جُزء ذو أهمية بالغة من تاريخ المغرب تتلاشى معالمه في مدينة تازة، وسط إهمال فظيع من طرف مَن يُفترض فيهم أن يحموه من الاندثار. يتعلق الأمر بحصْن البستيون، الواقع في تازة العليا، والذي أضحى قاب قوسين أو أدنى من أن تتلاشى معالمه وتنمحي، بعد أن انهارت أجزاء كبيرة منه. يشهد حصن البستيون، الذي شُيّد في عهد السعديين، على فترة لامعة من تاريخ المغرب؛ ذلك أنه الدرع الذي صدَّ هجوم الجيش العثماني، إبّان سطوة الإمبراطورية العثمانية، وحال دون غزو العثمانيين للمغرب، بعد أن بسطوا سيطرتهم على بلدان العالم الإسلامي. "لقد كان هذا الحصن حارسا للمغرب كله، وليس لمدينة تازة فقط"، يقول امحمد العلوي الباهي، الباحث في التاريخ. لكن مسؤولي مدينة تازة، على ما يبدو، لا يعرفون قيمة التحفة الأثرية التي يشكلها حصن البستيون، ويشهد على ذلك الإهمال الفظيع الذي يطال ما تبقى من أطلاله التي تبكي في صمت. الشيء الوحيد الذي صنعه مسؤولو مدينة تازة في حق قصر البستيون هو أنهم أنشؤوا بوابة حديدية في مدخله، تمنع من الدخول إليه، في حين أنه كان بالإمكان أن يكون مَعلمة سياحية تستقطب السياح من كل حدْب وصوب، وتدرّ على خزينة تازة أموالا كثيرة، لو حظي بالعناية اللازمة، نظرا لتاريخه العريق. بناء عشوائي يتحدث امحمد العلوي الباهي بحُرقة عمّا آل إليه قصر البستيون بتازة، قائلا: "تازة حارسة لنفسها وحارسة للمغرب كله من غزوات دول الشرق، وهي بمثابة عنق الزجاجة لأي قوة عسكرية. وحصن البستيون بناه أحمد المنصور الذهبي من أجل الدفاع عن المغرب. هناك حصون مماثلة في فاس، مثلا، ولكنها شيُدت من أجل حماية قصور السلاطين، بينما شُيد حصن البستيون ليحرس المغرب كله". التاريخ العريق لحصن البستيون، والدور الأساس الذي لعبه في صدّ جيوش الاستعمار القادمة من الشرق، وعلى رأسها جيش الإمبراطورية العثمانية، لم يشفع له في نيْل ولو قسط يسير من العناية من طرف مسؤولي مدينة تازة؛ ففضلا عن الانهيار المستمر لأسواره، أضحى محاطا بحزام من البناء العشوائي. المنظر الخارجي لقصر البستيون أصبح مشوّها؛ فعند "الرّحبة"، حيث تباع الحبوب في باحة حصن البستيون، والتي كانت في الماضي ساحة لتداريب الجنود، نبتت عشرات من الأكواخ، وهي عبارة عن سكن صفيحي مأهول بالسكان. وفي الشطر العلوي من الحصن توجد بنايات عشوائية مماثلة، بل إنّ مواطنين اتخذوا من أبراج الحصن مأوى لهم؛ فيما أصبحت عدد من الأقواس التي كانت تزيّن سور الحصن في خبر كان، بعد أن هُدمتْ. ورغم أنّ الجهة التي شيّد فيها السكان بيوتا عشوائية مشوِّهةَ للمنظر الخارجي لحصن البستيون لا تبعد سوى ببضعة أمتار عن الشارع، فإنّ السلطات لم تتدخّل، وظل حزام البناء العشوائي يتمدّد، إلى أن صار حيّا كاملا، حَجَب سور وأبراج الحصن عن آخرها، مشكلا منظرا بشعا يغطي جزءا وميضا من تاريخ تازة وتاريخ المغرب ككل. يحكي امحمد العلوي الباهي أن قصر البستيون يحفل بكثير مِن المآثر المثيرة، ومنها سراديب تحت أرضية، كانت تشكل قنوات تربط الحصن بالخارج، حين تتعرض المدينة للحصار، كما تضمّ قاعة كبيرة، وفيها رسومات عبارة عن نقوش رسمها الأسرى الذين كانوا يُسجنون داخل القصر، ومنهم ربابنةُ سفن حربية وقراصنة البحر. عند "الرحبة"، حيث تباع الحبوب، مازالت دفّتا باب خشبي قديم صامدتين في مكانهما. كان هذا الباب بوّابة عسكرية، مخصصة لدخول وخروج الجنود، وبالقرب منها توجد بوابة خاصة بالمدنيين. "شي نهار يْجيو يزوّلو هاد البيبان حتى هوما"، يقول امحمد العلوي الباهي، بصوتِ الفاقد لأي أمل في مسؤولي تازة لترميم ما تبقى من حصن البستيون. البستيون في كف عفريت يوم الخميس الماضي، خاضت فعاليات جمعوية بتازة وقفة احتجاج أمام مقر البلدية والباشوية، بعد أن فاض غضبُها جراء الإهمال الذي يتعرض له حصن البستيون، والخطر الذي يهدد بانهياره، إثر الشروع في بناء صهاريج ماء ضخمة من طرف الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء بمحاذاة الحصن، وهو ما يشكّل خطرا محدقا به. آليات الحفْر والبناء تواصل عملها حتى في عطلة نهاية الأسبوع، من أجل تسريع عملية بناء الصهاريج المائية الإسمنتية، والتي لا يبعد جدارها عن جدار حصن البستيون إلا بأقلّ من متر. ويَعتبر محمد الخصاصي، مهندس معماري يتحدر من تازة ويقيم في فرنسا، أن هذه الصهاريج المائية تشكل خطرا على الحصن، مضيفا: "هذا مَسّ بالهوية المغربية". من جهته يقول امحمد العلوي الباهي: "هذه المَعلمة التي ساهمت في المحافظة على استقلال المغرب وسلامته تتعرض للإجهاز على محيطها بالحفْر ومحاولة إثقالها ببناء إسمنتي ملاصق سيكون بناء لا يتحمّله المجال، وهذا غير مقبول عند أي مسؤول نزيه، ويتعارض مع القوانين التي تحمي الآثار الوطني وتحافظ عليها". ويبدو أن مسؤولي المجلس الجماعي يدركون أن بناء خزانات مائية ملاصقة لحصن البستيون تشكل خطرا عليه، إذ جرى تشكيل لجنة كشفت المعاينة التي قامت بها، وحصلت هسبريس على نسخة من تقريرها، أن الخزان المائي الذي بنته الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء بُني على مساحة 183 مترا مربعا، بطُول 23.20 مترا، وعرض 7.90 مترا، وعلو 8 أمتار. الخطر الذي يهدد حصن البستيون، حسب الوثيقة ذاتها، يتجلى في كون جدار الخزان المائي الضخم يُحاذي الحصن، المصنف تراثا وطنيا، إذ لا تتجاوز المسافة الفاصلة بين الخزان المائي والمَعلمة التاريخية 80 سنتمترا. ما خلُص إليه تقرير لجنة المجلس الجماعي يطرح سؤال الجهة التي رخصت لبناء خزان مائي جوار حصن البستيون التاريخي. ويبدو أن مسؤولي مدينة تازة وجدوا أنفسهم في ورطة حقيقية بعد المعاينة التي قام بها أعضاء اللجنة التي شكّلها المجلس الجماعي، والتي كشفت عن أمر خطير يتمثل في أنها بعد أن فحصت تصميم التهيئة لمدينة تازة تبيّن لها أنّ الخزّان المائي بُني في منطقة يُمنع فيها البناء بمنطوق الظهير الشريف بتاريخ 21 يوليوز 1916، المتعلق بتصنيف أسوار مدينة تازة التاريخية تراثا وطنيا. ويتساءل امحمد العلوي الباهي، المُلمّ بتاريخ تازة: "بناء الخزان المائي لا بد له من رخصة، وهل رخصة المجلس الجماعي تُبطل مفعول الظهائر والمراسيم التي تحمي التراث بتازة، وهي متوفرة بالجريدة الرسمية؟"، مشيرا إلى أنه سبق أن راسل وزير الثقافة سنة 1995 بخصوص واقعة مماثلة، طالبه فيها بوقف الهدم الذي طال مآثر تاريخية بمعسكر سيدي عيسى بتازة، وتمت الاستجابة الفورية لمطلبه. مؤامرة ثمّة أمور غريبة يلاحظها المرء أثناء تجواله في محيط قصر البستيون؛ ففضلا عن بناء خزان مائي ملاصق له، رغم أن البناء في هذه المنطقة ممنوعة بقوة الظهير الشريف المتعلق بحظر البناء في المناطق الأثرية، فإنّ "جهة ما" عمدت إلى إغلاق نوافذ البُرج الكبير للحصن، بالآجر والإسمنت. وحسب المعطيات التي توصلت إليها هسبريس فإن الهدف من إغلاق نوافذ البرج هو منع الهواء من الدخول إليه، بهدف زيادة معدّل الرطوبة بداخله، بهدف جعل أسواره تنهار تلقائيا. لم نتمكّن من التأكد من صحة هذه الفرضية، لكنّ الفاعلين الجمعويين الذين تحدثنا إليهم أجمعوا على أنّ حصن البستيون يتعرض لمؤامرة تهدف إلى اجتثاثه. الكنز الأثري الذي يشكله حصن البستيون لا ينحصر فقط في ما تختزنه جدرانه، في الداخل، بل إن محيطه أيضا يشكل كنزا أثريا ثمينا، إذ توجد على التلّ المطل على المدينةالجديدةلتازة مقبرة قديمة، كان يُدفن فيها جنود الاستعمار الفرنسي. رفات هؤلاء الجنود جرى نقلها إلى بلدهم، وظلت مكانها حفَر القبور قائمة، وعدد من شواهد القبور، أحدها يحمل تاريخ 1914، لازال مرميا تحت شجرة، في مشهد يعكس بشكل جليَّ صورة الإهمال الفظيع التي يتعاطى به مسؤولو مدينة تازة مع مآثر المدينة التاريخية.