قالت أمي وهي تشير إلى النبتة التي تسميها «الكَحلة» تخفيفا للفظ الكحلاء: - هذه الكحلة فأل شر. ضحكتُ ولم أعلق. أضافت: - البيت الذي تُزرع فيه الكحلة تصيبه العين. قلت باستغراب: - كأنك تتحدثين عن ضرّة. ... منذ أن زرعت تلك النبتة ذات الأوراق البنفسجية المحمرة، والمصائب تتوالى علي: وقعتُ عن السلم وأنا أدق مسمارا في مكان مرتفع من الجدار فانكسرت رجلي في منطقة الكاحل. في اليوم التالي مات عمي في حادث سير مروع. في اليوم الثالث اصطدمت سيارتي بسيارة أخرى، ولولا لطف الله لكنت الآن ميتا. في اليوم الثالث عشر فوجئت بأن شجرة الأسكدنيا في حديقة بيتنا بدأت تجف بطريقة محزنة، ولم تمض سوى ثلاثة أيام حتى انقصفت ساقها ووقعت على رجلي المكسورة لتزيد من كسرها. بعدها توالت عثراتي، ولم تسلم أمي وحتى جاري من موسم المصائب الذي حل ببيتنا وما حوله. تنهدت أمي، قالت: - الكَحلة هي السبب. في تلك الليلة لم أنم، أيمكن أن تكون نبتة كتلك وراء كل ما حدث؟ خرجت من غرفتي، تمشيت في الحديقة، نظرت إليها، كانت الكحلاء نائمة، أغصانها مسبلة ولا يوجد ما يشير إلى يقظتها، اقتربت منها، لمست أوراقها، كانت ملساء ناعمة، لكنها ظلت على حالها، راخية أوراقها بوداعة ودعة، وحين وصفت لأمي ما رأيت، هزت رأسها بطريقة النساء الكاهنات، وقالت بنبرة من تتحدث عن امرأة أخرى: - كذابة، ما كانت نائمة. وأنهت حديثها بأن وصفت الكحلاء قائلة: - ساهية وداهية. أعادتني تلك الكلمات إلى شهور خلت، فبعد أن زرعت الكحلاء في حديقتنا صارت أمي تحلم بجدتي التي توفيت قبل أعوام طويلة وتناديها بلوعة وخوف أثناء نومها، ليس هذا وحسب، إنما أصيبت بالاكتئاب بعد أيام من زراعتي تلك النبتة، وصارت تضع كفها على خدها وترقبها بقلق. كان بوسعها أن تقتلعها من دون استشارتي طالما أنها تقلقها، لكنها لم تفعل. ما أثارني أن الأمر امتد إلى جيراني الذين يلاصق بيتهم بيتي، فالرجل المتقاعد الذي يسكن لصق بيتي، أعجبته تلك النبتة الغاوية، وطلب مني إحدى فسائلها، ففسخت له واحدة منها، أخذها بامتنان وزرعها في أحد احواض حديقته، ولم يمض سوى بضعة أيام على زراعته لها حتى سمعت صياحا في بيته، نساء وأطفال وشبان يصيحون ويولولون بعد انتصاف الليل، وحين ذهبت لأرى وجدت الرجل ميتا.. ورأيت الكحلاء على حالها في حوض بيته، أوراقها مسبلة كأذني كلب بريء لم يفعل شيئا. عندما عدت إلى بيتي، أحسست بأنني خرقت خطا وهميا يربط بين النبتتين في بيتي وبيت جاري، ولو كان ذلك الخط بقوة خيط لتعثرت به وربما سقطت على رجلي التي كسرت قبل ذلك. أرقتني تلك الكحلاء، وقررت التخلص منها بقطعها، هي وتلك التي في بيت المغدور جاري، لكن أمي صاحت بي حال رؤيتها لي وأنا أهم باجتثاثها، قالت بأن قطعها سيجلب لنا الويل والثبور، فوجدتني أبتعد عنها وأقترب من أمي وأسألها: - كيف لي أن أتخلص من هذه الورطة؟ فإذا أبقيتُها جرّت علينا العثرات وإذا قطعتها جلبت لنا الويلات. فقالت: - انتظر حتى تموت من تلقاء نفسها عند انتهاء الفصل، فهي من الحوليات التي تموت بانتهاء الصيف. صوت أمي كان عميقا وهامسا، كأنما خشيَتْ أن تسمعها الكحلاء. صرت انظر الى تلك النبتة من طرف عيني كلما خرجت او دخلت الدار، أحيانا أسير على رؤوس أصابعي، واشعر بأن لها عيون تراقبني، وذات ليلة سمعتُ أزيزها المتصل، ومع ان امي قالت بأن ذلك الأزيز صادر عن صرصار ليلي لا يمل ولا يتعب، الا انني أحسست بأن الصوت يخرج من مفاصل أوراقها الملساء. انتظرت حتى شارف الصيف على الانتهاء، ورأيت بفرح أوراقها وهي تجف، كان جفافها مختلفا عن سواها من النباتات، فقد ظلت تصدر صوتا أقرب إلى صوت التكسر كلما لامسها الهواء، أما أنا فأحسست بأن روحها غادرتها إلى غير رجعة، ولم يبق سوى أوراقها وأغصانها الرفيعة التي يبست. مصيبة واحدة حدثت بعد موت الكحلاء، فقد انفجرت أسطوانة الغاز في بيت جارنا المتوفى من دون أن يصاب أحد بأذى. قلت لأمي: - ماتت الكحلاء ولم تتوقف المصائب. قالت: - كل ميت يخلف أثرا، وهذه خاتمة الأحزان بإذن الله. بعدها لم أعد أتعثر، فارقتني المصائب، حتى انني ازددت إقبالا على الحياة، شفيت أمي من مرضها ولم تعد تنادي جدتي الميتة أثناء نومها، ورأيتها ذات صباح وهي تحمل مجرفة تجمع بها بقايا الكحلاء الميتة وترابها، وعندما وصلت الى جذورها المتعفنة، لملمتها مع التراب وبقايا الاوراق والاغصان الناشفة في كيس، وطلبت مني القاؤه بعيدا بعيدا عن بيتنا، ولكن قبل ذلك، أوصتني بأن أقرأ آية الكرسي ثلاث مرات. عدت إلى بيتي بعد أن تخلصت من الكيس وما فيه، فوجدت أمي ساهمة وعلى وجهها معالم توجس وانخطاف، سألتها عما بها فأجابتني: - ألا يمكن أن تكون بذور الكحلة قد تبعثرت واختبأت في تراب الحديقة كي تنبت في الربيع القادم؟.