هو من أشار إلى ضرورة الإبقاء على الملكية التنفيذية وتمكين الحسن الثاني من جميع السلطات، وهو من تزعم التيار الليبرالي في المغرب في وقت تغلغل فيه التيار الاشتراكي في أفكار الكثير من النخب المغربية، وهو من أثر في الملك الراحل وكان يده اليمنى في كثير من قراراته، اختار منذ البداية معسكر القصر على معسكر المعارضة، وحرص شخصيا على تقوية سلطات الملك وتقزيم معارضة الاشتراكيين والاستقلاليين، محمد رضا اكديرة، واحد من أكثر من تقلّد المناصب والمسؤوليات في الدولة المغربية الحديثة، إنه الاسم الذي اصطدم بالجميع في فترات معينة، بداية بالمعارضين، ثم بالمقربين من الملك كالجنرال أوفقير، وحتى بالملك نفسه في وقت من الأوقات قبل أن تعود علاقة الود لسابقها. نعود هنا إلى شخصية عمومية طبعت تاريخ المغرب الحديث، واحد من "دار المخزن" كما ينعته المعارضون، وواحد من ليبرالي ما بعد الاستقلال كما سماه أصدقاءه، وواحد من مهندسي تحكم الحسن الثاني بالدولة. عودة السلطان تعادل الاستقلال لدى اكديرة رغم كونه أحد أصدقاء المؤسسة الملكية في فجر الاستقلال، فأحمد رضا اكديرة لم يترعرع في أحضان أسرة غنية، وُلد سنة 22 في كنف والد بقال بالرباط يبيع السكر والشاي والشمع، كثيرا ما كان يقترض من أخيه كي يتكلف بمصاريف أسرته، ونظرا لنمو أحمد في وقت كان فيه المغرب تحت نيران سلطات الحماية الفرنسية، فقد كان من الحاملين لفكرة خروج فرنسا سياسيا من المغرب، مسترشدا في ذلك بثقافته الواسعة ثم بعلاقته مع رشيد ملين، الذي يرجع له الفضل في إدخال اكديرة إلى المحيط الملكي، بعد تأسيسه لحزب الأحرار المستقلين سنة 1937 وضم اكديرة إليه، وهو الحزب الذي عان تضييقا واسعا من السلطات الفرنسية، شأنه في ذلك شأن حزب الاستقلال. أحمد اكديرة الذي أضاف 'رضا' إلى اسمه تأثرا بالمصلح المصري أحمد رضا، نجح بصعوبة بالغة في امتحانات الباكالوريا، ليس بسبب كسله أو قلة ذكاءه، ولكن بسبب اهتمامه الواسع بكرة السلة من خلال فريق محلي، وحدها شهادة البكالوريا من جعلته يقطع علاقته بالرياضة، ويصمم على إكمال دراسته في الميدان الذي يريد "القانون"، لذلك درس سنتين في معهد الدراسات العليا المغربية بالرباط، وانتقل إلى فرنسا ليحصل هناك على شهادة الإجازة، وليلتقي كذلك بزوجته الفرنسية الذي أشرّت على اهتمامه الكبير بالثقافة الفرنسية، وهو الذي قرّر مغادرة الحي الجامعي بباريس بعد خلافات بينه وبين الطلبة الاستقلاليين خاصة محمد الدويري. عندما عاد اكديرة من فرنسا وفتح مكتبه بزنقة 18 يونيو بالرباط، كانت أوّل قضية يُرافع فيها هي الدفاع عن صديقه رشيد ملين أمام سلطات الحماية سنة 52 في وقت وصلت فيه العلاقة بين فرنسا والحركة الوطنية درجة بالغة من التشنج، إلا أن ما جعل اكديرة يختلف عن زعماء الاستقلال كبنبركة وعلال الفاسي، هو صداقته القوية بولي العهد الحسن الثاني، هذا الأخير أحب فيه إخلاصه للملكية ومعرفته الواسعة بالثقافة الفرنسية، وكذلك مطالبته بوقف المقاومة المسلحة بعد عودة محمد الخامس، فبالنسبة لاكديرة، عودة الملك إلى شعبه تساوي الاستقلال ولا حاجة للمغرب بجيش التحرير بعد ذلك حسب المؤرخ المغربي عبد الرحيم الورديغي. الليبرالي الذي يريد كل شيء بيد القصر " بعد استقلال المغرب، اعتبر اكديرة كل الأحزاب السياسية لا تتكون إلا على أساس المصلحة والطمع في الحكم، إنها أحزاب دكتاتورية في نظره أكثر مما هي ديمقراطية" يقول عنه صديقه الورديغي، فمباشرة بعد الاستقلال، بدأ النقاش حول مدى إمكانية تقاسم السلطات بين المؤسسة الملكية والحركة الوطنية، وقد كان اكديرة حريصا على تقوية جهة الملكية لأسباب كثيرة، من بينها اعتقاده أن الملكية وجبت أن تسود مغربيا متخلفا وغير قار، وثانيها حمله لمشروع ليبرالي يهدف إلى تقوية العلاقات مع فرنسا وأمريكا ضد النخبة الوطنية آنذاك التي كانت في غالبيتها متأثرة إما بأفكار محافظة أو بأفكار اشتراكية، لذلك، فقد كان القصر الملكي بالنسبة لاكديرة، ضامنا لإرساء أسس الليبرالية المغربية وتقويض بقية التيارات الأخرى، رغم أن الودغيري يصرح في كتابه "اكديرة: زعيم الليبرالية المغربية"، أن إيديولوجية الوفاء والإخلاص إلى الملكية كانت أقوى لديه من أفكاره الليبرالية. صراعه مع الاستقلال جعل اكديرة يستنجد بالأوساط السياسية الفرنسية من أجل إقناعها بضرورة المساهمة في الحفاظ على الملكية المغربية وإنقاذها مما رآه هيمنة لحزب الاستقلال، ولكي يُقوّض أكثر أي جهة قد يأتي منها بعض القلق للمؤسسة الملكية، حاول إخضاع جيش التحرير للإرادة الملكية لمّا عيّنه محمد الخامس وزيرا للدفاع الوطني، عكس ما كان حزب الاستقلال يريده بإبقاء جيش التحرير مستقلا عن أي مؤسسة، بل إن اكديرة، حسب ما يشير الودغيري، حصل على مساعدة مالية هامة من فرنسا لإنشاء القوات المسلحة الملكية، واستنجد بإطارات فرنسية خبيرة لإنهاء هيمنة جيش التحرير بعدما وجد أن بعض قيادييه يتفقون مع أفكار الاستقلاليين، الذين لم يجدوا حرجا في نعته ب"رجل فرنسا الأول". لم يكتف اكديرة بما حققه أمنيا، ولكنه انتقل للمجال الإعلامي عندما تم تعيينه وزيرا للإعلام في حكومة بلافريج، حيث قام بوضع قبضته على كل ما يخرج للرأي العام من أجل صناعة رأي موحد يخضع للقصر الملكي. ولمّا تأكد من استقواء الجبهة الاشتراكية خاصة مع قرب تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من طرف الجناح الاشتراكي داخل الاستقلال، شجّع اكديرة على تأسيس حزب الحركة الشعبية، ثم أسس فيما بعد الفديك (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية) مع حزب الأحرار والحركة الشعبية وحزب الشورى، لجعلها جبهة ليبرالية ضد الشيوعيين والاشتراكيين. رجل ضد الاشتراكيين عندما تم تعيين الحكومة الاشتراكية لعبد الله إبراهيم سنة 58 التي حاولت اقتسام الحكم مع الراحل محمد الخامس، جنّد اكديرة كل أسلحته لمحاربتها، فبعد خروجه من الحكومة وتحوّله إلى ديوان ولي العهد، قام بتأسيس جريدة ليفار التي كانت أغلب مصادرها من أجهزة الأمن كما يخبرنا القيادي الاشتراكي محمد الحبابي، والتي تخصصت في مهاجمة حزب الاستقلال ثم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بل إن هذه الجريدة هي من نشرت سنة 59 خبرا يتحدث عن رغبة قياديين اشتراكيين في اغتيال أعضاء استقلاليين، ثم قدّم كتابا أبيضا للملك مضمونه ضرورة إبقاء الملكية قوية لاستقرار المغرب، وكوّن معارضة من الأعيان والمتنفذين في الدولة ضد حكومة عبد الله إبراهيم، ليكون واحدا من المتسببين في إسقاطها وهي التي لم تتجاوز سنة ونصف من الاشتغال الحكومي، حيث يقول الحبابي إن ليفار بدأت تتوقف عن الصدور بعد سقوط حكومة عبد الله إبراهيم، لأنها لم توجد سوى لهذا الهدف. عندما توفي الراحل محمد الخامس، واعتلاء الحسن الثاني سدة العرش، وجد اكديرة المناخ صافيا لمحاربة المعارضة، فقد عُيّن بداية مديرا عاما للديوان، ثم جمع وزارتي الداخلية والفلاحة وفوّض له الملك السلطة التنظيمية، ليقرر فتح الباب على مصراعيه أمام أفكاره الليبرالية، فناد على التنظيمات الدولية من أجل مساعدة المغرب، ثم حاول الإبقاء على الأراضي في أيدي المعمرين الفرنسيين قبل أن يتراجع تحت ضغط المعارضة، وقام بمنع الإضراب النقابي في الوظيفة العمومية ضدا على توجهات الاتحاد المغربي للشغل، وقوّى سلطات الملكية في دستور 63، ثم اتهم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالتآمر ضد الملك. باختصار رمى اكديرة كل أسلحته ضد حزب بنبركة وكذلك ضد حزب الاستقلال الذي استقال نتيجة لضغوطه من الحكومة ولجأ إلى المعارضة، وهو الحزب الذي صوّت بنعم على دستور 63. مع حكومة باحنيني، تحوّل اكديرة إلى وزارة الشؤون الخارجية، وذلك بالنظر إلى الظرف الحساس بين المغرب والجزائر بخصوص قضية حرب الرمال ومسألة الحدود، ثقة الحسن الثاني في اكديرة تعود كذلك إلى عداء هذا الأخير للاشتراكيين المغاربة الذين ساند الكثير منهم موقف الجزائر آنذاك، وقد ساهم اكديرة بشكل كبير في تهدئة الأجواء المغربية-الجزائرية في ذلك الوقت، إلا أن ظهور رجل اسمه أوفقير على الساحة، جعل من أيام أُنس اكديرة مع المؤسسة الملكية تدخل نفقا صعبا. توتر مع الحسن الثاني بدأت الدولة المغربية تخصص جزءً كبيرا من نفقاتها للسلاح، وهو ما لم يعجب اكديرة الذي لم يكن يؤمن بالعنف حلا كما كتب عنه الورديغي، لذلك بدأت الخلافات تظهر بينه وبين الحسن الثاني خاصة مع تأميم هذا الأخير للتجارة الخارجية، وهو ما لم يعجب اكديرة، الذي استقال من الداخلية بداية، ثم أتت أزمة بينه وبين زعماء الحركة الشعبية، ليتم حل الفديك، وفي سنة 1965 سيغادر اكديرة نهائيا حكومة باحنيني احتجاجا على وضع المرتشين في محكمة خاصة بعدما كان ينادي بجعلهم يحاكمون في محاكم عادية، وفي نفس السنة، ستقع أحداث 23 مارس التي كان أوفقير مشرفا عليها والتي خلفت عشرات القتلى. تزايدت حدة توتر الرجل مع الحسن الثاني بسبب حل البرلمان وإعلان حالة الاستثناء نهاية 1965، فأعلن اكديرة أن أوفقير هو المسؤول عمّا عُرف بمؤامرة يوليوز 63، ثم أعلن الحياد في قضية بنبركة رغم أنه لم يخف تأسفه على اغتيال هذا الزعيم الاشتراكي، وبدأ يطلب مصالحة وطنية بين جميع الفرقاء السياسيين، فقد أدرك اكديرة، أنه لا ديمقراطية دون أحزاب وطنية يشارك فيها أبناء الشعب وليس فقط المقربين من القصر. نهاية أوفقير وعودة اكديرة "كان الحسن الثاني خليطا بين أوفقير واكديرة" يتحدث المؤرخ المغربي المعطي منجب، وبالفعل، فقد بدأ الملك يحن لاكديرة الذي عاد لبذلة المحاماة بعد سنة 65، ومع فشل المحاولتين الانقلابيتين وإعدام أوفقير، وجد اكديرة الفرصة سانحة ليرجع إلى العمل السياسي سنة 77 من خلال منصب مستشار الملك، وقد عُرف أثناء عودته بمطالبته الحوار مع جبهة البوليساريو، وهو ما أثار ضده عاصفة من الانتقادات، حيث كان يريد فك الارتباط بين هذه الجبهة والنظام الجزائري حسب ما صرّح به لوسائل إعلامية، وعُرف كذلك بمساهمته في إنتاج حوار مغربي-إسرائيلي بعدما كان في وقت سابق من أكثر المشجعين لهجرة اليهود المغاربة نحو ما يسمونه وطنا قوميا لهم، لذلك، كان ينظر إليه على أنه واحد من المطبعين مع الصهاينة، خاصة مع مساهمته في استقبال الملك الحسن الثاني لرئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز في إفران سنة 1986. بعد فشل الفديك وعدم قدرة الأحزاب الليبرالية المتبقية على مجابهة المعارضة التي قادها الاشتراكي للقوات الشعبية، ساهم اكديرة في تأسيس الاتحاد الدستوري سنة 1980 رفقة المعطي بوعبيد، لأنه لم يكن مرتاحا لحزب التجمع الوطني للأحرار الذي أسسه صهر الملك أحمد عصمان، وحاول بداية سنوات التسعينيات الانفتاح على الكتلة الديمقراطية، إلا أنه وجد في طريقه مرة أخرى، وزير داخلية قريب من فكر أوفقير: إدريس البصري الذي لم تكن علاقته على ما يرام باكديرة، خاصة وأن الحسن الثاني كان يحتاج لرجل بمثل قسوة أوفقير ليكون إلى جانبه، فعادت بعض الخلافات لتطفو على السطح، ليقرر اكديرة سنة 94 التوقف عن العمل، لاسيما مع المرض وعدم قدرته على الاستمرار في صراع مع وزير داخلية كانت لديه صلاحيات واسعة. وبعد سنة من اعتزاله السياسية، ودّع اكديرة هذه الحياة قبل أن يتحقق له واحدا من أكبر أمانيه، وهو أن تضع المعارضة الاشتراكية يدها مع يد الحسن الثاني. ما لاكديرة وما عليه ما يُحسب لرضا اكديرة هو أنه لم يفكر في طريق الدم ضد معارضيه، فهو لم يتورط في عمليات قتل كما تورط بذلك أوفقير والبصري، ورغم أنه اتهم أعضاءً اشتراكيين بالتآمر ضد الملك، إلا أنه عاد عن اتهامه وتحدث عن أنها مجرد مؤامرة من أجهزة الأمن، ويُحسب له أنه دافع عن فكرة تعددية الأحزاب عوض الحزب الوحيد الذي كان يرى أن حزب الاستقلال يسير على نهجه، ويُحسب له كذلك أنه انسحب احتجاجا على قرارات لم يكن يتفق معها، رغم أن مكانته في الدولة، كانت تقيه شر أية تداعيات. لكن في الجانب الآخر، سيذكر التاريخ لاكديرة أنه دافع عن الملكية المطلقة وحاول أن يجعل الملك هو كل شيء في الدولة، لقد أراد أن يكون الحسن الثاني بنفس هيبة حكام آخرين كما يقول الورديغيري، إلا أن الملكية المطلقة وعدم فتح المجال أمام فاعلين سياسيين آخرين هو ما تسبب في سنوات الرصاص التي حاول الحسن الثاني تجاوزها في نهاية حياته، والتي أدت إلى عشرات القتلى والمختفين طوال ثلاث عقود، كما أن التاريخ، سيذكر لاكديرة، مساهمته في التطبيع مع إسرائيل وتشجيعه بناء وطن يهودي في عز الجرح العربي. تلك كانت جوانب من حياة رجل أثر كثيرا في الملك الراحل.. وأثر كثيرا في الخارطة الحزبية المغربية بما أنه ساهم في تأسيس عدة أحزاب مقربة من القصر..وأثر كذلك في بنية المغرب الاقتصادية التي لم تتخلّ لحد الآن عن الرأسمال الفرنسي..والأكيد أنه أثر حتى في بنية الدولة المغربية التي قدمت شخصية جديدة تحمل الكثير من صفات اكديرة، ويقترن الأمر بفؤاد عالي الهمة مستشار الملك محمد السادس.