عامل رئيسي في إعداد الأمة لمواجهة تحديات العصر لقد ساد الاعتقاد لردح طويل من الزمن أن ثراء الأمم و رفاهية الشعوب إنما تقاس بوفرة الموارد الطبيعية و المعدنية و الحيوانية التي تمتلكها و ما يتيحه ذلك من تكديس الأموال و توفر الرساميل. كما قد ترسب في الأذهان لحد الساعة أن ثمة تعالقا وتلازما بين وفرة الموارد من جهة و النمو الاقتصادي و التحول الاجتماعي و الارتقاء الفكري و التحول الحضاري من جهة أخرى. لكن الواقع الذي يصعب تجاهله هو أن توفر العديد من البلدان عبر العالم، على موارد هائلة لم يمنعها من الفقر و الأمية و التخلف كونها اكتفت بتصدير مواردها على شكل مواد أولية خام و لم تعمد إلى تحويلها و تصنيعها سعيا إلى إقامة قاعدة تكنولوجية و إنشاء نسيج صناعي و محيط تكنولوجي موجبين لتغيير نوعي. و إذا نحن تأملنا أوضاع الأقطار العربية بشكل خاص ألفينا أن العديد منها يمتلك ثروات معتبرة و متنوعة يعلمها الجميع، و مع ذلك فكل الإقتصادات العربية ترتكز على تصدير المواد الأولية الخام و لا تتوفر بما فيه الكفاية على قاعدة تكنولوجية متكاملة تسمح بتحويل و تصنيع خاماتها و تطوير و تعميق المهارات و الخبرات و التقنيات الني تقتضيها و تستتبعها سياقات التقانة و التصنيع. كما أن أغلبية البلدان العربية رغم ثرواتها المعتبرة ما تزال تعاني من مختلف أشكال الفقر و شتى مظاهر الأمية و تجليات التخلف الاقتصادي و الاجتماعي و السيكولوجي و الفكري. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن وفرة الموارد المادية،على أهميتها، غير كافية و لا هي كفيلة في حد ذاتها بتأمين التطور الاقتصادي و التحول الاجتماعي و الانفتاح الفكري و الارتقاء العلمي الموصل إلى الانزياح الحضاري. ذلك أن ثمة عوامل أخرى لا مندوحة عن توفرها وشروطا إضافية لا مناص من تضافرها لإيجاد البيئة المناسبة للتغيير و الإندياح. ولا مراء في أن أهم هذه العوامل الكفيلة بضمان التقدم و الرقي في كل تجلياتهما و أبعادهما يتمثل في رأس المال البشري المتصف بالفعالية و النجاعة. و يجدر في هذا المضمار تحديد ماهية رأس المال البشري الأمثل و ذكر شروط تفعيله و تأهيله. ماهية رأس المال البشري يتعلق الأمر بالموارد البشرية النشطة المنتجة التي تتمثل في القوى الوطنية الحية من كوادر و خبراء و مهنيين و مبدعين و أصحاب العبقريات في شتى المجالات و الاختصاصات و المعارف و الفنون. و لم يعد هناك شك في أن ما يمكن أن يقدمه هؤلاء الكوادر و الخبراء و المهنيين من عقلنة و ابتكار و اكتشافات و مسلكيات محكمة قمين بزيادة الإنتاجية و تحسين المردودية. و غني عن البيان أن ذلك أكبر مفعولا وأعمق تأثيرا على العملية التنموية و على الإنماء الاقتصادي من مجرد المداخل المتأتية عن تصدير المواد الأولية الغير مصنعة و التجارة القائمة على صيغ تبادل غير عادلة أوجدها النظام الاقتصادي العالمي القائم حاليا. و لقد أثبتت التجربة أنه في إطار السياق الدولي المعولم المتسم بالتنافس الشديد و السباق المحموم إلى الاختراعات و الابتكارات و التجديد لم تعد عوامل رفاهية الأمم مرتبطة حتميا بحجم و نوعية ما تتوفر عليه من مواد مادية بحتة، بل باتت اقتصادياتها تقوم بشكل مضطرد على تسويق التقنيات المتقدمة و الخدمات المتطورة و المعلومات الوظيفية الناجعة المرقمنة. و أضحت رساميلها تتمثل أكثر من أي وقت مضى في المعارف و الخبرات و التقنيات و المعلومات الدقيقة الهادفة و الغائية و كذا المسلكيات الممنهجة، و صارت هذه العناصر تشكل موارد ثمينة و مطلوبة تعتمد عليها اليوم أكثر من سواها العديد من البلدان لتحقيق أرباح وافرة بل و لاحتلال مكان الريادة ضمن النظام الدولي الحالي. بيد أن رأس المال البشري المنافس لا يأتي من فراغ ولا يتكون تلقائيا، بل يتطلب توفير شروط محددة و يقتضي تهيئة ظروف معينة. ففيما تتمثل هكذا ظروف ضمن السياق العربي القائم اليوم؟ شروط تكوين رأس مال عربي تنافسي إن بروز رأس مال بشري فعال و منافس ضمن الفضاء العربي يستوجب قيام سياق اقتصادي و اجتماعي و مؤسسي و سيكولوجي و فكري ملائم.. فعلى الصعيد الاجتماعي : ينبغي وضع حد لتهميش المرأة و العمل الجاد من أجل دمجها في العملية التنموية. إذ أنه لا يمكن تطوير مجتمع نصفه مغيب و معطل . وتجب العناية بالنشء و الاهتمام بالشباب و تأطيره و تثقيفه ثقافة عصرية تجمع بين متطلبات الحداثة و مقتضيات القيم الدينية و الأخلاقية. كما يجب محاربة المسلكيات الهدامة المفضية إلى الانحراف و الانزلاق. وعلى الصعيد السيكولوجي: ينبغي العمل على الحد من عنفوان العقلية الذكورية القروسطوية الهوجاء التي تمتهن المرأة و تزدري الأطفال و لا تقيم وزنا لنظرة الشباب إلى الأمور، و توغل في قمع إرادة أفراد الأسرة في التعبير عن آرائهم لما يترتب عن ذلك من قتل روح المبادرة و ترسيخ ثقافة الخنوع و الانكسار و السلبية. و على الصعيد المؤسسي: فإنه ينبغي قيام نسق يسمح بكل الحريات الأساسية و يتيح التعددية الفكرية ويفسح المجال للبحث العلمي و الاستقراء الأكاديمي دون قيود أو شروط، و يكرس الديمقراطية في مختلف أبعادها و كافة تجلياتها المؤسسية. و على الصعيد الفكري: فإنه يتو جب القضاء على الأمية و استئصال العقل الخرافي و أنماط التفكير الماضوي و العمل على توطين العقلانية و الحس النقدي و نشر ثقافة المواطنة على نطاق واسع، و ذلك من خلال تدر يس الفلسفة و تكثيف العمل التوعوي بمختلف أشكاله، كما يتوجب تعميم التمدرس و توسيع نطاق تدريس العلوم الدقيقة من رياضيات و كيميا و فيزيا وتقانة و معلوماتية، و إنشاء ما يتطلبه ذلك من معاهد مختصة و مراكز امتياز قطرية و جهوية ذات مستوى عال كما أنه يجب دعم البحث العلمي الأساسي و التطبيقي بشكل قوي و تشجيع الباحثين و تحفيزهم ماديا و معنويا على المضي في نشاطاتهم البحثية وتمويل ما يتقدمون به من مشاريع علمية و ذلك استئناسا بما يفعله العديد من البلدان الأخرى التي تدرك تمام الإدراك الأهمية الإستراتيجية لرفع قدرات كوادرها و أصحاب المواهب فيها وصولا إلى تفعيل و تنمية رأس المال البشري الذي تتوفر عليه. لقد بات من المؤكد أن استئصال كل أشكال الأمية كما أومأنا إليه آنفا و إحلال التفكير العقلاني المتنور محل الفكر الخرافي الماضوي و ترسيخ ثقافة المواطنة و تعميم التعليم و ربطه بمتطلبات الاقتصاد الوطني و الارتقاء بالذائقة الفنية و الحس الجمالي و إعطاء الأولوية لتدريس العلوم الدقيقة و التقانة و تشجيع البحث الأكاديمي و الترجمة و النشر و التوزيع و رصد المواهب الصاعدة و تعهدها و الإغداق على المخترعين و المبتكرين في شتى مجالات المعرفة إضافة إلى إنشاء مؤسسات تعنى خصيصا بالتفكير الإستراتيجي و الاستشراف ووضع الخطط الإستباقية المتصلة بكل جوانب و أبعاد الأمن القومي في وجه تحديات العولمة و التغيرات المناخية و في منظور تقلص الموارد المتفاقم و صراع الأمم من أجل الإنفراد بالهيمنة و احتكار الريادة . لا ريب أن هذه هي المحددات الأساسية للأرضية الملائمة لاستنبات و تنمية و تفعيل رأس المال المنافس ضمن السياق العربي الحالي. و من المؤكد أن تقوية قدرات رأس المال البشري العربي و رفع مستوى أدائه و تنافسيته يشكلان السبيل الأمثل للنهوض بالمستوى الاقتصادي و الاجتماعي و الفكري و الحضاري للأمة لتسترجع المكانة الريادية التي انفردت بها دون سواها من الأمم لفترة طويلة من الزمن. *رئيس نادي المثقفين الموريتانيين للديمقراطية و التنمية