من عبدالقادر وساط إلى أحمد بوزفور مساء الخير صديقي العزيز ، نعم ، كان النقاد القدماء يتعاملون مع المتنبي و مع شعر المتنبي بغير قليل من القسوة .و كانوا يبتكرون أحياناً بعض التعابير اللاذعة للسخرية منه . فهذا أبو منصور الثعالبي يصفُ قولَه ( أوهِ بديل من قولتي واها ) بأنه كلامٌ شبيهٌ برُقْية العقرب ! و أنت تعرف جيدا أن الثعالبي هو الذي قال عن شاعرنا قولتَه المشهورة ، يصف سوءَ حاله في شبابه :» كان المتنبي قبل اتصاله بسيف الدولة يمدح القريب و الغريب و يصطاد الكُرْكيَ و العندليب !» و لما مدحَ أبو الطيب ابنَ منصور الحاجب بقصيدته البائية التي مطلعها: بأبي الشموس الجانحات غواربا اللابسات من الحرير جلاببا أطلقوا على هذه القصيدة اسمَ «القصيدة الدينارية «، لأن الممدوح لم يعطه عليها سوى دينارٍ واحد ! و في هذه القصيدة ذلك البيت المشهور الذي يقول فيه : حالٌ متى علمَ ابنُ منصور بها جاء الزمانُ إليَّ منها تائبا و من بين الذين سخروا من أبي الطيب كأشد ما تكون السخرية و عابوا شعره و انتقدوا معانيه ، نجدُ الصاحب َ بن عباد . و هو الذي علقَ على قول أبي الطيب : إني على شَغَفي بما في خُمْرها لأعفُّ عمّا في سراويلاتها بهذه العبارة الشهيرة : « و لعمري إن العهر أفضلُ من هذه العفة ! « و هذا البيت - كما لا يخفى عليك - من تائية شهيرة للمتنبي ، يمدح فيها أبا أيوب أحمد بن عمران . و مطلعها هو : سرْبٌ مَحَاسنُهُ حُرمْتُ ذَواتِها داني الصفات بَعيدُ مَوصُوفاتها و حتى شيخ المعرة - وهو من كبار المتحمسين لشاعرنا- أنكرَ عليه في بيته هذا إلحاقَ الهاء و الألف بذوات . و من بديع ابتكارات المتنبي في هذه التائية بيتٌ يصف فيه الفرسان الذين يقضون جلَّ أوقاتهم على صهوات خيولهم ، فكأنهم وُلدوا على تلك الصهوات ، و كأن خيولهم وُلدتْ واقفة ً تحتهم : فكأنها نُتجَتْ قياماً تَحْتهمْ وكأنهمْ وُلدوا على صهواتها و في هذه التائية بيتٌ رائع حقا ، يخاطب فيه ممدوحَه بقوله: ذُكرَ الأنامُ لنا فكان قصيدة كنتَ البديعَ الفردَ من أبياتها فلله تلك الأوقات الطيبة التي كنتُ أقضيها ، في صباي ، مُنكبّاً على قراءة هذه القصيدة بشرح البرقوقي ! و ذلك في نسخة قديمة مهترئة من هذا الكتاب ، كنت قد ابتعتها من سوق الكتب القديمة بدرهم واحد ! من أحمد بوزفور إلى عبدالقادر وساط نعم صديقي العزيز. في تائية المتنبي هذه أبيات فريدة حقا ، مثل بيت الخيول الذي أشرتَ إلبه . وأيضا مثل قوله: ومطالبٌ فيها الهلاك أتيتُها ثبتَ الجنان كأنني لم آتها و قوله: تلك النفوس الغالبات على العلى والمجد يغلبها على شهواتها غير أني في الحقيقة لا أحب هذه التائية ... ربما لورود لفظة ( سراويلاتها ) ، و إن كان ذلك لأسباب غير أسباب الصاحب بن عباد ، الذي رأى أن العهر أفضل من هذه العفة. و بالنسبة إلي أنا ، فإن لفظ ( سراويلاتها ) لفظ ممجوج شعريا لا أخلاقيا . و انظر معي ، يا صديقي ، كيف عبّرَ العباس بن الأحنف عن المعنى نفسه الذي عبر عنه المتنبي لكن بطريقة مختلفة تماما : لا يُضْمرُ السوءَ إنْ طالَ الجلوسُ به عَفّ الضمير ولكنْ فاسقُ النظر وفوق ذلك كله ، فإنني أجد صعوبة نفسية في تقبل القصائد التائية ، بما فيها تائية ابن الفارض . ولا أكاد أطرب وأنتشي إلا لتائية فريدة في الشعر العربي ، هي تائية الشنفرى ، التي أثبتَها المفضل الضبي في مختاراته ، و التي يقول في مطلعها : ألا أمّ عَمْروً أجمعتْ فاستقلَّتِ وما وَدّعَتْ جيرانَها إذْ تَوَلَّتِ ومنها قوله ، يصف جمالَ هذه المرأة الذي يكاد يفضي بها إلى الجنون : فدَقّتْ و جَلَّتْ واسْبَكَرَّتْ وأكْمِلَتْ فلو جُنَّ إنسان من الحُسْن جُنَّتِ و ياصديقي العزيز، أنا أيضا كنتُ ( ربيت الكبدة ) على نسخة قديمة من شرح البرقوقي لديوان المتنبي. و قد ضاعت تلك النسخة فيما ضاع مني . و ما زلتُ أتذكرها بحنين خاص، ولا يعزيني عنها أي شرح آخر، ولا حتى أي نسخة أخرى من شرح البرقوقي ، لأن نسختي القديمة تضم بين طياتها لمساتي وتأملاتي وحتى بعض تعليقاتي، في تلك الليالي البعيدة التي كنت أنادم فيها شاعري المفضل . فأنا « لا أحترم « الكتاب الذي أقرأه كثيرا ، و إنما أبتذله بالطي والنشر، وبالتعاليق بقلم « البيك « وليس بقلم الرصاص. ويبدو لي أن الذي يحترم أوراق الكتاب لن ينجب منها معرفة ، مثلما أن الذي يخجل من بنت عمه لن ينجب منها أطفالاً . أين مني تلك النسخة الآن؟ وددت لو استرجعتها بكل ما لدي من كتب.