بخصوص التجارب الأدبية الجديدة في المغرب ما الذي يمكن لجيل أن يكتبه و يختلف فيه عن جيل سبقه بسنوات فحسب؟ و هل ثمة فعلا روح واحدة هي التي تسري في جسد ما كتبه شعراء الجيل الواحد؟ ألا يشكل كل شاعر عالما بمفرده؟ كل كاتب له حياته الخاصة، و قراءاته الخاصة و نظرته الخاصة للحياة بشكل عام و للكتابة بالتحديد. فما الذي يجعل هذه الخصوصية تتحول بالضرورة إلى أشياء مشتركة. في سياق الحديث عن الجيل الجديد – أو الأجيال الجديدة- ليس ثمة جواب جاهز بالضرورة، غير أن بعض المؤشرات تجعلنا نقترب ما أمكن من الأمر، لعل أولها هو مفهوم الجيل نفسه الذي يحيل على المشتركات الاجتماعية و الثقافية من أنماط تربية و طرق عيش و بلاغات تواصل و ملابس و أذواق فنية و توجهات فكرية، و لعل ثانيها في نظري هو أن أفراد هذا الجيل يقرؤون أعمال بعضهم البعض، و يحاولون عن قصد أو عن غير قصد أن يظلوا محتمين بالقلعة ذاتها، أي قريبين لبعضهم شعريا، ليس من حيث شكل الكتابة فحسب، بل إنهم يسعون إلى تنشق الهواء ذاته أي المرجعيات القرائية و الفكرية التي تجعل ثقافتهم واحدة أو قريبة من أن تكون بالفعل ثقافة واحدة. ملتقى الطرق الذي تبدو فيها ثقافة الجيل الجديد بالمغرب متقاربة -أو متفقة ضمنيا على هذا التقارب – هو مكان موجود بالفعل، لا يضم الجميع بالضرورة، لكنه يجمع الأغلبية، الأغلبية التي تفرض إيقاعها و تغدو بشكل أو بآخر عاملا موجها لعملية الكتابة و خياراتها. ربما لم يطّلع كل شعراء الجيل الجديد على نظريات قصيدة النثر في أوربا و أمريكا، هناك شعراء يكتبون نصوصا تندرج ضمن هذا المسمى دون أن يطّلعوا على تنظيرات سوزان برنار و أفكار موريس شابلان و ماكس جاكوب و كتابات برتراند و بودلير و غيرهم، لكنهم تأثروا بالنصوص سواء الغربية أو العربية التي تجلت فيها هذه التنظيرات على اختلاف درجات هذا التجلي. ليس لكلمة "جيل" بالمفهوم الراهن جذر في اللغة العربية. إذا دققنا مثلا في لسان العرب سنجد أن مرادف مفردة جيل بكسر الجيم هو القوم و الأمة، و ليس المعنى الذي ننشده، إن كلمة "جيل" بمعناه الحديث قادمة في الأصل من فلسفة الإغريق الذين انتبهوا في الكلمة اللاتينية Generare إلى عدم تناغم العلاقة بين الفئات العمرية. و عليه فمفهوم المجايلة هو الآخر مستورد من ثقافة أو ثقافات أخرى، شأنه شأن الشكل الشعري الذي يكتب فيه معظم أفراد هذا الجيل (قصيدة النثر). و أنا هنا أقف عند القرن التاسع عشر كإطار زمني لظهور هذا النوع، و لا أتحمس بالمقابل إلى الخطابات التي تحاول أن تعود بقصيدة النثر إلى أصول عربية قديمة أو بابلية وسومرية. المدة الزمنية التي حددها علماء الأحياء و الباحثون في السوسيولوجيا و الأنثربولوجيا لمفهوم الجيل هي 33 سنة، المسافة الفاصلة بيت تحول الابن إلى أب، لكن النقاد و الشعراء العرب اختصروها في عقد واحد. فما الذي يمكن أن يتغير شعريا في عشر سنوات؟ إذا انطلقنا من منتصف القرن الماضي إلى حدود التسعينات يمكن بالفعل ضبط مجموعة من نقط الاختلاف و التحول في الشعر العربي، تلك التي طرأت من عقد إلى عقد، وهذا راجع بالضرورة إلى كون الشعر العربي عرف خلال تلك المرحلة انتقالا كبيرا و تدريجيا نحو الحداثة، لذلك جاءت التطورات واضحة جدا. لكن ماذا عن النصف الأول من القرن؟ هل كان ممكنا مثلا الحديث عن جيل عشريني و آخر ثلاثيني أو أربعيني؟ و ماذا أيضا عن القرن الذي سبقه؟ ثم ما الذي يمكن أن يطرأ كذلك في العقود المقبلة؟ ستكون أوجه التطور في نظري محدودة و ذات صلة بجزئيات صغيرة، و عليه فمفهوم الجيل المرتبط بالعقد مفهوم لحظي و مهزوز سيموت مع تعاقب العقود. وربما بدأ هذا المفهوم يتراجع بالفعل، فهل ثمة مثلا تحول حقيقي أو مفصلي بين عقد التسعينات و عقد العشرية الجديدة من هذه الألفية؟ وهل ثمة أصلا تسمية جاهزة للشعراء الذين كتبوا أو برزوا خلال هذه العشرية؟ و ماذا عن عشر سنوات اللاحقة التي اجتزنا فيها ثلاث سنوات؟ سيبدو هذا التقسيم في رأيي مستقبلا – و ربما راهنا- ضربا من العبث. ثمة شيء آخر يجعل تعميم كلمة جيل قياسا إلى سن الكاتب- وسن الكتابة أيضا- أمرا غير مستساغ، فكم شاعرا بدأ سبعينيا في السبعينات، ثم انتهى تسعينيا في التسعينات. وكم شاعرا حديث السن بدأ يكتب خلال السنوات الأخيرة لكن بروح السبعينات. في اعتقادي لا يتحقق مفهوم الجيل شعريا إلا حين يقع ما سماه إميل سيوران ب "الظلم" الذي يفرضه كل جيل على الجيل الذي سبقه، أي "التقدم". و ألا يكون الأمر فقط مجرد "تخيل" كما وصفه جورج أورويل حين قال " يتخيل كل جيل أنه أذكى من الذي سبقه وأكثر حكمة من الذي يليه". أعتقد أن كلمة "جيل" يجب هي الأخرى أن تأخذ وقتها، و ألا ترتبط بحيز زمني محدود يتعاقب بشكل ميكانيكي، يمكن الحديث عن "جيل" إذا ما ظهرت هناك بالفعل تحولات حقيقية وبنيوية تجعل أفراده يختلفون و يتميزون بشكل كبير عن "جيل" سابق، و بالتالي قد يستغرق الجيل الواحد عقدا أو خمسة عقود أو نصف عقد. لأن الأمر يرتبط بالشعر، الشعر الذي يتطلب وقتا و جهدا و تعبا لكتابته. أما الأجيال السريعة التي يراد لها أن تحقق مردودا في السوق العامة فهي فقط أجيال الهواتف الذكية التي تصل إلينا عاما بعد عام. *شاعر وكاتب من المغرب تصدر هذه الورقة بعد الصيف ضمن كتاب يعده الباحث المغربي عبد اللطيف الوراري عن التجارب الشعرية الجديدة في المغرب.