لفهم رهانات عودة الاتحاد الاشتراكي إلى المعارضة، لا بد من استحضار الوضع الداخلي للحزب، وهو ما لا يمكن فهمه إلا بإعادة قراءة وترتيب مجموعة من الأحداث والمحطات التي وسمت العشرية الأخيرة في مسار الحزب، فغداة المؤتمر التاسع، المنعقد في دجنبر 2012، وبعد أن كانت المنافسة قوية بين المرشحين الأربعة: فتح الله ولعلو، الحبيب المالكي، إدريس لشكر، المرحوم أحمد الزايدي، استطاع لشكر الظفر بمنصب الكتابة الأولى للحزب، وكان أمام اختبار كبير، يتمثل في تحقيق مصالحة بين جميع الأطياف والتيارات داخل الحزب، وهو ما فشل فيه، بل اتسعت رقعة النزاعات الداخلية، ما أفضى إلى ارتفاع عدد الغاضبين، سواء داخل المكتب السياسي، أو المجلس الوطني، وذلك لأسباب متعددة، منها ما هو ذاتي، وما هو موضوعي. وبرزت بذلك بوادر انشقاقات جديدة، وبرز تيار تزعمه رئيس الفريق الاشتراكي بمجلس النواب آنذاك، الراحل "أحمد الزايدي"، تشكل في معظمه من برلمانيي الحزب آنذاك، وبعض الأطر الحزبية التي كانت مساندة للراحل الزايدي لتولي الكتابة الأولى. ومما زاد من حجم التوترات بين الطرفين/التيارين اختيار تيار الزايدي ما يسميها المعارضة الهادئة البناءة، في حين اختار إدريس لشكر المعارضة العنيفة القوية، وهو ما يُظهر أن الحزب يسير برأسين. ولوضع حد لهذه "المعضلة"، تمت إقالة الراحل أحمد من رئاسة الفريق الاشتراكي بمجلس النواب. لكن هذا الإجراء لم يكن كفيلا بوضع حد للأزمة الداخلية التي يعيشها الاتحاد الاشتراكي، فإقدام الكاتب الأول، بتزكية من المجلس الوطني، على اختيار الانخراط في حكومة سعد الدين العثماني، بعد مساهمته في "البلوكاج الحكومي" الذي تزعمه حزب الأحرار، بقيادة السيد عزيز أخنوش، لعرقلة تشكيل السيد عبد الإله بنكيران للحكومة، اعتبره مناضلو الحزب اختيارا غير موفق، أولا لكون الحزبين – الاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية- يقفان على طرفي نقيض إيديولوجيا، كما أن المقاعد التي حصل عليها الحزب في مجلس النواب، والتي سمحت له بالكاد بتشكيل فريق نيابي مكون من 21 نائبا، لا تخول له لعب دور وازن في الحكومة. وعقب ذلك، صرح عضو المكتب السياسي محمد بوبكري، معلقا على الحدث: "مع الأسف، الاتحاد الاشتراكي مع القيادة الحالية فقد كل مبادئه ومشروعه، بل وفقد كل أفكاره". وفي السياق ذاته، قال عضو المكتب السياسي عبد الله لعروجي: "إن حنكة زعيمنا لشكر حولتنا من اتحاد للقوات الشعبية، يخضع لقرارات اللجنة الإدارية، إلى اتحاد يخضع لقرارات السيادة". وبعد قبول الحزب الدخول إلى حكومة سعد الدين العثماني، حصل على وزارتين منتدبتين لدى رئيس الحكومة، إلى جانب كتابة الدولة، قبل أن يكتفي بوزارة واحدة في التعديل الحكومي، إلى جانب ذلك، فقد محليا تسيير المجالس البلدية لكل المدن الكبرى، خاصة في سوس التي ظلت معقلا له: أكادير، تيزنيت، تارودانت...وهو ما دفع مجموعة من مناضليه وقيادييه محليا إلى مطالبة إدريس لشكر بالرحيل، لكون تواجده على هرم الحزب السبب المباشر في ما آل إليه، تمثيليا وتنظيميا. لقد أجج هذا الوضع الحزبي الصراعات الداخلية، وامتدت إلى ما قبل المؤتمر العاشر، فقبيل انعقاد هذا المؤتمر، تشكلت مجموعة تحمل اسم "مجموعة العشَرة"، ضمت قيادات بارزة داخل الحزب، من ضمنها أعضاء داخل المكتب السياسي؛ ولو أنها تختلف في طرح البدائل، بل وحتى في أسباب الانضمام إلى المجموعة، إلا أنها تجتمع حول عدم رضاها عن الطريقة التي يدبر بها إدريس لشكر التنظيم، وكانت السبب المباشر في اندحاره. وجاء في البيان الذي صاغته هذه المجموعة: "وعيا منهم بدقة المرحلة السياسية التي تجتازها بلادنا، وعمق الأزمة التي ألمت بالحزب في علاقته بالأجهزة بعضها البعض، وفي علاقته بالمجتمع، والتي عكستها النتائج الضعيفة المحصل عليها في مختلف الاستحقاقات الانتخابية..."، وكمخرج من الأزمة، ذهب إلى أن "إعادة بناء أداة حزبية، فعالة ووازنة، هو وحده الكفيل بإعادة النظر في النموذج التنظيمي، المبني على التسيير الفردي، الذي كان من نتائجه إبعاد ونفور العديد من المناضلات والمناضلين". إذن، من الطبيعي جدا أن يحل المؤتمر العاشر والحزب وقيادته في وضع لا يحسدان عليه، فهذا المؤتمر عرف مقاطعة واسعة من طرف مجموعة من قيادات الحزب ومناضليه ومنخرطيه، تعبيرا عن سخطهم للطريقة التي تم بها تحضيره، وطالبوا بإرجائه إلى حين توفر شروطه التنظيمية، التي أدى غيابها إلى ترشح اسم وحيد وواحد للكتابة الأولى، وهو إدريس لشكر نفسه، بعد أن نجح – حسب معارضيه- في إبعاد المخالفين له. بعد المؤتمر العاشر المنعقد في يونيو 2017، استمر إدريس لشكر في تولي المسؤولية ككاتب أول للحزب، واستمرت معه الصراعات والنزاعات الداخلية، التي استنزفت كل قواه، ورغم أنه حصل على 31 مقعدا نيابيا في البرلمان، في الانتخابات التشريعية الأخيرة، إلا أن ذلك ليس مؤشرا على قوة الحزب، أو استرجاعه مكانته، لأن جل هذه المقاعد حصل عليها أعيان تم استقطابهم للترشح باسم الحزب، وإلا فكيف سنفسر عدم تمكن الحزب من ترؤس إحدى مجالس الجهات، أو مجالس المدن الكبرى؟. إن ما عمق الأزمة التي يعيشها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية هو فقدان كاتبه الأول للكاريزما المطلوبة لدى كل قائد حزبي. وتعود أسباب ذلك إلى أربعة مواقف على الأقل، أفقدته الكثير من الشعبية، سواء داخل الحزب أو خارجه: الموقف الأول، حينما كان إدريس لشكر من أبرز المدافعين عن انسحاب الحزب من حكومة عباس الفاسي، قبل أن يتم استوزاره في الحكومة ذاتها سنة 2011، وزيرا مكلفا بالعلاقات مع البرلمان. الموقف الثاني: خوضه في مسألة المساواة في الإرث سنة 2013، وهو ما استغله خصومه السياسيون، لتشويه سمعته سياسيا، خاصة أن التيار "الإسلامي" في المغربي كان قويا آنذاك، مع فوز العدالة والتنمية. الموقف الثالث: مساهمته في "البلوكاج الحكومي"، ضد السيد عبد الإله بنكيران، وهو ما اعتبره المواطنون معاكسة لإرادتهم، خاصة أنه قبل المشاركة في حكومة سعد الدين العثماني. الموقف الرابع: ورود اسمه في لائحة المسؤولين السياسيين الذين استفادوا من أراضٍ تابعة للدولة بالرباط، أو من باتوا يعرفون في الصحافة ب"خدام الدولة". كما أن تسويق الإعلام لشخص إدريس لشكر على أنه من القادة الشعبويين، خاصة بعد تقاربه مع حميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال آنذاك، جعله يفقد قدرا كبيرا من رصيده الشعبي. وما زاد من نفور المواطنين من الحزب وقياداته هي أخطاء بعض ممثليه، سواء داخل الحكومة أو البرلمان، فقد نعتت إحدى برلمانيات الحزب المشاركين في حملة المقاطعة ب"القطيع". كما أن وزير العدل السيد محمد بنعبد القادر أقدم على تقديم مشروع "قانون الرقابة على شبكات التواصل الاجتماعي" إلى المجلس الحكومي، وهو ما حذا بمناضلي الحزب إلى المناداة باتخاذ القرار المناسب في حق الوزير الاتحادي. وهكذا انتقد عضو المكتب السياسي حسن نجمي ما سماه تباطؤ الكاتب الأول في الدعوة إلى عقد اجتماع المكتب السياسي، بغية التداول في مشروع القانون، واتخاذ الموقف المناسب من الوزير، وأضاف أن مشروع القانون هذا لا علاقة له من قريب ولا من بعيد بالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ولا بمبادئه وقيمه ومرجعيته وتاريخه ومدونة نضالاته، وكتاب شهدائه المرصع بالأسماء والتضحيات المجيدة. لقد أثر هذا الوضع التنظيمي للحزب على علاقته بالمجتمع، إذ لم يعد له وزن داخله، ولم ينخرط في مجموعة من القضايا المجتمعية: الأمازيغية، المرأة، تجديد الخطاب الديني، الحريات الفردية...كما أن الحزب بصفته حزبا يساريا لا تربطه تحالفات لا تكتيكية ولا إستراتيجية مع مجموعة من الحركات الاحتجاجية والاجتماعية، التي يقاسمها التوجه نفسه، نظريا على الأقل، كالحركة النسائية والحركة الأمازيغية. اليوم، لم تعد تفصل الحزب إلا بضعة أشهر عن المؤتمر الوطني الحادي عشر، الذي قد يشكل مرحلة مفصلية في تاريخ الحزب، فإما أن يستعيد جزءا من وهجه وبريقه، وإما أن يتم نسيان حزب اسمه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى الأبد. هناك اليوم تيار يرى أن عودة الحزب إلى المعارضة، وتخلي إدريس لشكر عن الكتابة الأولى، كفيل باستعادة التنظيم مكانته داخل المجتمع. لكن يبدو أن الأمر ليس بهذه البساطة، إذ إن الأزمة التي يعاني منها الحزب ليست أزمة قيادة وفقط، بل أزمة تنظيم أيضا، كما لاحظنا، فهو مطالب اليوم بتجديد هياكله الجهوية والإقليمية والمحلية، وضخ دماء جديدة فيها. كما أن الرهان الذي يتعين على القيادة التي سيفرزها المؤتمر الحادي عشر كسبه يتمثل في تجديد الخطاب الحزبي، خطاب ينهل من إيديولوجية الحزب وأدبياته، ويستوعب التطورات التي تعتمل داخل المجتمع. (*) باحث في العلوم السياسية عضو المجلس الوطني للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية