أعتقد أن الرأي السائد والذي مفاده بأنه لا يحق للحكومة فرض إجبارية التلقيح رأي غير سليم لسببين: أولهما، أن "حجج" المعارضين للتلقيح الإجباري ضعيفة جدا. وثانيهما، أن دواعي التلقيح الإجباري قوية جدا. وهذا تفصيل رأيي وبيانه. ملاحظة منهجية عبد ربه، كاتب هاته السطور، ليس متخصصا في علم الأوبئة، والرأي الذي أدافع عنه هنا سياسي (مرتبط بالقرار السياسي) وليس طبيا. لذلك فكلما كنت محتاجا لرأي طبي، سأشير للأبحاث التي نشرها العلماء المتخصصون في الميدان. حجج المعارضين للتلقيح الإجباري حجج المعارضين للتلقيح الإجباري هي كما يلي: اعتراض "جسدي ملكي": "جسدي في ملكيتي، ويحق لي أن أرفض التلقيح إذا ما شئت". اعتراض "فلتبتعد عني إذن!": "إذا كان أحدهم يخشى أن يلتقط العدوى مني، فما عليه سوى أن يمتنع عن الذهاب إلى الأماكن العمومية. لا ينبغي حرماني من الفضاء العمومي بسبب خوف هؤلاء". "تلقيحي لن يحميك مني": "التلقيح لا يعني عدم حملي للفيروس. فقد يصاب الناس بالعدوى من الاختلاط بي حتى ولو كنت ملقحا". اعتراض "الجرعة الموالية": "في كل مرة يفرضون علينا جرعة إضافية. فمن يضمن لنا أن لا يفرضوا علينا جرعة رابعة بعد الثالثة، وسادسة بعد الخامسة؟". "المعلومة الناقصة": "ينبغي أن تتيح الحكومة معلومات وافية حول تطور الوباء وحول التلقيح وأن ترد على الإشاعات حول المتضررين من التلقيح قبل أن تفرض التلقيح الإجباري إذا كان هذا التلقيح ضروريا". "الديمقراطية أولا": "ينبغي أن يمر اقتراح التلقيح الإجباري من البرلمان من أجل التداول فيه وموافقة البرلمان عليه، قبل أن يقرر في شأن فرضه أو رفضه". الرد على هاته الاعتراضات أرى أن هذه الاعتراضات ضعيفة من أوجه متعددة، وهذا تفصيل لرأيي في ضعفها: أولا اعتراض "جسدي ملكي": هذا اعتراض غير سليم لأكثر من سبب واحد: أولها أننا إذا افترضنا أن لكل فرد حرية مطلقة في الإضرار بجسده، فينبغي أن نسمح ب"حرية الانتحار" وأن لا نسمح للقوات العمومية بمنع مُقْدِمٍ على انتحار يريد أن يلقي نفسه من بناية شاهقة بهدف وضع نهاية لحياته. وإذا سلمنا بأن للجماعة حق على الفرد في عدم تشجيعه على الانتحار وفي حمايته من وضع حد لحياته، فينبغي أن نقر بحق الجماعة (بل بواجبها) في تقييد إطلاقية حرية الفرد في الإضرار بجسده: ما هي حدود هذه الحرية؟ هل تتسع إلى مستوى "عدم التلقيح" مع ثبوت وجود الوباء؟ هذا أمر يُناقش، ولكن إضفاء طابع الإطلاق على هذا الحق لا ينسجم مع إيمان الكثيرين ممن يعارضون التلقيح بحق الجماعة في منع الفرد من الضرر. من أوجه فساد اعتراض "جسدي ملكي" أيضا أن من يمارس "حقه" في عدم أخذ التلقيح لا يصرح بما إذا كان أيضا يؤمن ب"حقه" في العلاج على حساب دافع الضرائب إذا ما أدى عدم تلقيحه إلى الإصابة بحالة حادة من المرض اللعين. فالعديد ممن كان لا يؤمن بوجود الفيروس الخبيث، أصيب بالمرض وبعضهم توفي بسببه، والعديد ممن يرفضون التلقيح قد يصابون به بل بحالة حادة منه. فهل من حق هؤلاء المعترضين أن يعالجوا على حساب أموال دافعي الضرائب في المستشفيات العمومية إذا ما أصيبوا بالمرض؟ إذا اعتقدت بأن من حقك أن تقول "جسدي ملكي"، فإن من واجبك أيضا أن تتحمل نفقات مرضك بشكل شخصي إذا ما أنت أصبت بالمرض. إذا اعترضت على التلقيح لهذا الاعتبار، فلتعلن أيضا تخليك عن حقك في استعمال أموال دافعي الضرائب في معالجتك. ثانيا اعتراض "فلتبتعد عني إذن!": هذا أيضا اعتراض ضعيف من أوجه. أولها أن مُبديَ هذا الاعتراض يفترض أنه إذا كان بإمكان الأفراد أن يتجنبوا أذاه، فإن من حق أن يمارس هذا الأذى ويستمر في ممارسته. فيكون بذلك أشبه ما يكون بسائق سيارة يسوق سيارته بجنون (خارقا القانون المحدد للسرعة) سائرا بها يسارا (خارقا بذلك قانون السير يمينا)، فيعترض على كل من يلومه على صنيعه بأن من واجب من يسوق سيارته من الاتجاه المعاكس أن يتجنب سياقة سيارته أصلا إذا ما هو أراد تجنب الاصطدام به، وأنه (أي السائق الآتي من الاتجاه المعاكس) إذا لم يفعل ذلك يتحمل مسؤولية الاصطدام! هذا عبث في الكلام وجحود مذموم. وأصل العبث والذِّمَّة فيه أن صاحبه يفترض حقه في أذيته الناس إذا هم لم يتجنبوا أذاه. والصواب أخلاقا أن المؤذي عمدا يُلام على أذيته للناس حتى إذا لم يستطع الناس تجنب أذيته، بل قد يزداد لومنا له بقدر ما لا يستطيع الناس تجنب أذيته. ثالثا اعتراض "تلقيحي لن يحميك مني": في هذا الاعتراض مغالطة. والمغالطة فيها أنها تفترض بأن مطلب عدم ولوج غير الملقح للفضاء العام هو لأجل حماية غيرهم من العدوى، في حين أن غاية فرض الإجبارية دفعٌ لغير الملقح إلى التلقيح احترازا من عودة الفيروس (واحتمال عودته وارد) وارتفاع عدد حالات الإصابة والوفاة به (وارتفاع هذا العدد عند عودته أكيد) والعودة إلى الحظر والحجر (وعودة المجتمع إليهما مدمر). وقد ثبت بالفعل بأن فرض الإجبارية بمنع غير الملقحين من ولوج بعض الفضاء ات العمومية رفع عدد الملقحين بعشر مرات تقريبا وبأن ارتفاع هذا العدد يؤدي دائما إلى انخفاض حالات الإصابة والوفاة. كما أثبتت العديد من الدراسات العلمية أن إمكانية الوفاة بسبب الصيغة المتحورة من الفيروس تنخفض بحوالي 11 مرة عند الملقحين بالمقارنة مع غير الملقحين (اقرأ خلاصة لأحد هاته الأبحاث هنا)، وأنه فعال في المتلازمة التنفسية لكورونا فيروس 2 (اقرأ خلاصة لأحد هاته الأبحاث)، وأنه يمنع الأعراض الحادة للفيروس بصيغتيه الأولى والثانية (اقرأ الخبر هنا). لذلك فلا يشكك من نجاعة هذا الإجراء الاحترازي إلا من جهل نتائجه أو من كان يرغب في استدامة حالات الحجر والحظر، بالدعوة إلى ما ينتج عنه من ارتفاع حالات الإصابة والوفاة تمهيدا للعودة إلى الحجر والحظر وما ينتج عنهما من تدمير تدريجي (ولكن كبير) لاقتصاد البلد. رابعا اعتراض "الجرعة الموالية": الذي يضمن أننا لن نحتاج على الأرجح لجرعة "رابعة" هو أن الدراسات تثبت أن الجرعة الثانية كافية في حد ذاتها، فاللجوء إلى الثالثة ليس بسبب عدم نجاعة الأولى والثانية (اقرأ الخبر هنا) بل وقاية من عدم استجابة بعض الملقحين لها واحتراز من عدم كفاية الأولى والثانية لبعض المتحورات. فالاعتراض، إذن، مبني على فهم غير علمي لدور الجرعة الثالثة. خامسا اعتراض "المعلومة الناقصة": هذا الاعتراض مشروع بقدر ما يطالب بالحق في المعلومة، وخاطئ بقدر ما لا يحدد طبيعة "المعلومة" المُطالب بها. فهل المطلوب ضرورة رد الحكومة علميا على الإشاعات التي تسمع هنا وهناك حول تضرر بعض المواطنين من اللقاح؟ إذا كان الأمر كذلك فهذا مطلب مشروع في نظرنا، ونرى أن الحكومة قد قصرت في هذا الجانب. وإذا كانت المعلومة المطلوبة تقديم نشرة يومية حول الحالة الوبائية، فهذا الاعتراض غير منصف لأن الحكومة تقدم نشرة تفصيلية يومية بذلك. وإذا كانت المعلومة المطلوبة تبرير سياسات الحكومة بنشر الأبحاث التي بنت عليها قراراتها وسياساتها بشكل تفهمه عامة الناس فهذا أيضا مطلب مشروع قصرت فيه الحكومة ولكن تقصيرها لا يبرر الاعتراض على سياسة من شأنها أن تحد من انتشار وباء يهدد بالتدمير الشامل للاقتصاد والصحة كليهما. سادسا اعتراض "الديمقراطية أولا": أوجه الضعف في هذا الاعتراض كثيرة، منها أن أغلب المعترضين على عدم تداول مسألة إجبارية التلقيح اليوم لم يعترضوا على سياسات الحجر والحظر أمس وهي أشد وأمس بحرية الناس. فإذا كان قبول الحجر والحظر بسبب الطابع الطارئ والمستعجل للوباء، وإذا كان طابع الطارئية والاستعجال يبرر التدخل السريع الذي لا تداول فيه، فلماذا لا يبرر هذا الطابع قرار التدخل السريع الذي لا تداول فيه بخصوص وضعية هي أخطر من بداية انتشار الوباء (لما فيها من إمكانية عودة الفيروس بشكل أكبر وأفتك)، والذي مستوى حده من الحرية هو أقل بشكل كبير من حيث عدد من تُحَدُّ حريتُه (غير الملقحين فقط) ومن حيث مجال الحد من الحرية (الفضاء ات العمومية فقط)؟ من ذلك أيضا أن هذا الاعتراض يفترض أن التداول الديمقراطي لازم حتى في الوضعيات الكارثية وحتى عندما يكون المتدخل حكومة منتخبة ديمقراطيا. لكن ألن ينتج عن هذا الرأي المتطرف أن تُطالب الحكومة بأن لا تتدخل إذا اندلعت النيران في غابة كبيرة من غابات المملكة (كما حدث في الجزائر مثلا) إلا إذا تُدووِل ديمقراطيا في شأن السياسة التي ينبغي اتباعها في إخماد النيران؟ ألن تأتي النيران على الأخضر واليابس قبل أن يكمل البرلمان نقاشاته ومداولاته؟ ألن نعود إلى حالة آلاف الإصابات ومئات الوفيات (لا قدر الله) قبل أن ينتهي البرلمان من نقاشاته المضمونية والشكلية في ظل وضعية وبائية هشة قد تنذر بظهور متحورات جديدة لن تكون نتيجة انتشارها سوى العودة إلى إجراءات قاسية على اقتصاد البلد؟ الديمقراطية وسيلة نحسن بها ظروف العيش الكريم للمجتمع، وليست غاية في حد ذاتها. إذا كنت مُخَيّرا بين أن لا يحترق أبنائي بنيران الوباء ومناوشات البرلمانيين تحت قبة البرلمان، فسأختار حياة أبنائي.. لأن استمرارهم في الحياة ضروري لاستمرار مؤسسة الديمقراطية نفسها. تذييل ضروري نفترض عن حسن نية أن الاعتراضات التي ناقشناها أعلاه تعبر عن الأسباب الحقيقية التي تدفع أصحابها إلى الاحتجاج على سياسة الحكومة في التعامل مع الوضعية الوبائية.. ولكننا واعون كل الوعي أن الأسباب الحقيقية لكثير من المعترضين ليست هي بالضرورة ما يعبرون عنه بأقوالهم.. فهناك من يعترض على التلقيح لأنه يؤمن بإحدى نظريات المؤامرة المعروفة (ومعظم هؤلاء قليلو ذكاء لا يعتد برأيهم)، وهناك من يعترض عليه لأنه يُمَنّي النفس باستمرار الوباء حتى تثبت "رؤيته" في كون الوباء "جند من جنود الله" بعثها ليدمر بها الملكية المغربية، وهناك منهم من يؤمن بأن حل مشكلة الوباء هو تناول المزيد من القرنفل.. وهناك من يتبع كلام أغلبية الناس استرضاء للعوام ومحاولة للاستقواء بهم... وهناك أخيرا من يعترض فقط لأن أخنوش هو رئيس الحكومة. وهذا مربط الفرس.