء اختبارات للتأكد من كفاءات من سيُشغّلهم، "فما بالك بالدولة المطالبة بتحسين مستوى الخدمات وفي نفس الوقت يطالبها العاطلون بالتوظيف دون مباراة ولجميع حاملي الشهادات العليا" سلاحهم في ذلك، على حد قولها، نضال همجي ولا حقوقي يُميّع نضالات مشروعة 'في إشارة منها لما قاموا به من حصار لبنكيران'، قبل أن تردف بأنه "من المحتمل أن لا نجد غدا مواطنين يساندون قضايا عادلة". وبالنسبة ل"علاّ" فإن هناك العديد من النواب في البرلمان لا يتجاوزون حتى الثالثة إعدادي: "أليس البرلمان مليء بنواب لا يقدرون حتى على قراءة مداخلتهم؟ أليس حتى السيد رئيس الحكومة لا يملك في رصيده الخاص إلا شهادة الإجازة في الفيزياء؟ يتساءل المتحدث ذاته، معتبرا أن ستة عشر سنة من التحصيل العلمي كفيلة بأن تجعلهم أكفاء ومؤهلين لمناصب عمومية. إطار المحضر يتساءل هو الآخر:" أليس من حق حتى ضعيف الكفاءة العيش والشغل؟ ألا تساعد الدول الديمقراطية خريجي جامعاتها على إيجاد الشغل، بل حتى إسبانيا الغارقة في الأزمة تطرح برامج لتشغيل حتى المعاقين ذهنيا"، مضيفا أن الدولة لا تعرف كيف تستفيد من طاقة نخبتها المتعلمة، وأن مصلحتهم الشخصية ك"معطلين" في التوظيف هي جزء من مصلحة الشعب الوطنية في الكرامة واحترام المواطن. ثلاث أسئلة لرشيد جرموني: باحث في سوسيولوجيا التربية ما هي أسباب بروز واستمرار ما يُعرف بملف "المعطلين"؟ تُعبّر قضية المعطلين حاملي الشهادات الجامعية والمهنية عن فشل النموذج التنموي المطبق في المغرب منذ الاستقلال، فإن كانت السنوات الأولى منه راهنت فيها الدولة على التعليم لتجاوز الخصاص في الأطر المؤهلة، فإنه بعد تطبيق سياسة التقويم الهيكلي في الثمانينات، دخل المغرب في دوامة التقشف على حساب قطاعات اجتماعية كالتعليم والصحة والتشغيل، فظهرت إشكالية عدم تشغيل خريجي الجامعات، خاصة أن الوظيفة العمومية لم تعد قادرة على امتصاص أعدادهم المتزايدة. اختيارات الدولة الاقتصادية لم تكن واضحة بسبب تعرضها لضغوطات من الهيئات الدولية ومن صندوق النقد الدولي، وهو ما أدى إلى تعامل ترقيعي وانتخابي تسويقي مع معضلة الخريجين الذين باشروا احتجاجاتهم، فكانت النتيجة أن بدأت الدولة تحت هذا الضغط تبرمج تشغيلهم، أي أن الاحتجاج في الشارع يؤدي إلى ضمان الشغل، وبما أن العقل المغربي مُبدع في اقتناص الفرص، فإن الأجيال المتعاقبة اعتبرت ذلك حقا مشروعا. هناك كذلك الإشكالية التربوية والتكوينية التي تبقى أهم سبب لهذه المعضلة، خاصة أن التعليم المغربي لا يتوافق مع التحديات المطروحة في عالم الاقتصاد، زيادة على تخلي القطاع الخاص في المغرب عن مواطنته، وعن مسؤوليته في امتصاص جزء من بطالة الخريجين، نظرا لما يشوبه من قيم اللاشفافية والزبونية والمحسوبية. لماذا يصر الشباب المغاربة على الاشتغال في القطاع العام؟ اختارت الدولة في البداية أن ترسخ في الأذهان فكرة الوظيفة العمومية من أجل بناء الإدارة وضمان مشروعية واستمرارية المخزن، لتترسخ ثقافة أن "دار المخزن كبيرة"، وأن الدولة هي التي تُوظف، حتى صار من العسير تغيير هذه العقل، زيادة على ما وصفته بعدم قدرة التعليم على التطابق مع متطلبات السوق بكثرة خريجي التخصصات العلوم الإنسانية، وبعض العلوم العلمية مقابل ندرة في تخصصات أخرى. ولا يجب أن ننسى كون المغربي ينظر إلى القطاع العمومي، كميدان للعمل المضمون بدون جهد كبير، وهذه المسألة كانت لها نتائج سيكولوجية وذهنية وقيمية على مجموعة من الأجيال التي ترفض العمل في القطاع الخاص بسبب وجود التنافسية. وللأسف هذا ما ورثناه عن الاستعمار الفرنسي الذي يجعل الدولة راعية للمواطنين، إضافة لضعف الفكر المقاولاتي عن الخريجين بحكم طبيعة العقلية المغربية المحافظة التي لا تجازف، وهشاشة المراقبة في مؤسسات الدولة، مما يُشيع ثقافة الكسل ويعزز المثل الشعبي:"دبّر ليك على شي خدمة مع الدولة وتكا مع راسك". كيف يمكن الخروج من هذه الدوامة كي لا يصير التظاهر أمام البرلمان محجّ كل من لم يجد عملا من خريجي الجامعات؟ يجب إعادة النظر في النظام التكويني بما يتوافق مع سوق الشغل ومع التحولات الجارية فيه، حيث من الضروري أن تتكامل جهود التعليم وفق منظور ثلاثي يركز أولا على تعليم يلقن مبادئ المسؤولية والاستقلالية وإتقان أكثر من لغة والرفع من الجودة، ثانيا على تشخيص المجالات الجديدة التي يوفرها الاقتصاد العلمي وبالتالي فتح وتشجيع مسالك جديدة والتخلي عن أخرى لا تؤهل للشغل، وثالثا تشجيع البحث العلمي والإبداع عن طريق خلق شركات بين الجامعة والقطاع الخاص.