مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدستور أكله الحمار
نشر في هسبريس يوم 26 - 09 - 2013

اقتربت العطلة وقررت أن أرحل عند جدتي في البادية لأكمل إنهاء تحرير الأطروحة التي سأناقشها، أطروحة الدكتورة في موضوع الفصل بين السلط في النظام الدستوري.
جمعت بعض المراجع: دساتير وقوانين، ونصوص تنظيمية ورتبت أوراق مسودتي التي تشرف على النهاية في ملفات وقلت:" سأختلي بنفسي في البادية ولن أعود إلا بعد إنهاء تحريرها "، لم أتمكن من فعل ذلك طوال تواجدي في العمل.
الوقت مساء وأنا الآن أقترب من مسكن جدتي، لم أزره منذ أمد بعيد، كانت المسكينة تحبني بجنون، تخاصمت مع أبي وأمي منذ ارتحلا إلى المدينة، بل وتضامنت مع القبيلة ضد زواج أبي من قبيلة قتل أهلها جدي ، قلت زيارتها لنا، لكن أبي مازال يهاتفها بين الفينة والأخرى ليطمئن على حالها، دخلت الدوار وأنا أمسك بيدي اليمنى حقيبة أمتعتي و بيدي اليسرى محفظة ضمنتها مراجعي ومسودة أطروحتي تحلق حولي بعض الأطفال الصغار، ملابسهم بلون تراب القبيلة ومن عيونهم تنبعث شرارة الأمل سألتهم عن دار أمي الضاوية
فقال أحدهم : دار أمي الضاوية القديمة أم دار الشيخ.
رددت: أنا أريد أمي الضاوية
سمعنا أحد السكان نتحاور فاقترب مني ثم سألني دون مقدمات: هل أنت من عائلتها؟
- نعم أنا حفيدها
- أنت ابن حمادي
- أومأت إليه مؤكدا ذلك
كان هذا الرجل شابا في مقتبل العمر يرتدي نصف جلباب انتعل حذاء باهتا تحول سواده إلى اللون الرمادي تعلوه ألوان الوحل وروث البهائم
قال: تعال معي سأرافقك، أمي الضاوية امرأة كريمة
أمسك بسرعة المحفظة من يدي وسرنا نعبر أزقة الدوار:
روائح كثيرة تنبعث من المداخن
المشي في دروب القرية ليس بالأمر السهل لأن الطرق ليست معبدة فأمام كل دار سدرة من الشوك وأمام الأشواك ممرات ضيقة لا تسع الا للراجلين و سيول من المياه العادمة وبقايا مياه الأمطار وبعض الأوحال موجودة على الدوام.
كان صاحبي يسير بخطوات سريعة كأنما يود أن يتخلص مني أما أنا فقد كنت أتحاشى الحفر والمياه العادمة.
خلال مسيرتنا في الدروب كان يتحدث لى عن صحبته بوالدي وكيف درسا معا ، حكى لي عن هروبهما المبكر من المسيد وعن الأفعال التي كان يأتيها فقيه الدوار عندما يختلي بالأطفال، قال
كلنا كنا ضحيته ومع ذلك كان يصلي بآبائنا. حكى لي عن عشق والدي بأمي التي تنتمي لقبيلة قتلت جدي ، حكى لي عن جدي الرجل الوقور الذي مات من أجل أن يعيش أهل الدوار في أمان وكيف كان شجاعا وكيف طرد أبي من القبيلة حين علمت بزواجه من القبيلة التي طالما يتصارعون معها
انعرجنا قليلا ثم توقف وأشار إلى مقبرة وراح يحدثني:
هنا دفنت القبيلة جدك ومند ذلك الوقت لم يزره أحد!
نتنكر لهم أحياء وننساهم أمواتا ، لقد ترك جدك ثروة كبيرة من البهائم وترك أراضي شاسعة ، لكن كل شيء استولى عليه الشيخ بعد وفاة المرحوم وطرد حمادي وزواجه من الضاوية.
علمت بكل شيء حتى قبل أن أصل للبيت.
زلت رجل مرافقى في الوحل فتعثر ثم سقط أرضا . انفتحت المحفظة وتبعثرت الأوراق والمسودة والمراجع .النصوص القانونية هزها الماء، والدساتير تلطخت بالمياه العادمة ومسودة أطروحتي غمر الماء نصف أوراقها.
ودون أن أشعر وضعت الحقيبة جانبا وانحنيت أجمع أوراق مسودة أطروحتي المبللة ، مسحت بكمي مراجع النصوص القانونية وأخرجت أوراق الدستور مبلله وروائح كريهة تنبعث منها.
وقف صاحبي مجروح الركبة جلبابه ملطخ بالكامل ، وبدأ يعتذر عما وقع ويلعن حذاءه الذي كان السبب ويوجه اللوم لشيخ القبيلة الذي لم يعمل منذ موت جدي سوى على جمع النسوان والغنائم ، وفسر لي أن هذه الطريق هي على حالها منذ الاستعمار فهي لم تتغير ولم تتجدد وأردف متهما إسكافي الدوار بأنه غش في غراء الحذاء وأنه لن يفلت من العقاب حين يعود مرة أخرى
قاطعت غضبه وأنا أستسلم لقدري و ألم أوراقي وأمسحها فسألته : أمازال منزل جدتي أمي الضاوية بعيدا؟
أشار لي وهو يمسح بقطعة كارطونية بعض الوحل العالق بالجلباب: هناك....!
وأشار إلى سفح جبل.
وضعت ملفات مسودتي ورقة ورقة على صخرة. ووضعت عليها حصى صغيرة حتى لا يغمر الماء ما تبقى من حروفها المدادية.
الأقلام التي سأكتب بها ما تبقى من أطروحتي لم تعد صالحة .
فتحت الكتب المبلله ، و فتحت فصول الدستور فصلا فصلا ، وضعت بين كل فصل وآخر عصا صغيرة، وفتحت المحفظة الجلدية التي غمرتها المياه العادمة بالكامل تحت أشعة الشمس الحارقة
أما صاحبي فرأيته يخلع جلبابه و يمسح ما بقي به عالقا من الوحل ثم يعلقه على سدرة شوكية
وتحت ظل شجرة جلست وصاحبي أفكر فيما سأفعل بعد الآن
قال صاحبي : مالي أراك حزين، أهذه الأوراق مهمة لهذه الدرجة ؟
قلت: ياصاح إن فيها مستقبلي ومستقبل البلد.
قال متهكما : ومنذ متى كان مستقبل البلد مكتوب على الورق!
قلت في نفسي : لايمكن أن يكون هذا الرجل سادجا كما أعتقد. لكن كيف أفسر له أن فصول الدستور وأوراقه المبلله هي التي يحتكم إليها في كل الدول الديموقراطية؛ وأن الدستور أسمى قانون ، كيف أجعله يقتنع وهو عاش عن قرب فصول حكاية جدي وجدتي والشيخ والقبيلة والفقيه الذي يأتي الأطفال والنساء دون تمييز،
ابتسم بمكر وقال:
لا تحزن الشمس هنا حارة وستجفف جميع الأوراق ثم راح دون استئدان يعيد تشتيت الأوراق الواحدة أمام الأخرى وعلى كل واحدة يضع حصاة صغيرة حتى لا يحملها الريح.
تجمدت في مكاني وأنا أرى الأوراق تفصل و تقطع من الكتب وتوضع على الأرض، ثم قال: هكذا نعمل بأوراق اللعب «الكارطا» عندما تتبلل ثم نجمعها مرة أخرى لنلعب بها .
قلت له : يا صاحبي هذه ليست كأوراق اللعب إنها....
قاطعني وهو يواصل تقطيع الأوراق المبللة قائلا: أعلم !أعلم! تريد أن تقول إنها رقيقة جدا تشبه أوراق قالب السكر ، لكن لا عليك.
لا أعرف من أين بعث هذا الرجل و من أرسله لي في هذه القرية ؟!
لما انتهى التفت إليه قلت : لقد تعبت وماعدت أقوى على السير راجلا وسأبقى هنا بجانب الأوراق حتى تجف.
قال بتأدب :أأحضر إليك الحمار من منزل أمي الضاويةَ !
قلت : إذا كان الأمر كذلك فأعتقد أنه الأنفع .
جلست انتظر أن تجف مسودة أطروحتي وأتسائل كيف أعيد تنظيم أوراق مراجعي القانونية كيف أجمع مافصله صاحبي فجأة ؛ هبت رياح قوية فانسلت الأوراق جميعها من تحت الحصى وتطايرت في الهواء. وتهاوت المحفظة وسقط الجلباب من السدرة فأسرعت لتجميع الأوراق دون ترتيب ثم أعدتها للمحفظة .
رأيت بعض فصول الدستور ترتفع عاليا و بعضها تدروه الرياح وبعضها الأخر ما زال مشدودا بالعيدان أما أوراق النصوص القانونية فابتعدت وتلونت بألوان مداد مسودتي التي ما تبقى فيها غير الاسم.
جمعت كل الأوراق في محفظتي التي مازال رائحتها تزكم الأنوف وأزيز من الذباب يحوم حولها أعدت الجلباب إلى السدرة الشوكية وجلست .
ها هوذا صاحبي يعود بحمار من دار جدتي، امتطى صاحبي الحمار ووضع حقيبة ملابسي أمامه وأمسكت محفظتي المبلله حتى لا يسقطها مرة أخرى ثم انطلقنا في رحلة جديدة.
كل أوراقي مبلله وبلاد جدي سرقها الشيخ وفصول الدستور مشتتة وأوراق القوانين غمرها المداد اللعين . وجدتي التي أحب أعلم قبل أن أراها أنها ارتمت في حضن شخص آخر ولم تبال قط بولدها الذي أتعبته أزقة المدينة الضيقة وقلة ذات اليد والمطاردة اليومية للقوات العمومية؛ علمت كذلك أن أبي تزوج ضد كل العادات والتقاليد وأن هذا الرجل الغريب الذي أمامي خرب مستقبلي.
ماهي إلا بضع ساعات حتى وصلنا دارا قصيرة بنية اللون بابها واسع.
نزل صاحبي الحمار ثم طرق الباب بقوة، ونادى بأعلى صوته :
أمي الضاوية افتحي الباب، ابن حمادي وصل !
انتظرنا لبعض الوقت فإذا بامرأة في السبعين ونيف من عمرها تفتح الباب.
تقدم صاحبي وانحنى ليقبل يدها وخاطبها : هذا ابن حمادي جاء من المدينة ، لقد وجدته يبحث عن المنزل، ثم التفت جهتي وعرفني بدوري على هذه المرأة مخبرا إياي بأنها جدتي الضاوية التي أبحث عنها وأردف بأنها تعيش مع زوجها فقط.
قبلت بدوري يد جدتي ورأسها وتأملت وجهها الذي رغم التجاعيد مازال يشبه في ملامحه وجه أبي دخلنا البيت فارتفع نباح كلب كبير السن طردته جدتي للخارج قلت لصاحبي هل في كل دار كلب .
نعم ولكل راع كلب ثم سرد لي كيف أن من عادة القبيلة أن يمتلك كل راع كلب وأن يقوم هذا الكلب بحراسته وحراسة قطعانه من التيه والضلال وأن الكلاب توجه القطعان للزرائب حتى عندما ينام الراعي. وأضاف بأن الكلاب هنا يمكنها أن تبيع القطيع كله للذئاب. ويمكنها أن تأكل الراعي .
دخلنا الغرفة الأولى من الدار كانت كبيرة جدا في ركن من أركانها رجل مسن تدلت لحيته البيضاء ، تقدم صاحبي ليسلم عليه فتقدمت وراءه قال صاحبي بصوت مرتفع : عمي الشيخ هذا ابن حمادي ابن أمي الضاوية.
لم يكترت الشيخ بوجودي. فسأل صاحبي عن أخبار الكلب وأخبار قطعان الغنم. ولما اطمأن سألني عن حمادي وما إن كان ما زال يرفض الاعتراف بأنه زوج أمه.
كان الشيخ يتحدث في غضب فيرفع صوته حينا ويخفضه أحيانا
بعد برهة أحضرت جدتي برادا من الشاي المنعنع رأيتها تمد صاحبي كيسا وتشكره على معروفه، وتودعه. طلبت منه أن يعيد ربط الحمار في الإسطبل ثم ينصرف.
فتحت محفظتي وأزيز الذباب ما زال يرافقني وروائح نتئة تنتشر في الهواء أخرجت كل الأوراق مختلطة بعضها ببعض ومبلله وقد علا مسودة أطروحتي مدادا أسود داع و انطلى على جميع أوراق مراجعي المشتتة
حكيت لجدتي على سقوط محفظتي في المياه العادمة وكيف تبللت أوراقي وقالت : لا عليك ياولدي سأعطيك كناشا من أوراق جديدة وغير مبلله فلتتخلص منها وتكتب ما تشاء.
جدتي هذه الأوراق ليست كأوراق كناشكم. هذه الأوراق فيها....
ضحكت جدتي وقاطعتني : أنت مازلت صغير ولا تفهم أن الأوراق الجديدة أحسن من الأوراق المكتوية والمبلله بالمياه العادم
قال الشيخ: أصمتي يا امرأة ما أدراك ذلك.
قلت له بصوت مرتفع، أنا يا عمي ابن حمادي جئت عند جدتي لأستريح من عناء المدينة لكن للأسف ضاعت مني في الطريق أوراق ثمينة.
التفتت جدتي إلى الشيخ وقالت : اصمت فأنا منذ الأمس أشعر برفيف في عينى اليمنى ورأيت في المنام أن زوجي المرحوم يمد لي شيئا ما ويوصيني به.
قلت لها : جدتي أرجوك أريد تجفيف أوراقي لأتمكن من تجميعها و قراءتها.
طلبت منى أن اصحبها للغرفة الثانية ففيها قليل من التبن وبعض الأواني القديمة وحصير يمكن استعماله لتجفيف أوراقي ووثائقي.
أعدت نشر جميع الأوراق على الحصير القديم في ركن من أركان البيت وفتحت نافذة صغيره لانسلال الهواء وأنا كلي أمال لتجف وأتمكن من إعادة قراءتها وإتمام المهمة التي حضرت من أجلها
قالت جدتي : لا تحزن لا أحد يمكنه أن يصل هذه الغرفة الثانية.
عدت لشرب الشاي وتناول الغداء مع عمي الشيخ فنسي سبه وشتمه وشكه وحدثني عن أيام السيبة مؤكدا أن لا فرق بين الأمس واليوم وأكد لي أن الأيام الغابرة أفضل من الآن رفعت رأسي للحائط فوجدته مزينا بصور قديمة متأكله رآني أرمقها فقال هل أعجبتك؟
قلت متظاهرا :نعم إنها جميلة.
دنا مني وبدأ يشرحها لي بعكازته فقال هذه زليخة أمرأة العزيز تغوي سيدنا يوسف وزوحها العزيز بينهما ، وانتقل للصورة الثانية ثم قال : وهذا مولاي عبد القادر الجيلالي وذاك سيدي رحال البودالي نفعنا الله ببركتهما .هذا سيدنا سليمان مع جيوشه من الإنس والجن والعفاريت وهذا سيدنا علي يرفع رأس الغول.
سرنا نتجول ببصرنا في الغرفة الأولى بين الأنبياء والأولياء والرسل والعفاريت والجن والغول والحكايات التي تحفظها ذاكرة عمي الشيخ ، أحسست أنه يرويها بيقين كبير من صحتها ثم أردف وقال : لقد اشتريتها من السوق منذ الاستعمار ووضعت لها إطارات خشبية وها هي مازالت ترافقني على حالها إلى اليوم . فهي لا تتبدل ولا تتغير.
التفت جهة الشرفة فوجدت رسوم رموز بجانب هذه الصور ، عددتهم فكانوا 33 رمزا
لاحظ عمي الشيخ أنني أحذق في الرموز ثم قال: تلك صور أعطاها لنا السيد القائد ووضعتها بجانب صوري المفضلة لكني لم أفهم ما علاقة ميزان الماء بالقنديل والحمار ، ولماذا يوجد التمساح بجانب الشاة.
انسللت لأطل على أوراق مسودتي وأوراق كتبي المنشورة بعناية في الغرفة فوجدتها بدأت تجف و رأيت مدادا كثيرا سال عليها جميعها فاختلط فيها الأزرق بالأحمر بالأسود. تركت باب الغرفة مفتوحا ليسرع الهواء جفاف الأوراق
فسمعت عمي الشيخ في خصام مع جدتي حول المكان المناسب للصور، ثم تدخلت بينهما مؤكدا ضرورة حسن المعاملة بينهما.
رأيت يد عمي الشيخ تمتد لعكازه ورأيت جدتي تشمر عن ساعدها فوقفت بينهما متوجها تارة لجدتي وطورا لعمي وطلبت منهما الهدوء .
لا يفهم الإنسان سبب خصام شيخين بلغا من العمر أرذله وليس بينهما أولاد ولا أحفاد.
كل ورثة أولاد عمي الشيخ يوجدون خارج الوطن، وجدتي تركت ابنها وحيدا يتسكع في أزقة المدينة
سيدي الشيخ إعلم أن هذه الغرفة الأولى ليست بأحسن حال من الغرفة الثانية، فماذا يضرك إذا وضعت صورك ورموزك في الغرفة الثانية,
خبط الشيخ بعكازته على الأرض كما يفعل القاضي أمام المتهم ثم قال:
الغرفة الثانية غير مؤمنة وأنا لن أضع فيها حاجياتي، الغرفة الثانية تنسل إليها البهائم إن ليلا أونهارا
طال النقاش بيني و بين عمي الشيخ أعجبت به كيف يدافع على أن تبقى صوره معلقة في الغرفة الأولى وكيف كان يخاف الذهاب للغرفة الثانية، أما المطبخ فلم يكن محل خلاف لأنه لا أحد منهما يعلم مكان وجوده.
تذكرت أوراقي التي نشرتها في الغرفة الثانية وتذكرت أنني تركت الباب مفتوحا فهرولت دون أدري؛ وجدت دجاجا وكتاكيت وإبط تتجول على الورق ووجدت الحمار الذي ركبته عند مجيئي يلتهم الشعير من الكيس وقد وضع بعرا كثيرا على ما تبقى منها رأيت الكلب بأم عيني يتمرغ على أوراق الدستور.
صحت في وجه الدجاج والحمار والكلب: إنكم تطؤون الدستور والقوانين ومسودة أطروحتي
هيا اخرجوا من هنا.
أسرع الكلب فأغلق باب الغرفة الثانية بإحكام وعضني من قفاي ثم دفعني بقوة نحو الحمار.
وجه الحمار ركلة قوية لبطني ألقتني على الأرض مغشيا على. شعرت بالديك يصيح على رأسي معلنا حلول الظلام .سمعت الدجاجات تقوقأن
قلت في نفسي، القوانين تداس وفصول من الدستور تمضغ و مستقبلي ضاع وهذه الحيوانات تضحك.
أحسست بأياد حديدية تمسكني من كل أطراف جسمي وأياد قوية أخرى تجبرني رغم أنفي على بلع ما تبقى من أوراق مسودتى ومن فصول الدستور ومن النصوص القانونية
أحسست بجسدي مصلوبا، رأيت بعضهم قد أمسك جدتي كما تمسك الجارية، رأيت عمي الشيخ يطوف بين أولياء الله فتيقنت بأنه من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.