يعرف المشهد الحزبي تقلب ظاهرة التعاطي مع الشباب وإقحامهم في الحياة السياسية المغربية والرفع من مستوى وعيهم السياسي، ويتمثل ذلك في طبيعة العلاقة القائمة بين الشباب والأحزاب، وتتجلى في حجم التأطير والانخراط والتنشئة والمشاركة في الانتخابات، وهذا يؤشر على تعقيد مداخل الارتباط بالمنظمات الحزبية، ونظرا لاعتبار الأحزاب في الأصل مدارس سياسية من جهة، وضعف الإقبال على الانتماء إليها من خلال ضعف عدد بطاقات الانخراط والمشاركة في الانتخابات، لذا تتبادر إلى الذهن أسئلة كثيرة ومحيرة منها : ماذا يقصد بالعزوف السياسي؟ وما هي أسباب هذا العزوف ؟ وما هو واقع العلاقة بين الشباب والأحزاب؟ وما هي سبل تقوية المشاركة السياسية؟ وما هي الحلول لإعادة ثقة الشباب في السياسة؟. إن تجسيد المشاركة في الحياة السياسية يتطلب انخراط كل مكونات المجتمع في عملية تولي مؤسسات الدولة المنتخبة، من خلال النظام الانتخابي، و اختيار مسؤولين لتسيير هذه المؤسسات، وبالتالي المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية لأنها تعني حياة المجتمع المتعددة الاتجاهات... والمجالات، ومن هنا إشراك الشباب... وتأخذ المشاركة مستويات أربع مستويات وهي: . مستوى الممارسة: ويتعلق الأمر بالفعل السياسي والنشاط، ويتمثل في العضوية في منظمة سياسية، والتبرع لمنظمة أو مرشح، وحضور الاجتماعات السياسية بشكل متكرر، والمشاركة في الحملات الانتخابية وتوجيه رسائل بشأن قضايا سياسية للمجلس النيابي وللسياسيين والصحافة والمشاركة في الحوار مع أشخاص حول الشأن العام... . مستوى الاهتمام السياسي: ويعنى اللذين يصوتون ويتابعون بشكل عام ما يحدث في الساحة السياسية عن طريق وسائل الاعلام والصحافة والرأي العام... . مستوى الهامشيون: وهم اللذين لا يهتمون بالعمل السياسي، ولا يبالون بالحياة السياسية لانشغالاتهم أو لعدم اطلاعهم أو بسبب عامل من عوامل التأثير... . مستوى التطرف السياسي: ويضم الذين يعملون خارج المؤسسات و الشرعية القائمة، بل ويلجئون للعنف بين الفئة والأخرى... . أما مراحل المشاركة السياسية، فتتجلى في ما يلي: مرحلة الاهتمام السياسي: وتتجلى في العناية بالقضايا العامة، ومتابعة الأحداث السياسية وتصل أحيانا إلى المشاركة في النقاشات السياسية مع الزملاء أو أفراد العائلة، ويزداد الاهتمام وقت الأزمات أو أثناء الحملات الانتخابية... . مرحلة المعرفة السياسية: وتعنى معرفة الشخصيات ذات الدور السياسي في الدولة سواء محليا أوجهويا أوطنيا، أو الشخصيات ذات الدور السياسي في المجتمع. مرحلة المطالب السياسية: وتتمثل في تقديم الطلبات والشكاوى والالتماسات، والبرامج الحزبية والانخراط في الأحزاب والجمعيات... . مرحلة التصويت السياسي: وتعني المشاركة في الحملة الانتخابية والمساندة ومساعدة المرشحين بإقناع الناخبين ببرامج المرشح أو الحزب والمشاركة بالتصويت... . وتجدر الاشارة إلى أن الدولة المعاصرة شرعنت كل قراراتها، بحيث لا يمكن تقديم إصلاحات إلا عن طريق استعمال أدواتها المشروعة ووسائلها القانونية، والانخراط في العمل السياسي الأحزاب والنقابات والفعاليات... ضرورية. لأن الاقتصاد يحارب السياسة ويحولها لخدمته، وإذا تغلب وتقوى فإنه يؤثر على بقية المجالات، فالتنافس والتأثير المتبادل والصراع بين السياسي والاقتصادي قائم، وكان من وراء عدة ثورات عرفها تاريخ البشرية، وقوة المشاركة السياسية تغلب الأمر الواقع وتعقلن الاقتصاد لكون المشاركة الواسعة والكبيرة هي قرارات اقتصادية واجتماعية وثقافية يختارها المواطن تماشيا مع ظروفه وحاجياته، ومستقبله...إلخ، ويعبر عنها كاختيارات من خلال التصويت... . لكن الحياة السياسية المغربية تتصف بنوع من العزوف الذي يستحق الدراسة والبحث والنبش، والتساؤل عن سبب امتناع بعض المواطنين ولا سيما الشباب عن المشاركة السياسية...؟ إن الانتخابات أصبحت من القضايا الشائكة والمثارة للجدل، ولذلك ينبغي أن تطرح بجدية، وبشكل معمق من طرف الباحثين الجامعيين والمفكرين من مختلف الزوايا المعرفية والمناهج، لاسيما وأن المغرب يعرف فئة عمرية شبابية واسعة في الهرم السكاني، والعزوف سيؤدي إلى بقاء نسبة كبيرة من المواطنين بعيدة عن التوعية والتعبئة والمشاركة في السياسات العامة، وذلك سيغيب حس المواطنة وسيؤثر على العمل السياسي وهذا سيؤول إلى تضعضع المجتمع بسبب ضعف أو غياب الوسيط بينه وبين الدولة، كما أن نفور المواطن من السياسة رغم الاصلاحات المتمثلة في خفض سن التصويت إلى 18سنة، واتساع مجال الحريات العامة، وإصلاح المؤسسات الدستورية التي تضمنها دستور 2011... هذا النفور له عدة أسباب وهي: سياسيا يبدو منذ وضع أول دستور للمغرب، حيث لم يلق اجتماعا حوله وعارضته بعض الأحزاب، نظرا لتقليدية عقلية المغاربة من جهة، ونظرا لكون الفترة كانت فترة تأسيس وبناء نظام سياسي حديث، ودستوريا يتمثل في القصور الذي كان يعتري الدستور في مجال توزيع السلطات، بين مختلف هيئات الدولة وخصوصا التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وعليه باءت التجارب البرلمانية الأولى بالفشل، وجاءت التعديلات الدستورية 70 72 92. بتنظيم للسلطة السياسية واقتسامها بين المؤسسات، لكن لم تحظى بالإجماع مما جعل بعض الأحزاب يطالبون بالمزيد من الاصلاحات، وتجسيد المشاركة الحقيقية في الحياة السياسية. ولقد ظل النظام السياسي المغربي نظاما نخبويا، يرتكز على ميكانيزمات موروثة لإقحام النخبة في دوائر السلطة، ولم يكن هناك فصل تام بين السلط. كما لم يكن للوزير الأول والمجلس الدستوري أي دور فعال في الحياة السياسية. لهذا جاءت مذكرات أحزاب المعارضة آن ذاك بمطالب واقتراحات إلى الملك تتضمن إصلاحات دستورية لتعزيز وتقوية النظام الدستوري للبلاد. وجاء دستور 96 باصلاحات منها توسيع المشاركة السياسية من خلال مجلس المستشارين، الذي يمثل جميع مكونات المجتمع المدني والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية، لخلق توازن على مستوى التمثيل البرلماني واعتماد الجهة لترسيخ الديمقراطية المحلية، وأيضا اصلاح النظام الانتخابي. إلا أن الوضع المؤسساتي تطلب مرة أخرى إصلاحات تجعل النظام الديموقراطي أكثر توازنا ومواكبة للتحولات الداخلية والخارجية. وعليه جاء دستور 2011 باصلاحات تبدو مهمة وتتضمن تقوية الجهوية، وجعل الفرقة الثانية مجلسا للجهات، وتعزيز دور مجلس النواب في مجالس التشريع والمراقبة، وجاء أيضا بمبدأ استقلالية القضاء. وخلق محكمة دستورية كما نص على الحكامة بمدلولاتها المختلفة، ووسع مجال المشاركة كحريات وحقوق الأفراد ونص على آليات تفعيل المراقبة والمحاسبة، وبالنسبة للأحزاب فقد قوى دورها التأطيري والتأهيلي للمواطن لولوج مناصب الدولة، وتقوية دور المعارضة داخل البرلمان، وتبقى المشاركة على ضوء هذه التعديلات جد متواضعة، والتجارب اللاحقة ستكون المحك الحقيقي للبرهنة على تفعيل أدوار الأحزاب الجديدة، وعلى نجاعة المشاركة من خلال النتائج التي ستؤول إليها الممارسة العملية. وبالإضافة إلى ما سبق، فإن من بين الأسباب التي صاحبت الأسباب السياسية السالفة الذكر نجد الدولة قد مارست العنف السياسي ، بالإضافة إلى تخلي الأحزاب عن وظائفها في التنشئة السياسية والتأطير السياسي، ومنه ضعف الانخراط في الأحزاب والمساهمة في الحملات الانتخابية والتصويت، لاسيما انتخابات 2007 و2011 الأخيرة... بالإضافة إلى التربية على الخوف من السياسة عند الكثير من المواطنين، وأيضا غموض مفهوم السياسة بالمقارنة مع ما يعاش وما يسمع عن السياسة، بالإضافة إلى كون انخراط الشباب يكلف الأحزاب ماديا وبشريا وهذا عيب يرافق الأحزاب منذ التأسيس لكونها تفتقر للقدرة المالية الكافية للتوسع، كما أن بعض الأحزاب هي شركات سياسية بأسهم مؤسسيها، تشتغل لحظة الانتخابات لمصلحة ذاتية بدرجة أولى، وتنظيم الأحزاب ما يزال لم يرقى إلى المستوى المطلوب نظرا لكثرة الإكراهات، ولم تتحول إلى مدارس سياسية بعد . والعزوف لا يعني عدم التعاطي للسياسة في كل جوانبه، بل أحيانا يجسد محاكمة للسياسة غير الملتزمة وغير الأخلاقية، وترتبط بفن الكذب من خلال ما تؤول إليه دورات الانتخابات المتخللة بعهود وهمية في مجملها، وتناقض شكل وبرنامج الانتخابات عن عمقهما، إلا أن المشاركة تبقى الأكثر نجاعة من خلال مناقشة القضايا وإبراز المواقف أكثر ومحاصرة العمل السياسي، ومنعه من الانحراف عن مجراه الحقيقي، ونتائجها أفضل من نقيضها مهما كانت درجة التحول. إلا أن المال يبين أن الأزمة حقيقية وقائمة بين المواطن والمؤسسات السياسية، وفقدان شريحة عريضة للثقة في السياسيين وخطاباتهم الموسمية والروتينية دليل واضح على عمق الأزمة. ومرحلة الشباب هي مرحلة البناء وهي الطاقة والتصحيح والادخار للمستقبل وهي الانتاج، والشباب يحتاجون للنصح والتمرن وتعلم طرق التدبير، وتحسين مداركهم المعرفيةللشأن العام، والتمرس على تحمل المسؤوليات، وهنا يكمن دور الأحزاب ومكونات الحقل السياسي. وفي علاقة المشاركة السلبية (العزوف) بالمجال الاجتماعي، يمكن القول أن الأوضاع الاجتماعية بالمغرب عرفت تدهورا بسبب السياسات الحكومية المركزية، على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، مما تسبب في تأزيم للهوامش، نتيجة قلة فرص الشغل، وتضييق دور الدولة في المجال الاجتماعي، فسبب ذلك انتشار البطالة أو العطالة والأمية وتدني مستوى الدخل الفردي، والمستوى المعيشي للسكان، حيث اتسعت دائرة الفقر بسبب تفاقم الوضعية الاقتصادية للبلاد، ومع ارتفاع الأسعار وتدني الأجور وانعدام التغطية الاجتماعية والتأمين للشرائح الضعيفة مما أثر على التنمية الاجتماعية بالبلاد، كما أن الفوارق واللامساواة على الصعيد الاجتماعي من خلال التوزيع اللامتكافئ للمداخيل بين مختلف الفئات الاجتماعية لاسيما بالنسبة للعالم القروي، حيث أن السياسة الاجتماعية المتبعة يستفيد منها خمس السكان فقط من القطاعات الحيوية وجلهم من سكان المدن، وقد حاول المغرب الخروج من هذه الوضعية المتأزمة في محاولة للرفع من المستوى المعيشي للسكان وتحسين مستوى التعليم والصحة وهي أهم عناصر التنمية الاقتصادية، لأنه يعترف بوجود معادلة بين التنمية والمسألة الاجتماعية، خصوصا قطاع الخدمات الاجتماعية الأساسية، ذلك أن الدولة لا ينبغي لها أن تتخلى عن دورها الاجتماعي المرتبط بالتنمية، وتحسين مستوى عيش المواطنين رهين بالنمو الاقتصادي... كما أن النمو الديمغرافي والنمو الاقتصادي هما خطان يفرضان التوازن لأن أي خلل في أحدهما يؤثر على الآخر... والمشاركة السياسية لها تأثير على المؤسسات السياسية والنظام ككل، وملامسة المشاكل الاجتماعية في العمق تتطلب برلمان قادر على الربط بين المجتمع والتنمية وإصدار القوانين ووضع مخططات تنموية قادرة على تحسين الوضعية الاجتماعية والاقتصادية والرفع من الوعي والادماج في المحيط السوسيو اقتصادي. لذا فمن الطبيعي أن التفاوت بين الفئات الاجتماعية، وانخفاض الوعي السياسي وضعف دور الأحزاب وغياب لقيادات مسؤولة وصادقة، وغياب الدقة في التواصل مع المواطن وطرق جذب الاهتمام، بالإضافة إلى هيمنة النزعة المادية أكثر على واقع المجتمع السياسي، ومنه أصبح يؤثر على تصرفات المواطن، وأعطى تصدعا في مجال المشاركة وغالبا يفرغ مضمونها لخدمة أغراض سياسية مادية الجوهر. بالإضافة إلى أن الانسياق المجاني وراء إيديولوجية معينة وما يؤول إليه من مؤامرات ودسائس بين مختلف الأحزاب والتنظيمات يغيب التدبير السليم للاختلافات، ومن يخسر في كل الأحوال هو المواطن لأن مصلحته لا تتطلب التأخير. وتجدر الإشارة إلى أن السلوك السياسي عند المغاربة حسب جون واتربوري يختص بمرونة التحالفات الحزبية، وتعدد الانتماءات وتناقض الولاءات واختلاف درجة التوجه، وانعدام التطابق بين المبادئ الايديولوجية والمواقف والممارسات السياسية، والحفاظ على الوضع القائم المرتبط بالحفاظ على المصالح كل من زاويته. كما أن المشاركة الروتينية والشكلية بسبب عوامل غير حزبية، للرفع من نسبة المشاركة، تبقى قاصرة عن إقناع المواطنين بالمشاركة بشكل مرتفع. وعموما فإن غياب الديموقراطية داخل الأحزاب، وكذا حرية التعبير لدى المنخرطين فيها، وهيمنة العلاقات الأسرية والعائلية داخل الأحزاب والجمعيات، وتمسك زعماء بعض الأحزاب بالقيادة بشكل بيروقراطي، وطغيان بعض الممارسات غير المسؤولة، وغياب تشبيب الأحزاب، وإقتناع أغلبية الشباب بعدم جدوى الانخراط في العملية السياسية، رغم (الكوطا) التي أوجدها المشرع كنظام لتمثيل الشباب والمرأة في البرلمان، كل هذا يدل على خلل في مفهوم المواطنة، بشقيها وعنصريها وعلاقتهما بشكل متقابل بين الدولة والمواطن، وأن العزوف نتيجة طبيعية، وهذا الأمر يتطلب القيام بمجموعة من التدابير لتخفيف الضغط والتأثير الذي يشكله الوضع العام على النسق السياسي، والمجهول العواقب، وهي تجديد الوعاء السياسي بتخفيض عدد الأحزاب للخروج من تشرذم المشهد الحزبي وجعلها قطبين، وتغيير نمط الإقتراع المتبع، والالتزام بالديموقراطية داخل الأحزاب وتجديده، ثم وضع برنامج لمشروع مجتمعي يتصدى لهموم المواطن وانشغالاته الحقيقية، وجعل العمل السياسي من وظائف الدولة وفي مقابل المسؤولية وتفعيل المحاسبة. بالإضافة إلى فتح الباب في وجه الشباب وتنظيم دورات تكوينية مفتوحة على الصعيد الوطني لربطهم بالشأن العام المحلي أو الترابي والوطني، وتقريب الخطاب من الممارسة، وفتح شعب العلوم السياسية بالجامعات لتكوين الأطر أكاديميا، وتشجيع الشباب على تأسيس نوادي تهتم بالعمل السياسي في الأوساط التعليمية لاسيما الجامعية، وتشجيع الاعلام السياسي والتأكيد من خلاله على حق وأهمية المشاركة، وتشبيب الترشيحات للانتخابات التشريعية والمحلية بالخصوص للتمرس السياسي، وتجديد العقليات ومنها النخب السياسية المواطنة . *متخصص في السياسات العامة