يدخل هذا المقال ضمن سلسلة من المقالات حول السينما الإسرائيلية، التي لا نكاد نعرف عنها شيئا، ولا نعطيها أي اهتمام، على الرغم من أنها واجهة من واجهات المشهد الثقافي في الشرق الأوسط، لا يستغنى عنها في فهم تاريخ المنطقة المعاصر، وتطور النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني على امتداد قرن كامل. وسنجعل من دراستها، والكشف عن قضاياها وبنياتها ووظائفها وخطابها، وعن أدوارها في تشكيل الوعي الفردي والجماعي، الفلسطيني والإسرائيلي، غاية وأولوية كبرى، بعيدا عن القضايا والأبعاد الخارجة عن دائرة تحليل للخطاب. سأقف عند أول مقال يتناول صورة الفلسطيني في السينما الإسرائيلية، كما تحققت عند المخرج "عيران ريكليس، Eran Riklis"؛ وسأعتمد في عرض تمثله للآخر على مقال فيرونيك بيلانج Véronique Bélinge وعنوانه "الفلسطيني بالعدسة الإسرائيلية: الاستشراق المتنور"، حيث تعرضت بالتحليل لفيلمين للمخرج المذكور ["شجرة الليمون" (2008) و"ابني" (2014)]، مركزة على فحص قدرة المخرج على انتقاد الخطاب الاستشراقي المستعمل، تاريخيا، لتقديم صورة الفلسطينيين في الصحافة والسينما والأدب، وقدرته أيضا على تجاوز هذا الخطاب، وتجنب تمثلاته. تصنف فيرونيك بيلانج المخرج "عيران" ضمن الجيل الثاني للسينمائيين الإسرائيليين الشباب؛ انطلاقا من كونه يقدم نقدا جديدا للنزعة العسكرية الإسرائيلية؛ ويتناول قضية الاحتلال من زاويتي نظر المحتل والخاضع للاحتلال معا؛ كما أنه يسجل في المشهد الخطاب الحالي، المنفتح على قضية التعدد الثقافي، ونظرية ما بعد الاحتلال، وعلى تجاوز الأطروحة الوطنية في التقليد السينمائي الإسرائيلي السابق. وهو تقليد يصور الإنسان العربي باعتباره "الآخر، الإيروسي والغرائبي"، بدلا من النظر إليه باعتباره جارا وإنسانا، يتقاسم مع الإسرائيلي أشياء كثيرة. تقارب "فيرونيك بيلانج" الفيلمين من زاوية خطابية، تحاول رصد الصور والتمثلات التي تنبني عليها نظرة المخرج إلى الإنسان العربي الفلسطيني. وتحاول، من خلال هذه التمثلات، البرهنة على أن الفيلمين يمثلان شكلا استشراقيا متنورا، يدين الصور النمطية لل "آخر" الفلسطيني، دون أن ينسلخ تماما عن الخلفية المعيارية. كيف تتحقق صورة العربي الفلسطيني فيلميا؟ وما هي الجذور التي تنبثق منها؟ وإلى أي مدى استطاع المخرج "عيران" خلخلتها أو تجاوزها؟ سنحاول الإحاطة بهذه الأسئلة اعتمادا على العمل التحليلي الذي قدمته "فيرونيك بيلانج"، وإعادة ترتيبه وتنظيمه، ومساءلته في تركيب مركز يستشف التمثلات والخلفيات التي تحكمها. تنطلق "فيرونيك بيلانج" من السياق الاجتماعي التاريخي، وتتحدث عن فبركة الأسطورة السامية في الحركة الصهيونية، كأصل لنشأة إسرائيل. حين وجدت الصهيونية نفسها في مواجهة شعب آخر في فلسطين، أنكرت الهوية الوطنية للفلسطينيين، وشبهتهم بالعرب، ووصفتهم بنفس الصور النمطية والإيحاءات السلبية التي استعملها الغرب لوصف الشرقيين: (متخلف، منحط، همجي). في نفس التوجه، اعتبرت إسرائيل نفسها دولة غربية متحضرة، وتأسست على إقصاء وقهر العرب باعتبارهم مرادفا للانحطاط والتهديد والوحشية واللاعقلانية. نفس التمثلات النمطية نصادفها في السينما الإسرائيلية التي اعتبرت العرب (1) كائنات بدائية، غير ضارة، أو (2) كائنات شيطانية ماكرة، أو (3) اختزلتها في الآخر الإيروسي الذي ينبغي مقاومته؛ وفي الحالات الثلاث تعتبره كائنا مختلفا لا يرقى إلى صفات ومميزات الإسرائيلي المتحضر. في هذا السياق، وداخل هذه النظرة المتعالية الاستشراقية، التي تهيمن على السينما الهوليودية، والإسرائيلية على السواء، يجد المخرج "عيران" نفسه داخل مأزق حقيقي. إنه يمثل الغالبية العظمى المحتلة بوصفه يهوديا ومواطنا إسرائيليا؛ كما أنه، في الآن نفسه، يسعى، كمخرج متنور، إلى تمثيل الأقلية التابعة والخاضعة للاحتلال. داخل هذا السياق يتعين على المخرج أن يعترف بأن أفلامه متجذرة في العالم. أي أنها تنبثق من أحداث ولحظات تاريخية تتحكم في تأويلها، وتشرط حدوثها وبناءها وتحققها الفكري والجمالي والإبداعي. هكذا، وأمام تداعيات الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وآثارها على الحياة اليومية للآخر الخاضع للاحتلال (فلسطينيين من الضفة الغربية، أو مواطنين إسرائيليين عرب) يجد المخرج نفسه مسؤولا عن التعبير عن حقيقة تاريخية خارجة عن إرادته. وباختصار يجد نفسه موزعا بين رغبته كفنان مثقف عليه نقد الاحتلال الإسرائيلي، وبين موقعه كمخرج غربي وكمحتل إسرائيلي. لنتابع هذه الصعوبة من خلال تحليل الفيلمين المذكورين أعلاه: 1- فيلم شجرة الليمون Lemon Tree (2008) يحكي الفيلم قصة "سلمى"، امرأة فلسطينية تسكن في الضفة الغربية، عند الحدود الفاصلة بين إسرائيل وبين الأراضي المحتلة. تعيش منذ 50 سنة، عيشة بسيطة، من استغلال مزرعة لليمون، ورثتها عن أبيها. مع بداية الفيلم يسكن إلى جوار مزرعتها وزير الدفاع الإسرائيلي وزوجته، لتنقلب حياتها. ذلك أن الوزير اتخذ قرارا باقتلاع أشجار الليمون لأسباب تتعلق بالأمن القومي. ترفض سلمى الخضوع للأمر، وترفع دعوى قضائية ضد الجيش الإسرائيلي. وبعد أن كانت قضيتها تتجه نحو الخسران، كأمر حتمي، تدخلت زوجة الوزير، "ميرا" لمؤازرتها، رفضا لإتلاف الأشجار، وإحساسا بالقيود الناجمة عن علاقتها بالسلطة الإسرائيلية. حين نعيد النظر في الحكاية الفيلمية، نلاحظ أنها تتشكل من علاقة غير متكافئة بين شخصية "سلمى" العربية الفلسطينية، وبين السلطة الإسرائيلية المحتلة مجسدة في وزير في الدفاع. علاقة بين المحتل والخاضع للاحتلال. علاقة تمتد واقعيا في حكايات عديدة مأساوية حول نزع الملكية؛ وتمتد رمزيا في حكايات المرحلة التوراتية، حيث المواجهة بين داوود وجالوت، بين بطل غير متوقع وخصم جبار. هل نعتبر هذه الحكاية، مع "فيرونيك بيلانج" ذريعة لانتقاد إسرائيل وتقاليدها السينمائية، ومبررا لاتهام السياسة الإسرائيلية التي تفصل بين العرب واليهود، وتحول دون إيجاد أرضية توافقية مشتركة؟ تقيم الحكاية الفيلمية أيضا تقابلا بين "سلمى" و"ميرا"، على مستوى السطح. بين عربية ويهودية، بين فلسطينية وإسرائيلية. يتلاشى هذا التقابل على مستوى العمق، نتيجة للتحول الذي طرأ على شخصية "ميرا" التي ترفض عملية اقتلاع الأشجار، وتتمرد على الاحتلال، لتتحرر بدورها من الازدواجية التي تطبع شخصيتها، لتنتهي إلى ترك زوجها في نهاية الحكاية الفيلمية. في هذا المستوى تصبح "سلمى" و"ميرا" شخصية واحدة منصهرة في مقابل جبروت السلطة، كشخصية افتراضية مجسدة في الزوج الوزير والجنود والأجهزة الأمنية. هكذا تنتقل الحكاية من تقابل ثنائي صريح (سلمى/ السلطة)، إلى تقابل ثلاثي عميق (سلمى – ميرا / السلطة الإسرائيلية). هذا التقابل الأخير، يعطي للحكاية نموها وانسجامها وانفتاحها الخطابي. ذلك أنه لولا وجود شخصية "ميرا"، لبقيت الحكاية قائمة على التناقض الأساس، بين المحتل وبين الخاضع للاحتلال، بين القوي وبين الضعيف؛ ولبرزت صورة الاحتلال في قسوتها وبشاعتها. صورة لا يريدها المخرج، أو أنه يعمل على تحاشيها أو تلطيفها على الأقل. من هنا كان خلق شخصية "ميرا" ضرورة حكائية (النمو والدينامية)، وضرورة خطابية تعكس موقف المخرج "عيران"، من الصراع القائم. أي صورة يرغب في تقديمها عن الاحتلال؟ تثير "فيرونيك بيلانج" حدث ترك ميرا لزوجها في نهاية الحكاية، وتعتبره تفككا حتميا للسلطة الإسرائيلية. في الآن نفسه، تذهب، انسجاما مع قراءتها الخارجية، إلى أن التعارض بين "إسرائيل" و"فيرا" يرمز إلى وجود تيارين في المجتمع الإسرائيلي (التيار العسكري واليسار المعتدل)، ومع ذلك فهما وجهان لعملة واحدة للهيمنة الإسرائيلية. لكن لماذا نركز على هذا التعارض في الحكاية الفيلمية؟ لماذا نقيم التقابل بين التيارين داخل الفيلم؟ أين يتموقع مخرج الفيلم؟ إلى أي طرف يميل؟ لماذا يهدم صورة العسكري ويعيد بناء صورة الرافض للهيمنة؟ هل نعتبره ناقدا معتدلا كما ذهبت إلى ذلك "بيلانج"، أم أنه مناضل يساري يدافع من أجل صورة أخرى للوجود الإسرائيلي، وينتقد السلطة العسكرية؟ من هنا تكون شخصية "ميرا" امتدادا لذاتية المخرج، وتجسيدا لطموحاته، وتعبيرا عن موقفه الخطابي وتموقعه الفكري. إذا كان لهذه الشخصية رمزيتها ووظيفتها الخطابية، فأي وظيفة للشخصية الأساس "سلمى" وكيف يبنيها الفيلم، وإلى أي مدى تشكل ملامح الشخصية الفلسطينية؟ نتابع مع "فيرونيك بيلانج". صحيح أن فيلم "أشجار الليمون" أعطى الكلمة للمرأة الفلسطينية، وصورها قوية تواجه الاحتلال، وتناضل من أجل حقوقها، غير أنه لم يتخلص نهائيا من التمثلات الاستشراقية، حسب "بيلانج". دلك أن الفيلم يقدم المرأة الفلسطينية بنوع من النمطية: – تختزل المرأة الفلسطينية في "سلمى" كشخصية جامدة في الزمن، محاصرة في فضاءاتها الحميمية (المزرعة، المطبخ)، وممارساتها اليومية (إعداد مخللات الليمون). هذا الارتباط يتماشى مع التقاليد السينمائية الإسرائيلية والفلسطينية، والتي تقدم المرأة كبديل للأرض. – يركز الفيلم على علاقة الإغراء المتطورة بين سلمى الخمسينية ومحاميها الشاب، والتي تحيل إلى أسطورة الشغف والإحساس الأنثوي، أي الجانب الانفعالي واللاعقلاني للإنسان الشرقي، في مقابل شخصية الوزير، كتجسيد لدولة إسرائيل العقلانية والبراغماتية. – يقيم الفيلم، أيضا، تقابلا بين سلمى المرأة العربية التقليدية (مزارعة، وحيدة اللغة، معوزة، ومحصورة في مجتمعها)، وبين ميرا، المرأة الغربية المعاصرة (محترفة، عالمية، متعددة اللغات وذات امتياز). يتعمق هذا التقابل على المستوى الانفعالي: (غضب واستياء سلمى في مقابل برود وهدوء "ميرا" واعتذاراتها الفارغة. تنتصر سلمى انتصارا ضئيلا، ويصدر الحكم بتقليم الأشجار عوض اقتلاعها. تحقق الانتصار الجزئي لمجرد حضور "ميرا" إلى المحكمة. أي بفضل شهامة ونبل المحتل. هكذا نستنتج مع "بيلانج"، أن الفيلم يبدو في ظاهره محاولة لتقديم نقد مفتوح لاحتلال للضفة الغربية، وجبروت السلطة الإسرائيلية. كما أنه يصر، في الآن نفسه، على تلميع صورة المحتل من خلال شخصية 'ميرا' وحق الفلسطيني في اللجوء إلى المحكمة لاسترجاع حقوقه. هل ينتقد الاحتلال أم سلوك المحتل. ماذا يعني الحكم بتشذيب الأشجار، إن لم يعن الحفاظ على وجود المحتل، والحفاظ على حياته من المخاطر المحتملة؟ وإذن، فالمخرج يرفض الوجه العنيف للاحتلال، لكنه لا يناقش الاحتلال في حد ذاته. من هنا نعتبره " بيلانج" نقدا متنورا، لا يعمل إلا على إدامة الخطاب الاستشراقي المشرعِن للاحتلال. 2- فيلم "ابني" Dancing Arabs (2014) اقتبس "عيران ريكليس" فيلمه (ابني) من رواية "عرب راقصون" للكاتب العربي الإسرائيلي "سيد قشوع" الصادرة سنة 2002، وهي سيرة ذاتية يستلهمها المخرج لتناول قضية الغيرية، في سياق التساكن بين اليهود والعرب داخل إسرائيل حسب "بيلانج". يحكي الفيلم قصة أياد. شاب عربي يافع ومتفوق، من ضواحي "تيرا" في إسرائيل. يُقبَل في مدرسة داخلية يهودية في القدس، تخصص مقاعد قليلة للطلبة العرب المتفوقين، وهناك يتقوى لديه الشعور بالاغتراب. ينزعج. يتعرض للسخرية. يثابر في الدراسة ويطور صداقة من "يوناثان" (تلميذ يهودي ساخر مصاب مضمور عضلي)، ويدخل في علاقة حب مع "نعومي" زميلته اليهودية الأشكنازية. يبحث عن الذات. يشكل هوية جديدة، حقيقة ومجازا. تدفعه المعاناة من العنصرية إلى الاستيلاء على هوية صديقه المريض، ثم يأخذ هويته عند وفاته، بموافقة أم يوناثان، التي فقدت ابنها وكسبت ابنا آخر. من خلال هذه الحكاية، يرسم "عيران" حسب "بيلانج"، صورة نقدية للنظرة الاستعلائية، التي تحملها الأغلبية المهيمينة (الإسرائيلية) تجاه الأقلية المستضعفة (العرب). نرصد ذلك من التحققات التالية: – التخلي عن الاسم. منذ القدوم إلى المدرسة الداخلية، تمت مناداته من طرف الزملاء والمدرسين باسم "أييد" بدل "أياد". وبعد معاناة، ينتهي به الأمر إلى قبول التسمية الجديدة. – تحول اسم "أياد" من الإحالة على العربي وعلى "الرجل القوي" في بلده، إلى مجرد أوصاف بجمل اعتراضية "الذي يرجع" أو "الشخص الذي يزور مريضا". أي أن أياد قد أصبح بدون اسم يحدد هويته. إذن فهو نكرة. وهو موضوع للسخرية، والنكات المعادية للإسلام، والأحكام المسبقة، ومراقبة الهوية من طرف الأجهزة الأمنية. يلجأ "عيران" إلى التركيز على مظاهر التمييز ضد العرب باستحضار إحالات عديدة من تاريخ فلسطين، كما وردت عند "بيلانج": – روبورطاجات تلفزيونية حول الحرب الأهلية في لبنان، أو حول حرب الخليج، دروس التاريخ المتعلقة بالحرب الإسرائيلية-الفلسطينية الأولى، والتي تنبني على تقابل تبسيطي بين دولة إسرائيل الديموقراطية، المفتونة بالحرية؛ وبين العرب الأشرار الكليانيين والإرهابيين. – استحضار المرجعية الأدبية، متمثلة في رواية عاموس عوز "عزيزي ميخائيل"، حيث ترغب "حنة" الشخصية اليهودية في توأم عربي. في هذه الرواية يمثل زوج حنة العالم العقلاني والعلماني، واليهودي الأشكنازي المثالي، والعضو المنتج في مجتمع غربي؛ بينما يشكل العربي طابوها ممنوعا جنسيا وسياسيا. – في مقابل نجاح "أياد" في دفع صديقته اليهودية "نعومي" إلى الاعتراف بحبها علانية، في تحدٍّ لعائلاتها وأصدقائها؛ سيتخلى عن هويته الفلسطينية وينفتح على الهوية الإسرائيلية الغربية. – تم تصوير العديد من المشاهد داخل المدرسة، لإبراز دور المحتوى البيداغوجي، التاريخي والثقافي في إسرائيل، في تكريس شعور الغيرية تجاه المجموعة الأخرى. لقد تعلم أياد وهو طفل أنه يعيش في فلسطين، وأن إسرائيل مجرد خيال؛ ثم تعلم في المدرسة الداخلية أنه يعيش في إسرائيل، التي تحررت من الانتداب البريطاني؛ ثم أدرك وهو شاب كيف يشيطن كل طرف الطرف الآخر. في هذا المستوى تؤكد "بيلانج"، من خارج الفيلم، أن تحليل الأدوات البيداغوجية المستعملة في المدارس اليهودية والعربية في دولة إسرائيل، تبين الكيفية الي توظف بها الكتب المدرسية، سواء الإسرائيلية أو الفلسطينية، إلى شيطنة الآخر وإدانته وانتزاع شرعيته. في فيلم "ابني" يسعى "عيران" إلى التخلص من الخطاب الاستشراقي في الوسط المدرسي الإسرائيلي؛ غير أنه -حسب "بيلانج"- يكرس التمثل النمطي للعرب من خلال رسم بعض الشخصيات العربية: – معلم المدرسة الفلسطينية ذي المناهج المتخلفة والعنيفة؛ – أب "أياد"، "الإرهابي" السابق، والمتعاطف الوفي مع منظمة التحرير الفلسطينية؛ – جدة أياد، المسلمة المتدينة والمعجبة بصدام حسين؛ – أياد نفسه، السلبي والمتمرد، والجاهل بكيفية استعمال معدات المائدة، ويخترق قانون المدرسة الداخلية بإطلاق مطعم سري. بالتركيز على الشخصية الأساس، ووضعه أمام غرابته النفسية، وتدرجه من هوية إلى الهوية المقابلة تماما، وتحوله من الآخر المرفوض والمثير للسخرية، والذي لن يقبل في المجتمع الإسرائيلي إلا إذا تخلى عن ذاته وهويته. هكذا يضع فيلم "ابني" المتلقي الإسرائيلي أمام غرابته. أمام غريب يقصيه ويتماهى معه في الآن نفسه. يضعه أمام الآخر المتحول، وأمام أناه الغامضة وتمثلاته النمطية، ويضع الآخر العربي أمام اختيار وحيد، بالتخلي عن ذاته إن هو أراد الاندماج في الثقافة والمجتمع الإسرائيليين. بعد هذه القراءة المقتضبة لفيلمي "عيران ريكليس"، نخلص مع "بيلانج"، إلى التأكيد على أنهما ينتميان إلى السينما الإسرائيلية المعاصرة، والتي تعتبرها سينما بوليفونية، بعيدة عن المركز والصوت الوحيد، إذ تشمل زوايا نظر متقابلة ومتناقضة، للتعبير عن تاريخ الدولة اليهودية، أو تاريخ فلسطين. تستحضر الأنا والآخر، المحتل والخاضع للاحتلال. بهذا يسعى ريكليس إلى صناعة سينما "عالمية"، تعتمد على إنتاج السينما الفلسطينية وتاريخ الشرق الأوسط، وتتجذر في الواقع الاجتماعي المعاصر. غير أن هذا المشروع يصطدم بالنظرة الغربية المتعالية، وبالتمثلات النمطية الدونية، وما لها من تداعيات سياسية وثقافية في سياق النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. صحيح أننا أمام محاولة نقدية للخطاب الاستشراقي، ورغبة في التحرر من تقليد ثقافي راسخ، يستمد استمراريته من نظرة البدايات الأولى، حيث يتم التقابل العميق بين ذات مركزية غربية متحضرة، وبين آخر متخلف، عدواني، عاجز عن الفهم ورافض للتعايش. هذا الخطاب المهيمن يقف حائلا أمام أي محاولة لتجاوزه. بمعنى آخر، هل يمكن للمخرج أو الفنان أن يتجاوز هذه الثنائية الضدية؟ هل يستطيع بناء شخصية فلسطينية إيجابية، خالية من كل الشوائب والأحكام القيمية والأوصاف القيمية السلبية؟ أي، هل يمكن أن ينتج الفنان أو المثقف الإسرائيلي خطابا مضادا للخطاب السائد؟ هل يمكن أن يتخلى عن الصورة المتعالية للكيان والكائن الإسرائيلي؟ أعتقد أن المسألة تحتاج، فضلا عن الرغبة والوعي الثقافي وضرورة التغيير، إلى إرادة قوية وعمل مشترك عميق على المدى البعيد.