عجيبٌ أمره هذا الرجل الذي يُسمّى بأبي الطيب المتنبي، شخصية فريدة من نوعها.. حين نقرَأ كلامه، نشعُر وكأنه يعيش بيننا. يُعالج قضايانا الراهنة، ويُحلل واقعنا، ويَضع يده على مشكلاتنا في الأوطان العربية والإسلامية، ولاسيما في تلك القصائد التي لم يكتبها تحت الطلب، وكان الرجلُ حُرّاً طليقاً عند إنشائها.. لقد قاده الطموح ذات يوم، إلى كافور الإخشيدي. وبما أن المتنبي كان يؤمن بأن الإنسان ما ينبغي أن يقنع بما دون النجوم؛ كما عَبّر عن ذلك صراحة في قوله: إذا غامرتَ في شرفٍ مَرومِ فلا تقنع بمَا دونَ النُّجُومِ فإنه قبلَ الدعوة طمَعاً في أن يوليه ولاية. وخلال تلك الفترة التي أقامها عنده اضطر أن يمدح كافور بقصائد كثيرة ظاهرها مدح وباطنها فيها شيء من الذم والتقليل من شأنه (كما فطن لذلك بعض النقاد وفي مقدمتهم ابن جني) خصوصا وأن كافور كان عبدا خصيا، خان سيده واستولى على الحكم في مصر فصار هو الآمر الناهي بعد أن كان عبداً آبقاً يُباع ويُشترى. مرت الأيام وتتالت الأسابيع والشهور إلى أن جاء ذلك اليوم الذي يئس فيه المتنبي من العبد الممدوح، وتيقن أن قصائده كانت صيحة في واد، فقرر الفرار من عنده، فخرج ليلاً. وحين اخترق الحراس والحجاب وتمكن من الفرار، أرسل قصيدة شعرية تنسخ مدائحه الأولى وتبرز مساوئ العبد الممدوح الخِلقية منها والخُلقية، صراحة، مطلعها: عيدٌ بأيّ حالٍ عُدتَ ياعيدُ بما مضى أم بأمرٍ فيكَ تجديدُ؟ والقصيدة تلخص واقعنا العربي بحذافيره. ومما استوقفني في هذه القصيدة هجاؤه المر للأقزام – على حد تعبيره – الذين يسوسون الناس في زمانه، يقول: أكلمَا اغتالَ عَبْدُ السُّوْءِ سَيّدَهُ أوْ خَانَهُ فلهُ في مِصْرَ تَمْهيدُ؟! صَارَالخَصِيّ إمَامَ الآبقِينَ بهَا فالحُرّ مُسْتعْبَدٌ وَالعَبْدُ مَعْبُودُ سَاداتُ كلُّ أناس مِن نفوسهم وسَادة المسلمين الأعْبُدُ القزَمُ استطاع المتنبي أن يصل إلى ما كانت تتوق إليه نفسه وقتئذ من مال وجاه، لكنه لم يَجد أرضية خصبة لاستنبات بنيات أفكاره، ولم يحصل على ولاية. وقد اعترف بذلك في غير ما مرة، وهو القائل: مَا كُلّ مَا يتمَنى المرء يُدركه تجْري الرياحُ بمَا لا تشْتهي السُّفنُ وبما أنه ينتمي إلى أمة ضحكت من جهلها الأمم – كما صرَّح بذلك في نفس القصيدة – فإن منافسيه نصبوا أنفسهم لمعاداته، وإشاعة الأكاذيب عنه، وشراء من يستخرج النقائص من شعره... وفي الأخير اعتراض سبيله، واغتياله. وكذلك تفعل الأمم المتخلفة في كل زمان ومكان؛ فعِوض أن تحتفي بشعرائها وتفخرَ بمبدعيها، وأن يُصغي صناع القرار فيها لصناع الأفكار، يُلجأ إلى استعبادهم واستبعادهم وتلفيق التهم لهم. ويَكفى أن نتأمل عناوين الكتب المؤلفة للتنقيص من شعر المتنبي وادعاء المساوئ فيه؛ مثل: "الكشف عن مساوئ شعر المتنبي" لمؤلفه الصاحب بن عباد، و"الإبانة عن سرقات المتنبي" لمحمد العميدي، و"الرسالة الموضحة في ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره" للحاتمي، و"سرقات المتنبي ومشكل معانيه" لابن بسام النحوي، و"أبو الطيب المتنبي ما له وما عليه" لأبي منصور الثعالبي، و"الوساطة بين المتنبي وخصومه" لعبد العزيز الجرجاني، الذي حاول أن ينصف الرجل ويبين ما له وما عليه؛ على غرار ما فعل الثعالبي. وكذلك فُعل بنبغاء هذه الأمة، وعباقرتها.. فلقد حُوكم ابن رشد – وهو شيخ القضاة، ومُفكر الأمة- وأُحْرقت كتبه حَسداً من عند أنفسِهم من بعد ما تبين لهم الحق، وتم نفي الرجل من الأرضظلماً وعدواناً، مع أن الأرض لله يُورثها من يَشاء من عباده والعاقبة للمتقين. أما ابن تيمية فقد سُجن وأهِين- مع أنه قامة علمية هيهات أن يأتي الزمان بمثلها -، وظلم الرجلُ حيّاً ومَيّتاً. وكذلك فُعِلَ بتلميذه ابن القيم، وبالعشرات من الأئمة الأعلام؛ مثل الإمامين أحمد ومالك بن أنس، وغيرهما من العلماء والمفكرين والعباقرة الذين راحوا ضحية أفكارهم وآرائهم النبيلة. بيد أن الأقدار شاءت أن تنتصر لهؤلاء، ولو بعد فترة من الزمن، لتنتشر أفكارهم من جديد، ويتهافت الناس على كتبهم ومؤلفاتهم بعد أن قضوا نحبهم، وفنيَ خصومهم؛ ذلك أن المصالح الضيقة، والإيديولوجيات القاصرة، والسياسات الملتوية، تموت بموت أصحابها، وبانكسار أربابها.