تطرح مصادر مختلف الفترات التاريخية التي مرت منها البلاد صعوبات منهجية وإشكالات معرفية في مجال المقارنة والتصنيف والتقويم بناء على تلك المراحل التاريخية، ومدى موافقتها للرصيد الأرشيفي المتوفر إلى حد الآن، وتزيد المسألة تعقيدا حينما يقع التضارب في تحديد التواريخ أو بعض المحطات والأحداث الهامة. وإذا كان الأمر مطروحا على صعيد عموم مناطق المغرب، ولم تنج منه حتى العواصم التاريخية كفاس ومراكش ومكناس ثم الرباط، فإنه بات مطروحا بحدة أكبر بالنسبة لمناطق أخرى، لعبت أيضا أدوارا مشهودة على مستوى الحركية التاريخية والمجالية للبلاد، لاسيما في فترات الأزمات والصراعات والمنعطفات الحاسمة كما هو الحال بالنسبة لممر تازة وحوض إيناون. لم تقتصر المشاكل المطروحة بالنسبة لتاريخ منطقة تازة على قلة ما كتب عنها منذ الاستقلال إلى الآن، عكس ما قدمه المصنفون في القرون الوسطى وحتى الباحثون والمستكشفون الاستعماريون خلال الفترتين الحديثة والمعاصرة، بل يضاف إليها البعد المذكور السابق، وبدل أن يتعمق فيه البعض بكل الرصانة الممكنة في سبيل حفر أكثر جدارة بالمنطقة واحتراما للمنهج العلمي الموضوعي، فإنه انساق للأسف الشديد مع بعض الأحكام الجاهزة، كعدم اهتمام المصنفين القدامى بها (وهو غير صحيح قطعا)، والاقتصار على ذكر مدينة تازة حين الحديث عن الأحداث المرتبطة بالمدن الكبرى أو بالأحرى العواصم السلطانية Villes Impériales، متغافلين أو في الأصح مقتصرين على ذلك، عبر إهمال جلي أو حتى تكاسل واتكال واضحين. ولن نلجأ إلى محاكمة نوايا نفس "البعض" بالطبع، لأن هذا يجافي الروح العلمية، ولكن الخلط والالتباس حتى في تحديد الإشكال التاريخي وطرح فرضيات معينة بعيدة عن الفترة المعنية ملاحظة تمس للأسف الجانبين المنهجي والمعرفي لعدد من الكتابات حول تازة ومعالمها ورجالاتها وتاريخها على وجه العموم، ولاسيما المهتمة ببعض مآثرها التي احتلت بدورها حيزا لا يستهان به ضمن شبكة المعالم والآثار التاريخية على الصعيدين الجهوي والوطني، وعدد منها مهدد في الوقت الحالي دون إصلاح أو إنقاذ، كالمسجد الأعظم وجزء من الأسوار التاريخية، وبرج سارازين ومأوى الطلبة بجانب المسجد الأعظم؛ ونخص بالذكر هنا حصن البستيون أو ما سمته بعض المصنفات التاريخية "برج تازة". لقد اختلط على البعض تاريخ بناء هذا الحصن بدوره الأمني والدفاعي، ثم علاقة ذلك بمسألة الأسرى المسيحيين الذين تفيد المصادر والوثائق بأنهم من قاموا ببنائه وبأمر من السلطان أحمد المنصور السعدي، وذهب بعضهم إلى حد تبخيس هذا المنجز الكبير بالنسبة لتازة وكأنها لا تستحق أمثاله (....). من بديهيات البحث التاريخي الرصين وجود تطابق ولو في حده الأدنى بين أنواع الوثائق الواردة حول حدث معين أو إفادات بالنسبة لمعلمة معينة، وليكن الأمر يتعلق ببناء برج البستيون بتازة من جهة وما قدمته المظان التاريخية وحوليات الفترة المتعلقة بنفس الحدث أو المعلمة من جهة أخرى، ما توفر بالنسبة للبستيون المذكور، كما سُجل بشكل نسبي تجاه معلمة المسجد الأعظم ومدارس تازة في حين لف الغموض البرج الملولب أو برج سارازين وبعض المعالم الدينية الأخرى، كمسجد سيدي عزوز ومسجد قبة السوق وعدد من الأضرحة، بحيث حصل تضارب واختلاف في زمن أو تاريخ بناء البستيون الواقع في الزاوية الجنوبية الغربية لتازة العتيقة، وفي مواجهة مدخل تازة الشرقي المسمى ممر تازة؛ وكل هذه العناصر ذات الطابع المنهجي لم تحضر أيضا عند بعضهم، والحال أنهم اعتمدوا مصادر النصف الأول من القرن السادس عشر قصد التوثيق لحصن البستيون، بدل مصادر نصفه الثاني، وهي التي عاصرت بناء ذلك الحصن، أكثر من كل هذا، هناك كما سبق القول الرؤية التبخيسية التي تشكك في فترة بناء هذا الحصن ومن يعود له فضل ذلك التأسيس، وهي الرؤية المجافية لأبسط قواعد البحث التاريخي. المعروف عند عموم الباحثين أن هذا الصرح الأمني الدفاعي تم بناؤه في عهد السلطان أحمد المنصور الذهبي السعدي بعد بناء برجي فاس الشمال والجنوبي سنة 1580، فيكون تاريخ بنائه حوالي سنة 1582. وإذا كان البرجان المذكوران بعاصمة المغرب التاريخية قد بنيا بالمواصفات المعروفة في ذلك العصر، أي بواسطة الطوب الثقيل الممزوج بالتراب والحصى والجير عبر سمك قوي متين وممتد، فإن الخصائص نفسها تنطبق على برج تازة، إن من حيث الموقع الحربي الإستراتيجي أو عبر طبيعة البناء ومواده وطريقته. ويستبعد تماما أن يكون الحصن أو أن تكون الحصون تلك التي بنيت في كل من فاسوتازةوالعرائش وعددها 14 تعود إلى فترة محمد الشيخ المؤسس الأول لدولة الأشراف السعديين، من ناحية لأنه ليست هناك أي إشارات تاريخية واردة في مصادر أو حوليات الفترة، ومن ناحية ثانية لطبيعة تلك المرحلة التاريخية نفسها (النصف الأول من القرن السادس عشر) التي اتسمت بالصراعات والتطاحنات على جميع الواجهات. وردت أهم إشارة تاريخية معاصرة إلى زمن البناء حول حصن تازة / البستيون في مصنف "مناهل الصفا في مآثير موالينا الشرفا " لعبد العزيزي الفشتالي (1549 – 1621) ص 281 بقوله: "وليس الحصن الذي اختص أيده الله تعالى (الدعاء لأحمد المنصور) على بلاد تازى ببعيد من هذه الآثار الضخمة والحصون الفخمة تشييدا وتوطيدا ومنعة وتحصينا". هذه مادة تاريخية مصدرية حول البستيون الذي ظل يراقب المدخل الشرقي لتازة، في حين كانت من وظائف البرج الملولب وبرج باب الريح مراقبة وتأمين الجانب الغربي من المدينة. المعروف أن كتاب الحسن الوزان الشهير بليون الإفريقي Leon L'Africain والمعنون ب "وصف إفريقيا" ألف بين سنتي 1525 و1526 في حضن البابا ليون العاشر Jean Leon x، وضمَّنه أخبارا ومعلومات مفيدة وهامة حول حواضر وبوادي عموم المغرب خلال هذه الفترة الرهيبة من تاريخ البلاد، حيث تصاعُدُ المد الاستعماري الإيبيري الذي احتل الشواطئ المغربية، وتدهور دولة بني وطاس مقابل صعود الأشراف السعديين من سوس والامتداد العثماني في الشرق العربي وأوربا. وإذا كان الأتراك قد تمكنوا من احتلال الجزائر سنة 1517 عبر القائدين عروج وخير الدين التركيين فإن المغرب لم يقع تحت أطماعهم إلا بعد أن زحف محمد الشيخ السعدي نحو تلمسان سنة 1549 ثم رده الأتراك وشنوا بدورهم هجوما كبيرا على فاس سنة 1553 مساندين لأبي حسون، آخر سلطان وطاسي، لكنهم هزموا في أحواز المدينة نفسها بعد مقتل أبي حسون. وكل هذه الأحداث الجسام لم تكن كفيلة بتهييء الظروف المناسبة للاستقرار، ومن ثمة انتشار التعمير والتشييد بالنسبة لمحمد الشيخ، خاصة أنه لم يخلف مآثر ذات بال، سواء بمراكش أو فاس أو غيرها من المدن والمناطق التي بسط نفوذه ونفوذ السعديين عليها، ما يدحض تماما ما ذهب إليه بعضهم من أن الشيخ قد يكون هو باني البستيون؛ وذلك بتسجيل وتحليل المحطات التاريخية نفسها التي تغطي أحداث القرن السادس عشر، وحتى فترة تدهور الدولة السعدية، كما تقدمها المصادر كمناهل الصفا وتاريخ الدولة السعدية التكمدارتية للمجهول، ونزهة الحادي للإيفراني؛ فضلا عن الكتابات الحديثة التي تعرضت لتاريخ المغرب خلال هذه الفترة، ونذكر من نماذجها كتابات إبراهيم حركات ومحمد حجي وعبد الكريم كريم وبعض الباحثين الأجانب كشارل أندري جوليان وهنري تيراس وهنري باسي وكومباردو. نعم سبق للحسن الوزان أن تحدث في معرض تقديمه لمدينة تازة عن قصبة جميلة بقوله في ص 355 ج 1: "ومازالت تشاهد بتازا قصبة جميلة كبيرة يسكنها عامل الإقليم"، والمعروف أن القصبة ليست هي البرج أو حتى الحصن، وهما الصفتان اللتان أطلقتا هلى بستيون تازة، فضلا عن أن الوزان لم يحدد مكان هذه القصبة، علما أن مكانها الحقيقي ممتد جنوب شرق تازة العتيقة وحول برج البستيون، وهي أكبر مساحة؛ فليس من المستبعد إذن أن يكون بناء برج البستيون تم على أنقاض تلك القصبة، التي يرجعها العديدون إلى العصر المريني. وفي كل الأحوال فإن مسألة عدم معاصرة الوزان لفترة بناء البستيون أصبحت تقترب من الحقيقية التاريخية البديهية، إذ إن حقبته متقدمة بأكثر من نصف قرن على تاريخ بناء البستيون بتازة. إن البرج عموما هو الموقع العسكري المحصن، فكيف نحدد أو نعرف برج تازة / بستيون تازة؟ نقول بوضوح: هو البناية مكعبة الشكل المحصنة بالمدفعية (بالنسبة لبستيون تازة هناك 13 غرفة للرماية)، والبالغة مساحتها الإجمالية (دون الحصن والقصبة) 689 م 2 وطول أضلاعها 26 مترا وعلوها بين 13 و20 مترا، وبها ممر يصل طوله إلى 5 أمتار. وسمك حيطان البرج يبلغ 3 أمتار في المتوسط، أما سطحه فيصل مستوى علوه عن القاعدة إلى 8 أمتار. كما يشتمل البرج على عدة مستودعات للزاد وخزانات الماء والعتاد الحربي، وتصل مواقع التصويب والضرب إلى 7 وبشكل يسمح بتصويب المدفع أو سلاح النار في ثلاثة اتجاهات حول حصن تازة، وبداخله سارية كبرى يطلق عليها إلى حد الآن "سارية السبع"، وطولها 8 أمتار و40 س وعرضها 6 أمتار و90 س، وكان من مهامها حفظ المؤونة والعتاد للحامية المتمركزة في الحصن.. وينتهي في الأعلى ببرجين صغيرين أقصى اليمين والشمال. بني برج تازة بالتراب المدكوك ثم الطابية والحجر المشذب واللبن أو الجير في الأصل، وهي من أبرز مواد البناء في المنشآت السعدية، كأسوار تارودانت وقصر البديع وبرجي فاس، وأكثر البناء من الطابية وليس من المستبعد وجود تأثيرات أندلسية إضافة إلى تلك الإيبيرية في طريقة البناء ومواده وهندسته، وهو واحد من 14 برجا موزعة بين العرائش (برجان 02) وتازة (برج واحد) وفاس ( تسعة أبراج تحف بأسوار المدينة واثنان يشرفان عليها). ظلت الحاميات العسكرية تقطن البستيون، وكانت تستعمل مدفعية ذلك الوقت أو ما كان يسمى "العدة الرومية"، وأصحابها من الجنود يسمون "عساكر النار". وقد بنى المنصور دار العدة بمراكش لتكون مصنعا ينتج أمثال هذه المدافع، وأشهرها مدفع الميمونة الذي تسبب في إبادة كل مقدمة الجيش البرتغالي المكونة من الفرسان والمرتزقة الأوربيين خلال معركة وادي المخازن. وبالمناسبة فقد حور الفاسيون اسم برج النار الذي يعني برج المدفعية إلى برج النور تفاؤلا بالاسم كما لا يخفى. وقد بنى برج تازة كما قلنا الأسرى المسيحيون، ما كان معمولا به في ذلك الزمن، وعند جميع الشعوب على مستوى الصراعات والحروب خاصة. يمكن تقديم وظيفة المنشأة في الأصل بأنها حماية الأجزاء الشرقية والجنوبية الشرقية من تازة، وإستراتيجيا حماية الطريق الشهير الرابط بين فاسوتلمسان في موقع تازة الذي شبهه البعض ب"الترس الواقي" من الهجمات، وهو الذي يصل المغرب بالجزائر والشرق بالغرب؛ وقد سعت جميع الدول والحركات السياسية والدينية والقبلية للسيطرة عليه منذ فجر التاريخ الإسلامي على الأقل. وأمام التقدم الحاصل في مجال الأسلحة التقليدية والزحف التدريجي للآلة وظهور وتطور صناعة المدافع (عند السعديين والأوربيين والعثمانيين على حد سواء) في بدايات العصر الحديث، وبسبب تراجع الدور التقليدي للأسوار والأبراج القديمة في التصدي للجيوش الزاحفة، لاسيما تلك الأبراج الضخمة التي أصبحت مزودة بسلاح المدفعية، فقد تعززت الأسوار المحتضنة للمدن والقصبات بأبنية مجهزة لمقاومة وردع السلاح نفسه، أي المدفعية، والحديد لا يفله سوى الحديد كما يقال. وهكذا خصصت طوابق برج تازة – بغرف رمايته – لسلاح المدفعية أو الطبيجية، بينما استأثر سلاح المشاة بالساحة العليا للبستيون. ووظيفة المراقبة لها أهميتها أيضا لكن ليس على العيون ومصادر المياه في هذا الحيز الجنوبي الشرقي من تازة كما جاء عند بعضهم (ومن هؤلاء أستاذ جامعي يا حسرتاه)، إنما هي مراقبة ذات طابع عسكري أمني بالأساس. ومعروف أن منابع المياه بتازة تأتيها من عين راس الماء ووادي تازة إلى الجنوب الغربي، وهي المنابع المقصودة في نص الحسن الوزان. الدور العسكري والأمني تحول مع مرور السنين والأحقاب إلى وظائف ملتبسة، وأصبح البرج إما موئلا للسجناء كما حدث مع المولى الرشيد، والمولى عبد الرحمان بن هشام، لما زجا بمعارضيهما في هذا البرج، أو أصبح بمضي الزمن موقعا محصنا لبعض زعماء الثوار أو المتمردين (الفتانين) كالناصر السعدي الذي ثار على عمه احمد المنصور، ثم الثائر أحمد بن محرز الذي شايعته قبائل فاسوتازة ولجأ إلى الحصن إياه، ما اضطر الجيش الإسماعيلي إلى قصفه دون نتيجة. والمعروف أنه بعد سلسلة حروب تم القضاء على ابن محرز بعد أن انسحب من تازة، وجددت المدينة بيعتها للسلطان مولاي إسماعيل. ولم تنته تلك الأدوار المثيرة مع مختلف المحطات التاريخية التي عرفها المغرب، فقد لعب الحصن لصالح خطط الروغي الجيلالي بن ادريس الزرهوني الموصوف من طرف الإستوغرافيا المخزنية بالفتان أو الروغي، إلى أن دخلت القوات الفرنسية إلى الحصن فحولته إلى موقع متقدم في مواجهة قبائل المنطقة الثائرة. ورغم تفويت البرج للجنة الوطنية للتاريخ العسكري، فلم يتم الاهتمام به رغم أنه عاد مجددا إلى ملكية الجماعة الحضرية لتازة، التي لم تقم بأي خطوة لصيانته أو المحافظة عليه كإرث حضاري وعسكري تعتز به تازة والمنطقة ككل. والحاصل أن هذه المعلمة العسكرية والحضارية، التي ميزت تاريخ تازة منذ القرن السابع عشر على الأقل، توجد في وضعية مزرية، حيث تركت لمصيرها، وباتت تعتبر أحيانا ملجأ للمنحرفين وبعض الجانحين، الذين يلحقون بها أفدح الأضرار، كما شكل بناء صهريج غير قانوني للوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء بجانب البرج إياه تشويها بليغا وإضافيا لهذه المعلمة التاريخية، ما أثار احتجاج المجتمع المدني الشريف، بدءا من خريف 2017. كما وضع المعنيون والغيورون شكاية لدى النيابة العامة، قضت فيها المحكمة بعدم الاختصاص. ويعتزم المجتمع المدني متابعة الوكالة المستقلة أمام المحكمة الإدارية المختصة بفاس. من جهتها أدت احتجاجات المجتمع المدني إلى توقيف أشغال الصهريج مؤقتا. ويذكر أن معلمة البستيون توجد في التصميم المديري وكذا تصميم التهيئة لتازة ضمن منطقة محفوظة أثرية، وأيضا داخل مساحة خضراء، ما يعد بناء الصهريج بجانبه خرقا قانونيا فادحا يمكن أن يهدد بشكل جدي معلمة البستيون السعدي بتازة؛ فهدم هذا الصهريج غير المشروع يعتبر أولوية في إطار إستراتيجية الدولة نفسها الهادفة إلى الحفاظ على الموروث الثقافي وتثمين الرأسمال الرمزي لمختلف المدن والمناطق المغربية. رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث.