لعل الاسم الأصلي والدقيق لهذه المعلمة الوارد في الحوليات التاريخية هو "حصن تازة"، أما كلمة "البستيون" فهي محورة عن مصطلح Bastion الفرنسي أو اللاتيني، التي تعني "الموقع العسكري المُحصَّن". تاريخ الكلمة الأجنبية لا يتعدى القرن الثامن عشر على أبعد تقدير، والأمر يتعلق بمعلمة عسكرية تاريخية تعود إلى عهد أحمد المنصور السعدي، الملقب بالذهبي، الذي حكم ما بين 1578 و1603. ومعروف أن المغرب الأقصى تحَدَّد خلال هذه الفترة على وجه التقريب مجالا وخصوصيات في مواجهة كل من المد الإيبري الذي احتل الشواطئ المغربية، والتمدد العثماني، على حد سواء. يقع حصن تازة، أو ما يُطلق عليه "البستيون"، عند الزاوية الجنوبية الشرقية للهضبة التي توجد عليها تازة العليا، والموقع ككل؛ أي البرج المربع والتحصينات حوله، يختزل مراحل عدة من تاريخ تازة العسكري، بدءا من العصر الموحدي وانتهاء بالاحتلال الفرنسي سنة 1914، ويتميز خاصة ببصمات العصرين المريني والإسماعيلي العلوي، وحينما تتكامل صورة تازة العتيقة المحيطة بالأسوار (المزدوجة غالبا)، وباتصال حصن تازة مع برج سرازين جنوبا وباب الريح إلى الغرب وباب الجمعة شرقا، تتضح الصورة المحصنة التي كان عليها "رباط تازة" منذ أقدم العصور التاريخية. ويؤكد هذه الحقيقة كل مؤرخي الحوليات والجغرافيا والمظان التاريخية، كابن أبي زرع صاحب روض القرطاس، وابن عذارى المراكشي، والحميري، وصاحب الحلل الموشية، فضلا عن القادري والزياني والفشتالي والناصري. تتمثل العوامل التي كانت وراء بناء حصن البستيون السعدي بتازة في تطور وسائل الدفاع وأدواته من الأسوار والأبراج التقليدية والسيوف والفرسان والخنادق إلى الأبراج الضخمة المجهزة بالمدافع (التقليدية طبعا وليس الحديثة). ويؤرخ صاحب نشر المثاني بناء بستيونَيْ فاس السعديين ب 990 هج / 1582 م، فيكون حصن تازة إذن قد بُني قبلهما بقليل. والمثير أن السلطان أحمد المنصور اختار هذه الزاوية الجغرافية بذكاء كبير؛ لأنها تتحكم فعليا في المناطق المجاورة والمحاذية للطريق نحو الشرق؛ أي نحو الجزائر وما كان يسمى بالإيالة العثمانية. ومن المؤكد أن البرج إياه بُني على أنقاض حصن مريني لوجود بوابة مولِجة إليه تسمى "باب القصبة". وقد سبق أن تحدث الحسن الوزان، المعروف بليون الإفريقي، عن قصبة جميلة بتازة دون الحديث عن البستيون؛ لأنه لم يكن قد بُني بعد (عاش الوزان خلال النصف الأول من القرن السادس عشر). ارتباط منطقة تازة بأحمد المنصور السعدي لم يكن طارئا ولا مستغرَبا؛ لأنها شهدت انتقال أحمد وأخيه عبد المالك إلى العاصمة العثمانية طلبا للدعم في مواجهة ابن أخيهما المتوكل سنة 1574م، ثم ظل أحمد خليفة لأخيه عبد الملك على فاس على الأقل لمدة سنتين (1576 – 1578)؛ فمن المؤكد إذن أن هذا السلطان كان على علم دقيق بالمعطيات الجغرافية والتاريخية للمنطقة التي تقع شرق فاس. تُبرز هذه الحقيقةَ أيضا نماذجُ من الرسومات البحرية تعود إلى الفترة نفسها؛ أي نهاية القرن السادس عشر، التي خلفها الأسرى المسيحيون الذين وقعوا في أيدي المغاربة، خاصة بعد معركة وادي المخازن الشهيرة (04 غشت 1578). وعلى عاتق هؤلاء الأسرى المنحدرين من موانئ ومدن بحرية أوروبية وقع بناء هذا الصرح الضخم، وأساسا لمجابهة قوة المدفعية العثمانية في فترات الصراع مع الأتراك، والتي أثبتت فعاليتها في مواجهة جيوش السعديين، خاصة في عهد محمد الشيخ الذي كان له عداء مستحكم تجاه بني عثمان (زحفه نحو تلمسان مرتين وفي المقابل هزيمته تحت أسوار تازة في نهاية سنة 1553 قبل أن يعد للهجوم المضاد والقضاء على عميلهم أبي حسون الوطاسي، وقد عاود العثمانيون الكرة من جديد في عهد عبد الله الغالب). وتؤكد ذلك أيضا طرائق البناء والمواد المستعملة فيه؛ أي الطابية الصلبة والتراب المدكوك، فضلا عن الاتجاه نحو الضخامة في تأثر واضح بالنمط الإيبري والأندلسي معا. ويصف الفشتالي، مؤرخ الدولة السعدية المعلمة، قائلا: "وليس الحصن الذي اختص أيده الله تعالى (يعني السلطان أحمد السعدي) على بلاد تازى ببعيد عن هذه الآثار الضخمة والحصون الفخمة". وقد تعرض لحصن تازة أيضا عدد من الباحثين والمؤرخين المغاربة والأجانب. فمن المغاربة عبد الكريم كريم وعبد العزيز بن عبد الله ومحمد حجي ومحمد بن تاويت التطواني وعبد الرحمان المودن. أما من الأجانب، وخاصة الفرنسيين منهم، فنذكر هنري باسي ومارسي وفوانو وتيراس. كما سبق لي أن عرَّفْتُ بحصن البستيون السعدي بتازة عبر كتابي التاريخي "تازة بين القرنين 15 و20.. الوظائف والأدوار"، الصادر عن منشورات ومضة بطنجة سنة 2014. نعرف تماما أن ممر تازة يربط شرق المغرب بغربه، ومن ثمة فهو معبر ضروري من المغرب إلى الجزائر والعكس؛ ولذلك ارتبط هذا الموقع بفترات تاريخية أساسية طبعها الصراع والشد والجذب، سواء بين الأسر الحاكمة في المغرب وتلك التي تعاقبت على القطر الجزائري وخاصة تحت السيطرة العثمانية، ووفقا لموازين القوى كانت ترسم الحدود بين الإيالتين في هذا الموقع أو ذاك، أو من جهة الأدوار الأمنية والعسكرية التي لعبها حصن تازة، وهي أدوار هامة في سياق الثورات والتمردات التي عرفها المغرب، ولا سيما الجزء الشمالي والشرقي من البلاد. يبلغ طول أضلاع بستيون تازة 26 مترا وعلوه من 13 إلى 20 م، ويصل سمك حيطان البرج 3 أمتار، أما سطحه فيبلغ علوه 8 أمتار. ويشتمل البرج (وهو البناء الأساس في حصن تازة) على مستودعات عدة للزاد وخزانات المياه والعتاد الحربي. والبرج بالأساس هو موقع مدفعية؛ ولذلك هناك سبعة مواقع للتصويب كانت تضرب في ثلاثة اتجاهات دفعة واحدة، وتوجد بقلب الحصن سارية كبيرة تسمى "سارية السبع"، طولها 8 أمتار و40 سنتمترا وعرضها 6 أمتار و90 سنتمترا، وكان من مهامها حفظ المؤونة والعتاد الحربي. ويعلو البناء الضخم برجان صغيران بُنيا للمراقبة والتصويب بالأساس، وهناك 13 غرفة للرماية. ويقع البرج على مساحة إجمالية تبلغ 689 مترا مربعا. يعد حصن تازة من بين 14 معلمة مشابهة توجد بكل من فاس والعرائش ومراكش، بناها أيضا الأسرى المسيحيون في الفترة نفسها على وجه التقريب. ولقد كان من المفترض أن يلعب هذا الحصن دورا دفاعيا استراتيجيا لانحدار الهضبة ولإشرافها على بعض المنابع المائية، وخاصة على نهاية ممر تازة في اتجاه رجم الزحازحة ومسون وجرسيف ومن ثمة نحو وجدة والحدود الجزائرية، ولا سيما أن السيطرة على ممر تازة كانت تعني إما احتلال فاس أو السيطرة على تلمسان والمناطق المجاورة. فالهدف الأصل كان يتجلى في ميل المنصور نحو حماية شرق البلاد وشمالها، خاصة وأنه كان على أهبة الاستعداد لغزو السودان الغربي، ورغبته في تطوير الجيش ووسائل الدفاع في تلك الفترة، لكن مفارقات التاريخ ذهبت في اتجاه استغلاله كسجن للمعارضين وكموقع داعم إما للمتمردين أو لجيوش السلاطين، كما حدث مع ثورة احمد بن محرز العلوي سنة 1673، الذي تحصن به وتطلب الأمر من جيوش السلطان مولاي اسماعيل الاستعانة بخبراء أجانب في المتفجرات بعد أن خاض الجيش المخزني معارك متعددة وقصف البستيون دون جدوى، ولم تتم السيطرة لجيش السلطان على تازة إلا بعد احتلال البستيون؛ فهو المتحكم في المدينة شرقا ونحو الجنوب أيضا بمساحة معتبرة وإلى حدود الخندق المريني الذي كان يغطي المنطقة المكشوفة الوحيدة بتازة المواجهة لجبال الأطلس المتوسط الشمالي. لما احتل الجيلالي بن ادريس الروغي (الفقيه الزرهوني المعروف الفتان الذي ادعى أنه المولى امحمد الابن الأكبر للسلطان المولى الحسن بين 1902 و1909) مدينة تازة، كان أول ما اهتم به هو حصنها؛ فتمركز به أتباعه، وكان بداخله عدد من المدافع التي نقلتها فرنسا إلى وجدة بعد ذلك ثم إلى الجزائر. وما زال البعض يعتقد إلى حد الآن أن كنزا ثمينا يوجد بين حيطان أو دهاليز البستيون (كنز بوحمارة)، لكن جميع المؤشرات تدل على زيغ وزيف هذا الادعاء؛ فالروغي في أواخر أيامه عانى من أزمة تمويل حركاته فلجأ إلى تفويت مناجم الريف، الشيء الذي ألب عليه قبائله فانقلبت عليه نحو الشريف أمزيان، وكان آخر سبيل له هو في اتجاه وزان (دار الضمانة) لطلب التوسط والاستشفاع إلى السلطان مولاي عبد الحفيظ، لكنه تورط في معركة أخيرة خاسرة بمنطقة الحياينة عجلت بنهايته في غشت 1909. كان آخر دور لعبه البستيون، أو حصن تازة، هو اتخاذه موقعا للسلاح والذخيرة والعربات وتطبيب جرحى المعارك التي خاضتها القوات الفرنسية وقوات الكوم ضد القبائل المقاومة حول تازة في ماي 1914، وحين أُعلن استقلال البلاد تُركت المعلمة لحالها في ترد وتدهور مستمرين رغم تفويتها إلى اللجنة المغربية للتاريخ العسكري على أساس متحف في هذا المجال مع قاعة للعروض. وبمجرد ما بدأت أشغال التهييء والإصلاح، جاء قرار غامض بإيقاف كل شيء في بداية الألفية الثالثة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.