يمكن عدّ التوفيق في الترجمة أعظم الحروب النبيلة على الاطلاق؛ ذلك أنّ النجاح الفعلي فيها، أشبه ما يكون تماماً، وإلى حد بعيد، بإتيانك بعروش الحضارات البعيدة والهوّيات القريبة لكي تجعلها مِلكاً لثقافتك، خاصاً بحضارتك بمعنى من المعاني. هكذا أضحت الترجمة معجزة بكل المقاييس، حيث كانت أوّل جراحة من نوعها في التاريخ البشري، مختصّة بنقل وزراعة أعضاء النصوص المكتوبة والشفوية بكل حمولتها العضوية وأنسجتها اللغوية وشرايينها النحوية وسير خطوط أعصابها التاريخية، فيما كان المترجم هو الجراح المسؤول عن ضمان استجابتها وتقبلها بين ثقافات العالم وألسنة أممه ذات الطبيعة المختلفة. وفي المقابل، نعلم من أخبار التاريخ أنّ كل فشل في الترجمة، أو حتى تقصير، أو قلة كفاءة فيها، هو خيانة في حالة حرب، عقوبتها لا تهدد المترجم فحسب، بل يمكن أن تطال المؤسسة، أو الهيئة، أو الكيان الذي ينتمي إليه. وقد يكون المآل – فوق ذلك- خطيراً، إلى درجة قد يزجّ معها بدولته في دوّامة إشكالية لا تحمد عقباها، والتسبب لها في كوارث لا تترك حجراً على حجر، كتوتير علاقاتها الدبلوماسية إزاء دولة أو شعب آخر، إلى حد إحداث القطيعة وتبادل الإساءات بينهما، أو يصل إلى إشعال نيرانِ حربٍ تخوضها مكرهة مع غيرها، أو جلب الاحتلال إليها، أو تأجيج الأزمات الاقتصادية والثقافية حيالها، خاصة إن تعلق الأمر بترجمة ذات خاصية رسمية بين بلدين أو شعبين أو أكثر. إنّ الترجمة وما يصاحبها من عمليات معقدة أثناء نقل ما يتضمنه النص الأصلي أو النص المصدر إلى النص الهدف، تحتاج إلى قدرات لغوية خاصة، ومعارف دقيقة، وإلى دراية عميقة بعلوم الترجمة وأنواعها. كما أنه يبقى أمراً ضرورياً الالتزام، قدر المستطاع، بروح النصّ الأصليّ، معنىً ودلالةً، سواء كان أدبياً، أو تقنياً، فلسفياً، دينياً، قانونياً، وما إلى ذلك من أنواع الخطابات في سياقات خضوعها للعمليات الترجميّة، حتى لا يقع المترجم تحت طائلة إعادة تأليف نصّ جديد، أو تحريفٍ من شأنه قلب المعنى المقصود، وبالتالي اعتباره تزويراً مُضَيِّعاً للحقيقة، مثلما تُقلبُ الوقائع الأصلية معه، ثم هكذا تفقد قوتها مع مرور الزمن، إن تم – مثلاً- فقدان النصّ الأصلي، أو لم يكن هناك من يراجع بشكل دقيق كلا النصين: المصدر، والهدف- معاً. وعسى تاريخ الترجمة أن يغدو حافلاً بالأحداث المرتبط منها تحديداً بهنّات الترجمة، وأيضاً بخياناتها ذات الصبغة الديبلوماسية والقانونية، التي خصصنا هذا المقال لتسليط الضوء على بعضٍ من أهم نماذجها وأغربها على منوال سريع ومختصر، نقدمه في الآتي: 1)- الكلمة التي فجّرت القنبلة الذرية في 26 يوليو 1945 نشرت قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية إعلان بوتسدام، الذي تناول شروط استسلام الإمبراطورية اليابانية وأكد أنه في حالة عدم استسلامها، فإنها ستواجه «دمارًا سريعًا وشاملًا». كان هذا البيان العام بمثابة إنذار كامل، حيث دعا رئيس الوزراء الياباني كانتارو سوزوكي إلى مؤتمر صحفي وقال ما يعادل: «لا تعليق. نستمر في التفكير في الأمر». المشكلة هي أن هذا ليس ما فهمه الحلفاء. فقد أخطأ سوزوكي وارتكب أكبر غلطة في حياته، بل وفي تاريخ اليابان باستخدام كلمة mokusatsu، التي يمكن أن تعني «لا تعليق»، لكنها يمكن أيضًا أن تحمل في الوقت نفسه معنيين، هما: «نتجاهلها، ونحتقرها». إثر ذلك، وبعد عشرة أيام فقط من المؤتمر الصحفي، حدث أنْ كشَفَ الرئيس ترومان للعالم ما يعنيه «الدمار السريع والشامل»، بإلقاء، ولأول مرة في تاريخ البشرية، أكبر قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناكازاكي. وإلى هنا، نجدنا أمام سؤال يفرض نفسه، مفاده: أوَلمْ تكن الترجمة والقراءة الصحيحتين لمعنى كلمة mokusatsu، كافيتين لتغيّران من مأساوية النهاية التي تعرضت لها امبراطورية اليابان، وامتدّ أثرها السلبي إلى قلب ملامح التاريخ، وتغيير منحاه رأساً على عقب؟! 2)- معاهدة وايتانغي قد تكون أخطاء الترجمة غير مقصودة أحيانًا، ويُحتَمَلُ في حالات أخرى مُعاكسة أن تستجيب لمصالح أولئك الذين يريدون تغيير المعنى الحقيقي لشيء ما. تشمل هذه المجموعة الأخيرة معاهدة وايتانغي، التي وقعها شعب الماوري النيوزيلندي عام 1840، وأدّت كنتيجة، بحكم الواقع، إلى تحويل الجزيرة إلى مستعمرة بريطانية. أمّا أحد تفاصيل هذه الواقعة فيعود إلى توقيع البريطانيين والماوريين نسختين من المعاهدة، واحدة باللغة الإنجليزية، والثانية باللغة الماورية. النسختان، كلتاهما، كانتا متشابهتين تقريبا، إلاّ في كلمتين: "بقاء/ خضوع". تقول نسخة الماوري إنّ السكان الأصليين يقبلون بِبَقاء البريطانيين على حساب الحماية الدائمة لهم من قبل التاج. بينما تقول النسخة البريطانية إنّ الماوريين يخضعون للتاج في مقابل الحماية البريطانية لهم. إذن، أمجرد خدعة هي كانت بالفعل، أم هكذا بالضبط، كان – هنا-، واقع ذلكم الحال؟ 3) الإمبراطورية المغربية الشريفة وإسبانيا ومعاهدة 1767 المملكة المغربية الشريفة، لم تسلم هي الأخرى من أخطاء الترجمة الكارثية؛ إذ يحتفظ لها التاريخ بصفحات عن قصّة سوء تفاهم كبير، أو خيانة عظمى، لم يستطع أحد إثبات أيًّا منهما بين الإمبراطورية المغربية الشريفة، والمملكة الإسبانية سنة 1775، بسبب حرف عطف (الواو)، أجهض حلم استكمال الوحدة الترابية وتحرير المغرب بالكامل من الاحتلال الأوروبي في الربع الأخير من القرن XVIII. بدأت القصّة عندما بادر السلطان محمد ابن عبد الله في التاسع من دجنبر من سنة 1774، إلى حصار مليلية المحتلة قصد تحريرها من المحتل الإيبيري في إطار مشروعه الرامي إلى استكمال الوحدة الترابية للامبراطورية الشريفة وطرد الكفار الأوروبيين من البلاد، فإذا به يفاجأ بملك إسبانيا يذكره بأنه قد عقد معه سابقاً معاهدة سنة 1767، تتضمن بنداً يدعو إلى الصلح برًّا وبحراً. فهل سلطان المغرب ناقض للعهود؟ لكن الحقيقة كما يرويها المؤرّخ المغربي أحمد ابن خالد الناصري في الجزء الثالث من كتابه: "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى"- (منشورات دار الكتب العلمية، بيروت:1971)، في الصفحتين (167) و(168)، ويؤكدها أبو القاسم ابن أحمد الزياني في كتابه: "الترجمان المقرب عن دول المشرق والمغرب"، بقوله: «لقد وجدنا نصا منه في كتاب " 1812 Le Maroc de 1631 á": ص: (79) عكس ذلك تماما». هذا الأخير يروي أنّ الإسبان بعدما وصلهم نصّ المعاهدة على يد كاتب السلطان ومبعوثه الخاص لدى ملك إسبانيا المسمى ابن غزال، حرّفوا النص المكتوب باللغة العربية الذي يقول مضمونه بأنّ «الصلح سيتم بحرا لا برا»، واستبدلوه ب «الصلح سيتم بحرا وبرا»، أي استبدلوا (لا/ النافية) بحرف (و)/ واو العطف. وأمام غياب النص الأصلي المكتوب باللغة العربية الذي وقعه الطرفان، رضخ السلطان المغربي للأمر الواقع ورفع في حينه الحصار عن مليلية في 19 مارس سنة 1775، خشية أن لا يُذكرَ في التاريخ بأنه ناقض للعهود. في نهاية الأمر كانت لقصتنا عن جانبٍ من قضايا الترجمة وإشكالياتها وكوارثها، تداعيات خطيرة أضرّت بالإمبراطورية الشريفة أشد الضرر، وأنهت حياة مستشار السلطان والسفير والأديب اللامع، صاحب كتاب "الاِجتهاد في المهادنة والجهاد"، أحمد بن مهدي الغزال، بعدما جَرَّدَه السلطان من مناصبه، بسبب تقصيره في عدم الاحتياط من عبارة كتبها في المُعاهَدة السابقة. مآل حزين هو في الحقيقة، ذاك الذي تعرّض له رجل شاعر، صال وجال وتقلّد أعلى المناصب وبلغ من المجد الكثير، فانتهى بإجباره على التزام بيته في فاس، وكف بصره، حتى وافته المنية بالمدينة نفسها، في فجر يوم الأحد 5 جمادى الأولى 1191 ه / 11 يونيو 1777. ثم هكذا دفع الثمن غالياً جداً، بإهماله في الحرص على تنبيه السلطان محمد ابن عبد آلله إلى التدقيق في الصياغة الأولى للنص العربي (بحراً، لا براً) التي يسهل تحريفها، إذ توجّب عليه طرح صيغة لغوية بديلة، واضحة لا لبس فيها، لا مكان فيها للتزوير، ولا للتلفيق أو التزييف، وكان عليه الوقوف على الترجمة الإسبانية للمعاهدة التي كانت تتضمن في بندها الأول عبارة: "بحراً وبراً"، لاسيما في هذه الحالة، حيث كان المترجم المكلف في المغرب وإسبانيا المسمّى "فرانسيسكو باتشيكو"، جنديا إسبانياً سابقاً، وقع أسيراً لعدة سنوات في سجون تطوان المغربية، ولم يكن يجيد الكتابة، ناهيك عن القراءة لهذه المعاهدة اللعينة التي يجب إخضاعها للبحث، من وجهة نظر علوم الترجمة وتاريخها، والتي ورّطت (عن طريق ترجمة فاسدة) المغرب في كوارث أخرى، تمثلت في تسهيل مساعدة إسبانيا على اختلاق حقوق تاريخية وهمية على المغرب، ظل يعاني منها إلى يومنا هذا الذي لا يزال يذوق فيه مرارتها في المحافل الدولية، كقضية سبتة ومليلية وسيادة المغرب على الأقاليم الجنوبية في الصحراء المغربية.. خصوصاً منها (الحقوق) البند المتعلق بالمادة 18 التي ترجَمَت بالغلط كلمة "أحكام"- بمعنى قرارات، بكلمة "حكم"، أي سلطة وسيادة. الشيء الذي ألبس المفاهيم لبوسا مختلطا، وأحالها إلى أن تصير حجة يتذرّع بها كل منازع للمغرب على سيادته على صحرائه، سواء من جهة الإسبان، أو من جبهة البوليساريو وصنيعتها الجزائر. كما أنّ ابن الغزال أهمل إهمالا جسيما، الحفاظ على النسخة العربية للمسودة التي ضيّعها رغم أهمّيتها، في حين كانت هي أساس المعاهدة الموقعة في إسبانيا بتاريخ 25 سبتمبر 1766 بينه وبين ماركيز غريمالدي. فضيحة الجزائري اسماعيل شرقي تتصف الترجمة الدبلوماسية، كما جاء على لسان الدكتور والمترجم حسيب الياس حبيب في الكتاب الذي ترجمه عن الإنجليزية لعدة باحثين في نفس المجال موسوما ب: "الترجمة الدبلوماسية": «بالأمانة العلمية، وذلك لأن المترجم ينقل معنى النص الدقيق المراد ترجمته، وهذا لا يعني أن المترجم يتصرف بالنص كما يشاء، بل على العكس من ذلك، يحافظ على روح النص دون المساس به. ولتحقيق النجاح في هذا المجال لا بد من توفر قطبين رئيسيين، هما: الإبداع، والمعرفة الفنية». إنّ عملية التلاعب بترجمة المعاهدات والمواثيق الدولية صارت عملية مستحيلة. فبالإضافة إلى أنّ المنظمات والهيئات الدولية تسهر على التدقيق في كل صغيرة وكبيرة عن طريق جيوش من المترجمين المتمرسين في حقل الترجمة والمدججين بالعلوم والتجارب اللازمة، كل هذا كي لا يحدث خطأ معين. أضف إلى كل ما سبق، وجود مرجعيات وأطر قانونية كاتفاقية فيينا التي وقعت في 23 مايو سنة 1969، ودخلت حيز التنفيذ في27 يناير سنة 1980، التي تنظم أجرأة المعاهدات بما فيها الترجمة، حيث أقرّت كما رأت في ملاحظة منها، أنّ مبادئ حرية الإرادة، وحسن النية، وقاعدة العقد، شريعة المتعاقدين معترف بها عالمياً، ولعل البند الثاني من المادة الأولى لهذه الاتفاقية المخصص لاستعمال المصطلحات، يبقى الأكثر حسما حين يؤكد على مبدأ "التصديق" و"القبول"، وعلى "الموافقة" و"الانضمام"، إجراء دوليا حاملاً لتلك المسميات، والذي تقر الدولة بمقتضاه على المستوى الدولي رضاها بالالتزام بالمعاهدات. وعسى التصديق والاتفاق والقبول بين الأطراف حسب فهمنا، بقدرتهم إزالة الغموض والضبابية في الوثائق المترجمة، وكذلك تجريم كل محاولةٍ للتلاعب بها. فهل هذا يعني أنه لم تكن هناك حالات تلاعب وتزوير في الهيئات والمنظمات الدولية المعروفة في الزمن الراهن؟ الإجابة قطعا لا. ففي سنة 2020 عرف المجتمع الدولي فضيحة من العيار الثقيل، كان بطلها اسماعيل شرقي، الذي شغل منصب مفوض الاتحاد الأفريقي للسلام والأمن من 2013 إلى 2021؛ إذ حاول تزوير وثائق غاية في الأهمية من شأنها تغيير موقف الاتحاد الأفريقي من قضية الصحراء المغربية، وقام بهذا بشكل انفرادي في محاولة منه للاحتيال والنصب على مسؤولي المنظمة. هذا الجزائري، إسماعيل شرقي، رئيس لجنة السلام والأمن التابعة للاتحاد الأفريقي، المعروفة اختصارا ب PSC، تم تكليفه بترجمة النسخة الفرنسية من مسودة البيان المكتوب باللغة الإنحليزية، وكان مزمعا تقديمه في قمة رؤساء دول الاتحاد الأفريقي في السادس من دجنبر 2020، تحت شعار "إسكات البنادق بالقارة الإفريقية"، لكن المسؤول الجزائري حاول بشكل غير مسؤول، في تصرف "أرعن لا يمت بأي صلة للأعراف والمواثيق الدولية"، إدراج تصريحات لصالح عصابة البوليساريو الانفصالية المدعومة من الجزائر في البيان الذي طلب منه ترجمته، وهو ما أنتج نسختين مختلفتين لنفس الوثيقة الصادرة خلال الاجتماع الخاص بلجنة الممثلين الدائمين للاتحاد الأفريقي. على هذا النحو، استغل المسؤول الجزائري الذي يمثل حالة اليأس للنظام الجزائري المعتنق لسياسة العداء المطلق للملكة المغربية، منصبه لتزوير النسخة الفرنسية من مسودة الإعلان التي ستقدم لرؤساء الدول والإعلام الفرنكفوني، حيث أضاف الجزائري في بيانه "المزوَّر" عبارة أن رؤساء دول الاتحاد الأفريقي يجددون التأكيد على «التزامهم الراسخ بإنهاء جميع تقلبات الاستعمار في إفريقيا والسماح بسرعة بتقرير المصير بالصحراء». بينما النسخة الأصلية باللغة الإنجليزية التي جرت الترجمة على أساسها لم تتضمن بتاتا أية إشارة من هذا القبيل! مع ذلك، فقد تأكد جليّا للجميع، أنّ المناورة اليائسة/ البائسة لاسماعيل شرقي، لم تنطلِ أبداً على ممثلي المغرب بالمنظمة القارية، الذين سارعوا إلى اتخاذ التدابير اللازمة لفضح هكذا ممارسات لا قانونية وتجاوزات لا أخلاقية، وأقاموا الدنيا قصد تنبيه رئاسة الاتحاد الإفريقي بهذا الجرم المخجل المشهود. وهو ما انعكس على مقترفه سلبا، بشكل كامل، أفقد الثقة به، بل إنّه دفع بكبار القادة إلى وضعه ضمن خانة غير المؤتمنين واللامسؤولين. ثم هكذا – ببساطة-، صار بهذه الجريمة التي كان ينوي تمريرها، لا يعلم أنها ساقته إلى انتحار سياسي كلفه شرفه أوّلاً، وأودى بنزاهته تالياً، ثم بمنصبه الراقي بعد ذلك، بل قُلْ إذا شِئت، إنّه أضاف إلى سلسلة مهازل الجزائر ومساوئها وفضائحها، عاراً جديداً لطخ به سمعة بلاده التي لها من العفن السياسي ما يشهد لها به القاصي قبل الداني. باحث مغربي متخصص في العلاقات المغربية الإسبانية