جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    "التقدم والاشتراكية" يحذر الحكومة من "الغلاء الفاحش" وتزايد البطالة    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جامعة الفروسية تحتفي بأبرز فرسان وخيول سنة 2024    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    جرسيف .. نجاح كبير للنسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مَن الذي يَحِقّ له الحديث "بٱسم الإسلام"؟
نشر في هسبريس يوم 04 - 09 - 2013

كثيرا ما يأتي على ألسنةِ أو بأقلام خُصوم "الإسلاميِّين" ٱدِّعاءان مُثيران: أوَّلُهما أنّ الذين يُسمُّون أنفسَهم "إسلاميِّين" يَستغلّون "الإسلام" في سبيل بُلوغ أغراضهم الدُّنيويّة ولا يَتردّدون عن المُتاجَرة به في سُوق السياسة، وثانيهما أنّ هؤلاء أُناس يَسعون إلى احتكار "الإسلام" بصفتهم «النّاطقين الأصيلين بِٱسمه». والحالُ أنّ "الإسلام" دينُ الشّعب (بمُختلف فئاته وطبقاته وهيئاته)، بل هو دينُ المُسلمين كُلِّهم بتعدُّد جماعاتهم واختلاف مذاهبهم على امتداد التاريخ وعبر جهات العالم. تُرى، هل "الإسلاميّون" هُم وحدهم من يَستغلّ "الإسلام" دُنيويّا وسياسيّا؟ ومن يَحقّ له، في الواقع، أن يُقرِّر القول الفصل بخصوص الإمكانات المشروعة لاستعمال "الإسلام"؟
إننا نُلاحظ، ابتداءً، أنّه إذَا كان "الإسلاميّون" لا يُخْفُون انتماءَهم إلى "الإسلام" ويُصرُّون على العمل بٱسمه، فاللّافت للنّظر أنّ الذين يُنْكرون عليهم هذا مُردِّدين ذَيْنِك الادِّعائين يُعَدُّون - في مُعظمهم- أُناسا يَرفُضون استعمال "الإسلام" بالخصوص في السياسة والفنّ والإعلام، ويَذهب بعضُهم إلى حدّ القول بأنّه قد أصبح مُتجاوَزًا في ظلّ هيمنة «قيم كونيّة» هي - في ظنِّهم- نتاجٌ مُستقلٌّ ل"الحداثة" كما تَتمثّل في أهمّ مُكتسبَات العلم والفكر المُعاصرين وأيضا كما تَتجلّى، بالأساس، في «حُقوق الإنسان».
وينبغي، بهذا الصدد، أن يكون بيِّنا أنّ خُصوم "الإسلاميِّين" لا يُحرِّكُم - في موقفهم ذاك- كونُهم أشدَّ غَيْرةً على حُرْمة "الإسلام" من سواهم، وإنّما الذي يُحرِّكُهم أنّهم في نزاع مع هؤلاء "الإسلاميِّين" بخصوص البحث عن أنجع الوسائل المُمكنة لاستمالةِ الجماهير فِكْرَويّا وتسخيرها سياسيّا، إنّهم يُنكرون عليهم استغلالهم ل"الإسلام" بالقَدْر نفسه الذي يُريدون التّستُّر على طبيعةِ ما يَستغلُّونه هُم من وسائل لبُلوغ ذلك الغرض (استمالة الجماهير وتسخيرها) ؛ فَهُمْ - بالتّالي- لا يَعترضون على كيفيّةِ استعمال "الإسلام" من قِبَل "الإسلاميِّين" إلّا ليُؤكِّدوا بَراءتَهم من مثل ذلك الاستعمال كأنّهم في إصرارهم على فصل "السياسة" عن "الدِّين" لا يَقترفون شيئا ممّا يُتَّهم به خُصومُهم (المقصود استغلال «الدُّنيويّ/المُدنَّس» الذي هو، بالأساس، تعبير عن "الضرورة" المُلازمة للوضع البشريّ في هذا العالَم ؛ استغلالهم له في السعي إلى التّحكُّم) ؛ بل إنّهم ليَفضحون، أيضا، إرادتَهم «تعطيل الإسلام» بمُقتضى ما يَرونه من "العَلْمانيّة" التي تُوجب - في زعمهم- إخراجَ "الدِّين" من المَجال العُموميّ/العامّ وحصرَه فقط في المَجال الخُصوصيّ/الخاصّ!
وفيما وراء ذلك، يَجدُر أن يُؤكَّد أنّ لفظَ "الإسلام" يَحمل (أو يُحمَّل) مَعاني كثيرة في واقع التّداوُل. إذْ نجد أنّ هذا اللّفظ يُستعمل، في الغالب، من دون تحديد أو محصورا في الدّلالة على «الدِّين الخاص بالمُسلِمين». لكنْ يُمكن (ويجب) أن يُميَّز في مفهوم "الإسلام" بين أربعةِ مَعان أساسيّة تبقى، رغم ذلك، مُترابطةً: أوّلُها معنى «0لإسلام/0لدِّين/0لوحي» (0لأُصول الاعتقاديّة والحُكْميّة الثّابتة قَطْعا في نُصوص "القُرآن" و"السُنّة")، وثانيها معنى «الإسلام/التّديُّن» (التّجربة العَمَليّة والعَيْنيّة انطلاقا من «0لإسلام/0لدِّين/0لوحي» أو في إطاره)، وثالثها معنى «0لإسلام/0لأُمّة» (مُختلف جماعات المُسلِمين على امتداد التاريخ وعبر جهات العالَم)، ورابعُها معنى «0لإسلام/0لحَضارة» (مجموع مُنْتَجات التّجْرِبة التّاريخيّة والثّقافيّة لمُجتمعاتِ "المُسلِمين" ومُساكِنيهم من "غير المُسلمين" في العمل انطلاقا من "الإسلام" أو بالتّفاعُل معه).
وقد يَصحّ التّفْريق، عموما، في تلك المَعاني بين «الإسلام/الدِّين» في وحدته وثَباته (الأُصول الاعتقاديّة والحُكْميّة الثّابتة قَطْعا في نُصوص "القُرآن" و"السُّنّة" التي استقرّت منذ نحو اثْنَيْ عشر قرنا بصفتها نُصوصا أَصْلِيّةً ونهائيّةً) وبين «الإسلام/التّديُّن» في تعدُّده وتغيُّره وتبايُنه (مجموعُ تصوُّرات وتصرُّفات "المُسلِمين" في المدى الذي تُعَدّ مُعبِّرةً، بهذا القدر أو ذاك، عن إيمانهم وتعبُّدهم انطلاقا من «الإسلام/الدِّين» أو في إطاره). وإنّه لمن المُؤسف جدّا أنّ كثيرا من المُتقوِّلين على "الإسلام" لا يكادون يُميِّزون فيه بين ذَيْنك المَعنيَيْن، بل تجد من لا علم له ب«الإسلام/الدِّين» فلا يَتورّع عن الحديث بشأنه مُعتبرا أنّ ما يُدرَك من «الإسلام/التّدَيُّن» - في أيِّ مُستوى من مُستويات التّفاعُل مع أُصول "الإسلام" ومبادئه- يَنطبق بالضرورة على «الإسلام/الدِّين» كأنّه لا فرق بين "المِثال" (في كماله وثباته وسُمُوّه) و"الواقع" (في قُصوره وتغيُّره وتَدَنِّيه). ولا يخفى أنّ "المُبْطِلين" لهم مصلحةٌ أكيدةٌ ودائمةٌ في حفظ الاشتباه بين هذين المعنيَيْن لكي يَسهُل عليهم الانتقال بينهما و، من ثَمّ، التّلاعُب بهما لمُمارَسة "التّضليل" بحسب ما يَشتهون!
وبِناءً على ذلك، فإنّ الانتساب إلى "الإسلام" - باعتبار مَعانيه الأساسيّة تلك- لا يُمكن إلّا أن يكون مُتعدِّدا بحُكم الاختلاف الحاصل في شُروط بُلوغ "الأُصول" وامتلاك "القيم" المُتضمَّنة فيها. وإذَا كان يجب تعيين الانتساب الخاصّ إلى "الإسلام" الذي يكون (ويُسمّى) بمُوجبه المرءُ "مُسلِما" من حيث إقرارُه وعملُه بالأُصول الاعتقاديّة والحُكْميّة الثّابتة قَطْعيّا في "القُرآن" و"السنّة" (وفي مُقدّمتها الأركان الخمسة: الشّهادتين، الصلاة، الصوم، الزّكاة، الحجّ)، فإنّ هُناك أيضا انتسابا عامّا إلى "الإسلام" يَجعل كل من له صلةٌ ب«أُمّة المُسلمين» في نمط تديُّنها و/أو نمط عيشها يُسمّى (أو يُوصف) بأنّه "إسلاميٌّ". ومن البيِّن أنّ الانتساب الأوّل يَتحدّد بصفته "دينيّا"، في حين أنّ الانتساب الآخر يُعَدّ انتسابا "ثقافيّا" و"حضاريّا" على النّحو الذي يَدخُل فيه «المُسلمون» و«غير المُسلمين» (الذين يَكُونون، في بعض الأحيان، أرسخَ انتسابا إلى «الإسلام/الحضارة» من كثير من المُسلمين أنفسهم!).
ولعلّ ما يَغيب عن كثيرين، بهذا الخصوص، أنّ الانتساب الأوّل («مُسلِم/مُسلِمة») أخصّ من الثاني («إسلاميّ/إسلاميّة»)، إذْ كُلّ "مُسلِم" يُعَدّ بالضرورة "إسلاميّا" ؛ لكنْ ليس كُلُّ "إسلاميّ" ب"مُسلِم" (مُؤمن وعامل بأُصول "الإسلام" وأركانه). ولهذا لا يَصحّ ما يَزعُمه بعض "المُبْطلين" من أنّ صفةَ «إسلاميّ/إسلاميّة» لا أصل لها (أيْ أنّها بِدْعةٌ مذمومةٌ) أو، بالأحرى، لا معنى لها لأنّها تَدُلّ فقط على كون «الموصوف بها» ("إسلاميّ") يَنْزِع نحو احتكار "الإسلام". ولا بُدّ، هُنا، من تبيُّن أنّ ذلك الزَّعْم لا يَذهب إليه إلّا من كان يَحصُر معنى "الإسلام" في ما هو ظاهرٌ من "الدِّين" أو في ما هو شائعٌ من "التّديُّن". والحالُ أنّ صفة «إسلاميّ/إسلاميّة» تُحقِّق الانتساب إلى "الإسلام" على العموم، ممّا يَقتضي أنّ كل ما (أو مَن) يُوصف بها لا يَستغرق إطلاقا "الإسلام" بما هو دينٌ وحضارةٌ عالميّان منذ عدّة قُرون، بل يبقى "جُزءا" منسوبا إلى "كُلٍّ" هو "الإسلام" بجِماع تجليّاته الدينيّة والثقافيّة والحضاريّة (وضمنها، بالتّأكيد، التجليّات "السياسيّة" التي لا يكاد يُرى غيرُها رغم أنّها ليست سوى جزء من كُلّ!). ومن هُنا، فإنه من السُّخف أن يُراد حصر الإحالة (المَرجعيّة) إلى "الإسلام" باعتبارها ذات دلالة "دينيّة" فقط، أيْ من دون أيِّ دلالة ثقافيّة أو حضاريّة بالشّكل الذي يُسوِّغ تهوينَها أو تهويلَها بحَسَب الحاجة.
كما أنّ الانتساب إلى "الإسلام"، سواءٌ أكان عامّا أمْ خاصّا، قد لا يَدُلّ إلّا على الادِّعاء والتّظاهُر أو على الغُلُوّ والتّشدُّد. ويُسمّى الانتساب الشَّكْليّ أو المَظْهريّ إلى "الإسلام" ب"التّأسلُم" أو "التّمسلُم" (يكون الوصف ب«مُتأسلم/مُتأسلمة» أو «مُتمسلِم/مُتمسلِمة»)، في حين أنّ الانتساب المُتطرِّف أو المُتشدِّد إلى "الإسلام" يُوصَف بصيغة المُبالَغة «إسلامانيّ/إسلامانيّة» (وهذا المعنى هو الذي أخذ بعض المُتساهلين يَستعمل في أدائه صفة ["إسلامويّ/إسلامويّة"] ناسيًا أنّ هذه الصيغة يَمنعُها، في التّصريف العربيّ، وُجودُ صفة «إسلاميّ/إسلاميّة» وثُبوتُ أنّ لاحقةَ «وِيٌّ/وِيّةٌ» لا تَجوُز إلّا حينما يَتعذّر النَّسَب بلاحقة «يٌّ/يّةٌ»، مِمّا يَجعلُها لا تدلّ - في هذه الحالة- على شيء آخر غير النّسَب كما في «يَدويٌّ/يدويّةٌ» أو «لُغويٌّ/لُغويّة» أو «رِئَوِيٌّ/رِئَوِيّةٌ»!).
وبِما أنّ "الإسلام" واقعٌ مَعيشٌ ومشهودٌ في العالَم منذ القرن السابع بعد ميلاد المسيح (عليه السلام)، فإنّه موضوعٌ لِما يَأتيه الناسُ من أقوال وأعمال. ويَحِقُّ، من هذه الناحية، لأيِّ ٱمرئ أنّ يَتكلَّم على "الإسلام" سواءٌ أكان من المُنتسبين إليه أمْ لم تَكُنْ له أيُّ صلة به. غير أنّه لا يَتّضح دائما من يُمثِّل "الإسلام" حقيقةً مِمّن لا يُمثِّله في شيء، ممّا يعني أنّ الانتساب إلى "الإسلام" لا يَتعيّن إلّا على جهة التّعدُّد والاختلاف بالشكل الذي يَجعلُه موضوعا للتّنازُع ويُصعِّب، بالتالي، البتّ في حقيقة كل انتساب إليه.
ومن أجل ذلك، فإنّ أيَّ سعي إلى تنميط "الإسلام" واختزال الانتساب إليه بهذا الشّكل أو ذاك يُعبِّر عن إرادةٍ تَحكُّميّة أو تسلُّطيّة سرعان ما تفتضح حتّى لو كانت إرادةَ أدعياء "العَلْمانيّة" الذين يَظُنّون أنّ «تحييد الإسلام» من المَجال العُموميّ وفصل "الدِّينيّ" عن "الدُّنيويّ" ليس من التّنْميط أو الاختزال في شيء ؛ في حين أنّ «تحرير الإسلام» لا يَتمّ فعليّا إلّا بتمكينه في مجال عُموميّ مفتوح حيث يُترَك للأفراد حقّ استعماله ليس فقط بالرُّجوع إلى الإمكانات المُحدَّدة جماعيّا، بل أيضا باستثمار المَوارد المُتاحة قانونيّا ومُؤسسيّا لجميع "المُواطنين" المَعْنيِّين. ولأنّ أمرَ "الإسلام" يَهُمّ - في الواقع- مَلايين النّاس مِمّن يُكوِّنون «الأُمة الإسلاميّة» التي جُعل الاختلاف بينها رحمةً وتُرِك الحسمُ فيه إلى يوم الدِّين، فإنّ "التّوحيد" المطلوب لا يَنْفصل عن تعميم سُبل الاتِّفاق وتقوية إمكانات الاشتراك في الطُّرُق المُوصلة إلى العمل ب"الإسلام" بما هو دينُ أُمّة يَمتدّ تاريخها بعيدا (أكثر 1400 سنة) ويَبلُغ تعدادُها حاليّا مليارا ونصف مليار عبر كل بُلدان العالَم.
وهكذا، فإنّ الحديث عن «الإسلام/الدِّين» - كنُصوص أساسيّة ونهائيّة- لا يُقبَل من كلّ مُتطفِّل أو مُتقحِّم، بل لا مشروعيّة لأيِّ قول بصدده إلّا إذَا كان نتاجَ معرفة مَبْنيّة منهجيّا ومُدلَّلة موضوعيّا، وهي المعرفة التي لا تَصدُر إلّا عن عُلماء رَسخت أقدامُهم في الاجتهاد وتواتَرتِ الشّهادةُ على صدقهم ووَرَعهم. فالعُلماء العُدول هم وحدهم من له الحقّ في بيان ما يَدُلّ على حقيقة «الإسلام/الدِّين» تماما كما أنّ أيِّ مجال آخر لا يُؤخَذ فيه إلّا بما يُقرِّرُه أهل الاختصاص. إذْ لو تُرك الأمر في مجالات التّخصُّص لكل صُويحف أو كُويتب، لأَسْفَر كلُّ يوم عن أعاجيبَ في الرياضيّات أو الطبيعيّات أو اللِّسانيّات!
ولا وجه للقول، من ثَمّ، بأنّ "الإسلام" كان ولا يزال حِكْرا ل"الفُقهاء" بصفتهم العُلماء المُتخصصِّين في استنباط الأحكام الشرعيّة من الأدِلّة الجُزئيّة (نُصوص "القُرآن" و"السنّة") ؛ لأنّ هؤلاء العُلماء لا تَختصّ بهم جماعةٌ أو بلدٌ أو عصرٌ، ولأنّ الاجتهاد العلميّ مفتوحٌ أمام البشر أجمعين من دون تمييز، ومشروطٌ إتيانُه بمُقتضيات العمل طلبا وكسبا ونَماء. وفضلا عن هذا، فإنّ مجال "الفقه" نفسه لم يكن قطّ أُحاديّا، من حيث إنّه ما فتئ يُنْتِج تعدُّدا في المذاهب الفقهيّة (مالكيّة، حنفيّة، شافعيّة، حنبليّة، جعفريّة) واختلافا في آراءِ العالِم الواحد وَفْق تغيُّر الأحوال والشروط (مذهب الشافعيّ في العراق ليس مذهبَه في مصر!).
ويَحسُن الانتباه، في هذا المستوى، إلى أنّ فَتوى العالِم/الفقيه رأيٌ اجتهاديٌّ لا يُلْزِم بالأساس أحدا سواه ولا يجوز للحاكِم نفسه أن يَفْرضَها على جُمهور المُسلمين الذين يبقى لهم دائما مُتّسَعٌ خارج تلك الفتوى إمّا بالنّظر في أدلّتها التّرجيحيّة (لمن استطاع منهم) وإمّا بالنّظر في غيرها من فَتاوى العُلماء/الفُقهاء (إنْ وُجدت). وفحوى هذا أنّ العالِم/الفقيه لا يُوقِّع فتواه/رأيَه «بٱسم اللّه»، وإنّما فقط «بٱسمه الخاص» كصواب يَحتمل الخطأ (يُقال «فتوى فُلان» أو «مذهب عُلان»، وليس «حُكم اللّه بِلسان فُلان أو عُلان»، وهو ما يُشير إلى أهميّة الفرق بين «عُلماء الدِّين» في الإسلام و«رجال الدِّين» في غيره كفَرْقٍ بين بَشريّة «الاجتهاد العلميّ» وأُلوهيّة «الوَساطة الكهنوتيّة»!). ولذا، فكُلّ الذين يَتعاطون «خطاب اللَّغْوى» حول "الإسلام" من موقع التّعاقُل والتّعالُم مفضوحٌ شأنُهم مهما بُولِغَ في عَرْضهم (وفَرْضهم) بالمجال العموميّ كأنّهم «أُولو الألباب» بامتياز. ولعلّ ظهور قُصور هؤلاء المُتقحِّمين في فقه ما يَدّعونه وقلّة تمكُّنهم حتّى من «اللِّسان العربيّ» - لسان النُّصوص الأساسيّة في «الإسلام/الدِّين»- ليَكفيان للدّلالة على أنّهم أُناس ليسوا على شيء وأنّ ما يُلْقونه من مُرسَلات الأحكام لا يُعْتدّ به في واقع الأمر.
وإذَا كان البتّ في حقيقة «الإسلام/الدِّين» لا يَتمّ إلّا على أيدي الرّاسخين في العلم، فإنّ «الإسلام/الأُمة» لا يَحِقّ لأحد أن يَدّعيَ تمثيلَه ما لم تنتخبه أكثريّةُ أُمّة المُسلمين وتُنصِّبه بإرادتها الحُرّة ورضاها التامّ ؛ لأنّ أمر المُسلمين جُعل شُورى بينهم بحيث لا إلزام في شيء خارج ما يَنعقد عليه إجماعُهم تواصيًا بالحقّ وتواصيَا بالصبر. وأمّا «الإسلام/الحضارة»، فلا يَخفى أنّه موضوعٌ للبحث العلميّ الذي يَرجع له وحده بيان حقيقة "الإسلام" بما هو مُمارَسة عُمْرانيّة وثقافيّة وتاريخيّة تَحكُمها، بالأساس، شُروطُ هذا العالَم في تغيُّرها الدّائم وتفاوُتها الطبيعيّ. وبالنِّسبة ل«الإسلام/التديُّن»، فالمِحكّ فيه توفُّر الدّليل الفقهيّ المُسوِّغ وقيام المُمارَسة العَمليّة إحسانا في العمل ومُعامَلةً بالتي هي أحسن على النّحو الذي يَجعل كلَّ من كان عملُه اتِّباعا للهوى أو خالفتْ أفعالُه أقوالَه معدودا في زُمَر الجَهَلة أو المُنافقين. وهكذا، فإذَا استُثني «الإسلام/الدِّين» بصفته أُصولا ثابتة تُؤخَذ كما هي تصديقا وتسليما، فإنّ كُلّ ما يُمكن أن يُؤتى من أنواع الفهم والتّأويل والتّطبيق يبقى موضوعا للأخذ والردّ بحسب ما يَتوفّر له من أسانيد الصواب ومُقوِّمات الصحّة.
وإجمالا، فكُلّ من يَدّعي تمثيل "الإسلام" في أحد مُستوياته مُطالَبٌ بأن يَأتي ببَيِّناته تدليلا معقولا أو ببُرهانه سُلوكا عمليّا. وعليه، فلا يَحقّ لمن يُنْكر من "الإسلام" أحد أُصوله المُقوِّمة أو يُهمل العمل بحُكمٍ من أحكامه الثّابتة أن يَتبجّحَ بتمثيله. إذْ كيف يُصدَّق، مثلا، من يَدّعي أنّه مُسلِمٌ مثاليٌّ رغم تضييعه للصّلاة والصيام والزّكاة وإصراره على مُعاقَرة الخمر واقتراف الزِّنا وأكل الرِّبا باسم الحُريّة الشخصيّة؟! وكيف يُتابَع من يَذْهب به جهلُه إلى القول بأنّ «الإسلام/الدِّين» لا حُكم فيه على كيفيّةِ اللِّباس والسُّلوك في المَجال العامّ («يا بَنِي آدم خُذوا زينتَكم عند كل مسجد!» [الأعراف: 31] ؛ «وقُل للمُؤمنين يَغُضّوا من أبصارهم ويَحْفَظُوا فُروجَهم، ذلك أزكى لهم ؛ إنّ اللّهَ خبيرٌ بما يَصنعون.
وقُل للمُؤمنات يَغضُضْنَ من أبصارهنّ ويَحفظنَ فُروجهُنّ ولا يُبْدِين زينتَهُنّ إلّا ما ظهر منها، ولْيَضربْنَ بخُمُرهنّ على جُيوبهنّ، ولا يُبْدينَ زينتَهُنّ إلّا لبُعولتهنّ أو آبائهنّ أو آباء بُعولتهنّ أو أبنائهنّ أو أبناء بُعولتهنّ أو إخوانهنّ أو بني إخوانهنّ أو بني أخواتهنّ أو نسائهنّ أو ما مَلكت أيمانهُنّ أو التّابعين غير أُولي الإِرْبة من الرِّجال أو الطِّفل الذين لم يَظهروا على عَوْرات النِّساء، ولا يَضربْنَ بأرجُلهنّ ليُعلَم ما يُخفين من زينتهنّ ؛ وتُوبُوا إلى اللّه جميعا أيُّها المُؤمنون لعلّكم تُفلحون!» [النُّور: 31]) أو من يُسوِّل له هواهُ أن يقول بأنّ حُكم الإرث قد بات مُتقادِمًا («يُوصيكم اللّهُ في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأُنْثَيَيْن [...]» [النِّساء: 11])؟! وكيف يُستساغ أن يُرسل ٱمرُؤ في النّاس القول بأنّ "الإسلام" لم يَدْعُ إلى تحرير العبيد («فلا اقتحم العَقبة! وما أدراك ما العَقبة؟! فكُّ رَقبة، أو إطعام في يوم ذِي مَسغبة، يتيما ذا مقربة، أو مِسكينا ذا مَتْرَبةٍ، [...]» [البلد: 11-16]) أو بأنّه لم يَنتشر إلّا بالسيف والتّرهيب (كأنّه دينُ إكراه وعُنف) أو بأنّه يَقبَل فصل أُمور الدُّنيا عن أُمور الآخرة (كأنّ أفعال "السياسيّ" لا جزاء لها في يوم الحساب)؟!
إنّ الذين يَلُوكون لازمةَ أنّ "الإسلاميِّين" أُناسٌ يَسعون إلى احتكار الحديث «بٱسم الإسلام» يَنْسون أنّهم هُم أنفسهم لا يفعلون، في الغالب، غير ٱدِّعاء احتكار الحديث «بٱسم العقل والحداثة» إلى الحدِّ الذي يُعطُون لأنفسهم امتياز البتّ في حقيقة "الإسلام"، وأنّهم حينما يَدّعون أنّ استغلال «الإسلام/الدِّين» لا يَجُوز في مجال السياسة إنّما يُريدون أن يَفْرِضوا على النّاس فَتْوًى ذات طابع عقلانيّ، فتوى تُحرِّم عليهم أن يَعيشوا دينَهم بحُريّة وأن يَلتزموا تعاليمَه فلا يَنتخبوا، مثلا، من ثَبَت كذبُه ونفاقُه أو اشتهر فسقُه ومُجونُه أو أعلن كُفرَه وإلحادَه! وما دام الأمرُ دائرًا حول تحديد ما يَجُوز فعلُه وما لا يجوز، فالمُؤكَّد أنّه موضوعٌ للأخلاق قبل أن يكون موضوعا للقانون، وحتّى بعد أن يَصير كذلك. وليس الدِّين سوى الأخلاق في تحديدها لعَمل الإنسان كمخلوق يَتعبّد في كل أفعاله الدُّنيويّة خوفا من سُوء العاقبة في العاجلة، ورجاءً لحُسن المآل في الآخرة!
وإنّ أدعياء "العَلْمانيّة" بين ظَهْرانَيْنا ليَضعُون بذلك أنفسهم في مُواجَهةِ تَحدٍّ لا قِبَل لهم به: إذْ بِما أنّهم لا يَفتَأُون يَزعُمون ٱلتزامَ "الحياد" تعقُّلا فيما يَقُولون ويَفعلُون، فإنّ عليهم أن يُبرهنوا عقليّا على أنّهم لا يَعتمدون - في السياسة والفكر والفنّ- إلّا وسائل خالصة من كل تحيُّز اعتقاديّ وبعيدة عن أيِّ استغلال دُنيويّ لما يَتفاوت فيه واقعيّا عامّةُ النّاس أو ما يَنزل عليهم طبيعيّا أو تاريخيّا واجتماعيّا بمنطق الضرورة القاهرة. وفقط حينما يُبرهن أدعياءُ "العَلْمانيّة" على مثل هذا التّجرُّد والتّنزُّه، سيُسلَّم لهم بأنّهم أهلٌ للحديث «بٱسم الحقيقة والفضيلة» بحيث يُترَك لهم أمرُ البتّ فيما يَجُوز استغلالُه أو لا يجوز، ولا سيِّما حينما يَتعلّق الأمر ب"الإسلام" الذي هو دينٌ يَتحدّى كتابُه المُقدَّس كل المُكذِّبين ب«قُل هاتُوا بُرهانَكُم، إنْ كُنتم صادقين!» ([البقرة: 111] ؛ [النّمل: 64]) و«نَبِّئُوني بعِلْمٍ، إنْ كُنتم صادقين!» (الأنعام: 143).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.