غاية الديمقراطية وآليات الحكم، وغاية الدساتير وسن القوانين ووضع السلط والفصل بينها هي أولا وأخيرا تدبير شؤون المواطنين والمواطنات لخدمة مصالحهم وصيانة كرامتهم. لهذا فحدود هذه الكرامة وإهانة الإنسان والمس بشرفه وإنسانيته تعتبر باستمرار محك حقيقي لآليات الحكم ووضع وتطبيق الدساتير وسن القوانين وتعديلها، ولمقتضيات وسيرورة الحياة الديمقراطية في رمتها. فصون كرامة الفرد أو المواطن تعتبر قيمة القيم التي يجب أن تحترم في فضاء المجتمع وساحة الحكم ونفوذ الدولة، وعندما يتعلق الأمر بالكرامة بصيغة الجمع، أي عندما يهم الأمر مجموعات بشرية أو شعبا بأكمله فإن المس بها أو الإساءة إليها يعتبر أم الكبائر في الحياة الحقوقية والممارسة السياسية والديمقراطية. لهذا تحضر حدود الكرامة وشروطها باستمرار في مسارات الحياة الديمقراطية والحقوقية، وتطوير الترسانة التشريعية والقانونية، ومراجعة الإجراءات والصلاحيات السياسية والدستورية وشروط ممارستها وتنفيذها. فموجة الاحتجاج التي تلت حادث العفو عن الإسباني دانييل الذي حوكم ب30 سنة سجن نافذ على اثر أعمال إجرامية مرتبطة باغتصاب 11 طفل مغربي تتراوح أعمارهم بين أربع وإحدى عشر سنة، والتي قوبلت بالقمع، جاءت مفعمة بحس الدفاع عن الكرامة وصيانة حقوق الأطفال واستنكار أي فعل سياسي وقانوني لا يراعي خطورة مثل هذا الفعل الدنئ ووقعه على نفوس الأسر والمواطنين. إذا توقفنا عند الردود الرسمية التي تلت الحادث وموجة الاحتجاج التي عقبته، يتضح أنه حادث خلخل الوضع السياسي والممارسة الديمقراطية كما يتضح من خلال ردود وتصريحات وزير العدل والناطق الرسمي باسم الحكومة والصمت الرهيب لرئيس الحكومة. فالأول سارع إلى تبرئة وزارته ورمي الكرة في ملعب الديوان الملكي، وكأنه لا سلطة ولا مسؤولية له في مساطر الإجراء والتنفيذ، والثاني الذي يبدو مفاجأ فضل لغة الخشب، أما الرئيس فبصمته يكشف جانب من العجز السياسي والخوف الذي لا يزيد الممارسة الديمقراطية سوى مزيدا من التقليدانية واللبس. فالأهم في نظرنا أن هذا الحادث، وإضافة إلى كونه سيساهم في تعزيز الحس الحقوقي والدفاع عن كرامة المواطن ويبدد حاجز الخوف والصمت عندما تنتهك، فهو سيفتح نقاشا غير مسبوق حول حدود الصلاحيات والإجراءات السياسية التي يمكن أن تمس بهذا الإحساس واستجلاء بعض التفاصيل التي غالبا ما لا ينتبه إليها في سياق النقاشات الكبرى والعامة، خاصة من مستوى الإصلاح الدستوري وتحديد الصلاحيات والمسؤوليات والمهام وسن وتنفيذ القوانين . ففي المغرب، من بين هذه الصلاحيات والمواضيع التي تتطلب النقاش السياسي والحقوقي على ضوء حادث دانييل والاحتجاج الشعبي على ذلك، ثمة موضوع العفو الذي يعتبر في تاريخ النظم الدستورية والقانونية وفي عدة دول من أهم نقط النقاش والإصلاح الذي يعكس مستوى الحياة الديمقراطية والنضج المجتمعي والمؤسساتي. وفي هذا السياق يمكن أن تفيدنا تجارب الدول الديمقراطية التي سبق أن عرفت مثل هده النقاشات والأحداث، وطورت على إثرها ترسانتها التشريعية والقانونية بما يسمح بتقنين الممارسة السياسية وتحديد المسؤوليات ووضعها في خدمة المصلحة العامة وكرامة مواطنيها. يدخل حق العفو في أغلب الدول ضمن اختصاصات رئيس الدولة، وتخضع ممارسته لحكم القانون الذي يؤطر شروطه ومسطرة تنفيذه. لكن في ألمانيا وإيطاليا والبرتغال وسويسرا يدخل حق ومهمة العفو ضمن اختصاصات البرلمان. في فرنسا يمنح قانون العفو الذي صودق عليه بعد الانتخابات الرئاسية إمكانية ممارسته لرئيس الدولة عبر مرسوم فردي. لكن بعد صدور قانون 6 غشت 2002 صار قانون العفو يستثني بعض الحالات التي لا يمكنها الاستفادة منه، وهي مرتكبي أعمال إرهابية، وجرائم الميز، وأحداث العنف التي ترتكب على أطفال في عمر أقل من خمسة عشر سنة، وتهريب المخدرات، وجرائم الاغتصاب الجنسي والمعنوي... وفي بريطانيا تحظى الملكة بصلاحية إصدار العفو لكن بناء على رأي وزير الداخلية، ووفق قانون 1995 يعهد للجنة مراجعة الشؤون الجنائية بإبداء الرأي للوزير والبث في ملفات الأشخاص المخول لهم الاستفادة من العفو. في إسبانيا يمنح الدستور للملك حق إصدار العفو لكن يمنع عليه إصدار العفو الجماعي، كما أن هناك قانون يحدد مسطرة وشروط ممارسة وتنفيذ وإصدار العفو حيث أن وزارة العدل هي التي تضطلع بالنظر في الطلبات والأسماء، وبعد مراجعة أولية تعاد الملفات إلى النيابة العامة ومصالح العفو لإبداء الرأي فيها، ويتخذ قرار القبول أو الرفض في المجلس الوزاري، ليحال بعد ذلك على الملك الذي يوقعه، ويحمل المرسوم أيضا توقيع وزير العدل.