سئل الإمام مالك عن خنزير البحر هل هو حلال أم حرام، فقال لهم: أنتم تسمونه خنزيرا أما أصله فهو سمك البحر. هذا السؤال حير بعض العقول لأن الأسماء لها دلالات لغوية، وتؤثر سلبا أو إيجابا على سلوك الناس، وربما على أفكارهم ومعتقداتهم. وما وقع في مصر "أم الدنيا" لا يحتاج إلى فتاوى فقهاء القانون، لأن هناك انقلاب حقيقي على رئيس انتخب بانتخابات أقل ما يقال عنها، أنها ديمقراطية. ذلك بأن الانقلاب هو الاسم الحقيقي لما وقع بأرض الكنانة، أما الأسماء الأخرى فهي شبيهة "بفتوى خنزير البحر". لقد قامت الدنيا وقعدت بعد فوز حزب العدالة والحرية، وظن البعض أن السماء ستمطر ذهبا وفضة بمجرد وصول الإخوان "أولياء الله الصالحين" إلى الحكم، وانتظر آخرون قطع رؤوس المغنيين والراقصات والممثلين، أما ثلة أخرى فانتظرت خروج إسرائيل من الشرق العربي بعد أيام من وصول أحفاد البنا. كل هذا لم يقع ولن يقع، فهذا حزب يأكل ساسته الطعام ويمشون في الأسواق، ولا يملكون عصا موسى التي تفرق البحار وتقضي على ترهات السحرة. صحيح أن انقلاب ال 30 من يونيو كان موجة عاتية، أرهبت الناس عندما ثارت، وأخافتهم عندما سكنت، فهي كلها شر برأيهم. لكن بالمقابل لم يكن الانقلاب إلا موجة استطاعت بها مصر أن تغير من أولوياتها، فعددت الحلفاء والشركاء، فكان واجب وقتها أن تصمد أمام الامتحانات المتكررة والصعوبات المفبركة، وكان فعلها أن تعيش في ظلام دامس طوال سنة من الحكم لأن نور المصابيح بيد رجال لا يحبون التغيير، وهم سارحون مع هوام الأرض. إن ما يقع في مصر هو نصف الجنون، أما نصفه الآخر فسيتم بمجرد القضاء على تجربة التناوب على السلطة. لقد قضى بعض "المحبين للسلطة والتسلط والفرعنة" على أحلام المولود الجديد في السلطة، وبالرغم من أن الولادة كانت قيصرية إلا أن "السلطويين" لا يهمهم إلا تحقيق أحلامهم، فالانقلابيون يريدون العودة إلى الحياة "الطبيعية" المبنية على أساس العبودية والخنوع، وهم "حماة للديمقراطية الحقة" مادامت السلطة بيدهم. لقد نسي الانقلابيون أن العبد لا يكون عبدا تحت أقدام الجلّاد؛ إلا إذا آمن هو أنه عبد! ووطن نفسَه للعبودية! مستجيبا بصورة لاشعورية لإرادة الأقوياء. وهو أمر غير وارد في الحالة المصرية إلا عند من كانت لهم القابلية لذلك من رموز الليبراليين وقادة العسكر ومن قصرت الديمقراطية أن توصل بهم إلى رئاسة السلطة. فكل اللاعبين على رقعة ملعب السياسة في الداخل مثل القوات المسلحة "وهو أكبر حزب سياسي في مصر"، والإخوان والسلفيين والأحزاب "العلمانية والحداثية"، وحركة التمرد، والأزهر والكنيسة القبطية وغيرهم، كلهم على درجة عالية من المسؤولية على مستقبل مصر. لكن اللاعبين خارج رقعة الملعب المصري، وهم كثر، لا يفكرون إلا في مصلحتهم، ومصلحة اقتصاد جيوبهم، وهم لاعبون كبار يستطيعون الغوص في كل بحار السياسة، وبقدرتهم على اللعب في أعالي البحار كذلك، "فقوتهم لا تقهر"، "وسلطانهم لا ينفد"، لا تهمهم الديمقراطيات ولا الديكتاتوريات، فهم لا ينامون حين ينام الناس، ولا يتعبون حين يتعب الناس، فهم مردة شياطين السياسة، ومن استقوى بهم استقوى بالظلام الحالك. إن مصر اليوم في مستنقع خطير، ولو وقع مثل هذا في أسبانيا أو البرتغال أو اليونان أو البرازيل أو غيرها وكلها دول تعيش أزمات خطيرة، واتهامات لرؤسائها ومسئوليها، وكلها دول تعيش حكوماتها تدني كبير لشعبيتها، لقامت الدنيا ولم تقعد، ولتحرك العالم لإنقاذ الديمقراطية، أما مصر فهي ملك للفراعنة المستعبدين، ولا يعقل لساكنتها أن ينعموا بحريتهم إلا إذا منحها لهم الفراعنة بقوة الاستعباد. إن ما لا يعرفه الإنقلابيون هو أن سماءهم "اليوم" تمطر دولارات كثيرة، وبورصتهم في ارتفاع كبير، كل هذا "عندهم"، أما شعب مصر فيكتب تاريخ الانقلاب بمداد من دم، فالتاريخ اليوم يدونه الشرفاء ليقرأه الحفدة بعد أن يوارى الثرى سفهاء القوم، وسيلعن المصريون كل من غير مسار التاريخ، ودفن تجربة الحرية، "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".