بعيدا عن السجال الذي أثاره العفو الملكي عن مغتصب الأطفال الإسباني، فإن قرار الملك بسحب هذا العفو بعد موجة الغضب الذي فجرها في الشارع المغربي وخارج الحدود يستحق وقفة متأنية. هذه أول مرة يتم فيها سحب عفو يحظى به شخص من طرف المؤسسة الملكية، التي يخولها الدستور منح حق العفو لمن تشاء وبعيدا عن أي اعتبار من الاعتبارات التي يمكن أن توضع في الحساب، فقد كان من البديهي أن صلاحيات العفو مفتوحة أمام جميع الأقضية مهما كانت خطورتها أو آثارها على الضمير الجمعي للمغاربة، حتى لو كانت تلك الأقضية مرتبطة بجروح لا تندمل في نفوس الضحايا، ولذلك فإن قرار سحب العفو اليوم يعتبر جرأة غير مسبوقة من طرف المؤسسة الملكية التي أعادت تصحيح وضع مختل من ناحية، ووضعت ضمنيا واحدا من القيود في وجه العفو الملكي سوف تظل مسطرة العفو محكومة به في التجارب اللاحقة. القرار انتصر في النهاية لحقوق الضحايا وللمغاربة الذين شعروا بأنهم مسوا في كرامتهم، وسوف يكون من باب رأب الصدع والاعتذار للضحايا أن يعاد الإسباني الذي تفلت من العقوبة إلى زنزانته لكي يقضي المدة المحكوم بها عليه، لأن مكان هذا الشخص هو السجن وليس هواء الحرية. وأعتقد أن النقطة التي أفاضت الكأس ليست فقط تمتيع مجرم اقترف جرائم اغتصاب يندى لها الجبين، بل أيضا لكونه إسبانيا وواحدا من الأجانب الذين كانوا يتصرفون داخل المغرب وكأنهم في ماخور. وقبل مناقشة العفو الملكي يتعين أولا تحديد المسؤوليات في تزايد هذه الظاهرة الخطيرة، فليست قضية هذا الإسباني حالة يتيمة في قائمة جرائم الاغتصاب التي يكون"أبطالها"أجانب، ولكن القضية هي أن هناك حالة تراخ اتجاه هذه النوعية من الجرائم التي عادة ما يكون لها ثلاث حلقات:الجاني والضحية والقابض، وإذا كان الجاني والضحية معروفين فالمشكلة في القابض. قضية العفو السلطاني عن أجانب مسؤولين عن جرائم ليست جديدة. جميع السلاطين في المغرب اتخذوا قرارات لفائدة مجرمين أجانب، إسبان وفرنسيين وبريطانيين وألمان، خلال القرنين الماضيين، بسبب وجود مصالح بين دولتين أو نتيجة ضغوطات خفية للدولة الأجنبية على السلطان أو التلويح بعقوبات، فقد ظلت الدول الأجنبية تتصرف دائما اتجاه المغرب وكأن مواطنيها فوق القانون. هكذا تدخل ديبلوماسيون وشركات ورجال دين وحكام لفائدة مجرمين أو محميين أو منصرين عند السلطان الذي لم يكن يجد بدا من الموافقة دون إبداء تحفظات، وكان السلطان يستقبل الوفود الأجنبية التي تتوسط لديه ثم تعود ومعها المجرم حرا طليقا وفوق ذلك محملة بالهدايا. صحيح أن بعض السلاطين كان يراعي مصالح البلاد العليا أحيانا، ولكن الصراعات القوية بين القوى العظمى والوضعية الداخلية الهشة لم تكن تترك للسلطان خيارا آخر، وكان ذلك كله يتم بتأييد أو صمت من العلماء والمؤسسة الدينية التي كانت هي الأخرى تراعي التوازنات بين الداخل والخارج، ووفق القاعدة الشرعية التي تقول بأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، أو الضرورات تبيح المحظورات. من أجل هذا يشكل سحب العفو الملكي عن الإسباني المدان جرأة غير مسبوقة وتطورا في طريقة تعاطي المؤسسة الملكية مع قضايا تهم المواطن بشكل مباشر. وأتصور أن هذا القرار سيكون له ما بعده فيما يتعلق بمسطرة العفو والمتدخلين فيها، وهي مسطرة ظلت تشكو من الاختلال وأثيرت قبل سنوات قليلة بعد التفجير الانتحاري الذي قام به السلفي عبد الفتاح الرايضي الذي غادر السجن بعفو ملكي. وسوف يصبح من المفروض أن يراعي العفو الملكي حقوق الضحايا ونوع الجرم في أي عملية، وقد كان بلاغ الديوان الملكي واضحا في وضع سقف مثل هذا، عندما أكد على تمسك الملك" بمجموع القيم الأخلاقية الثابتة، وبمركزية النهوض بحقوق الإنسان، وحماية الطفولة"، وهي ثلاثة أركان سوف تصبح بمثابة قيود في وجه قرارات العفو. مثل هذه الجرائم تقع فوق مسؤولية أي كان، أي أنه غير مسموح أخلاقيا وإنسانيا بغض الطرف عنها بَلْه العفو عنها، ولذلك فإن قضية هذا الإسباني أثيرت حتى داخل إسبانيا نفسها من حيث مسؤولية خوان كارلوس في التدخل لدى ملك المغرب من أجلها، إذ طالب الحزب الاشتراكي العمالي المعارض حكومة الحزب الشعبي ب"توضيحات عاجلة" بخصوص هذه القضية التي أثارت أيضا حنق الإسبان، ودفعت الحزب إلى التساؤل عن هذا الحق الممنوح لملك إسبانيا في التدخل لفائدة مجرم من مواطنيه لدى البلدان الأجنبية. هناك قضية مثارة في ضفتي المتوسط، وهناك ملكية في المغرب تتطور.